عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

وهيبة قوية - تونس

حلوى الذّاكرة


وهيبة قويةأنا ورمضان والعيد حكايةٌ حَلوَى، طعمها غارق في العسل والألوان وسكّرها عالق بلسان خيالي، وشراهةُ الذّكرى لم تُذِبْ حلاوة عسلها منذ ولّت الطّفولة وتركتُ عادة انتظار موعد الإفطار مع بنات الحيّ وبين أيدينا كنوزنا الحُلوة في” علبة رمضان” أو” قنديل رمضان" نغنّي لها ونتباهى بها وقد نتقاسمها أو نتبادل بعضها لمزيد من الألوان والحلاوة.

لم يعد العمر يسمح بإقامة مراسم علبة رمضان، فهي من عادات الصّغار في مدينتي الصّغيرة، وقد كبرت، ولم أجد من يعرفها في المدينة الّتي انتقلت إليها، لذلك لم أفكّر في نقل هذه العادة إلى أولادي وبقيت منذ أكثر من عقدين من الزّمن بعيدة عن طقوسها وحلواها وأغنيتها. بل حتّى الأطفال في مدينتي لم تعد تشغلهم هذه الطقوس الفريدة الحلوة.

ولكنّ ابتعادي عن العادات لم يمنعها من أن تشاغب صفحات حياتي من وقت لآخر فتطفو مثل نقش قديم على سطح ذاكرتي وتؤجّج تفاصيل حكاياتي الصّغيرة الّتي أكاد أنساها، وأجد في ذكرها الحلو في كلّ رمضان فرصة لإحيائها في ذاكرتي واقتناص لحظات من بريق الحنين المقدّس الّذي يقنعني غالبا بأنّ ما كان هو الأحلى، ويلقمني أنواعا من الحلوى تُذكي طعم الحكاية وتجعلها الألذّ والأشهى.

وحين ألحّت عليّ في رمضان الماضي صور العادات القديمة بحلاوتها وعطورها صارت كثير من تفاصيل الذّكريات الّتي أسلّي بها نفسي وأنا أعدّ الإفطار، حكايات حَلوى، أقصد حُلوة. وقد استثار خيالي كلّ طعم حلو في هذه السّنة المميّزة والاستثنائيّة والّتي حوّلت الحجر إلى صنوف من الحلاوى الشهيّة (أقصد الحجر بتسكين الجيم لا بفتحه، فقد سيطر على حياتي وعاداتي وحكاياتي وأعيادي منذ فرض حصاره عليّ فأثار شهيّتي وعلّمني ما لم أعلم من الصّنائع والفنون المطبخيّة).

فعلى امتداد شهر رمضان إلى آخر تكبيرة من تكبيرات العيد حدّثتني ذاكرتي بأحاديث الحلوى، وما أكثرها! ورتعتُ في مراعي عسلها مثل نحلة نشيطة، واستعدت رحيق حكايات بطعم الزّهر صارت تملأ رأسي وتثقله وتطوّح به سكّرا وسكْرا، حتّى خفت على صحّة صيامي من شدّة اشتهائي للحلوى وبُعْد يدي عنها وقلّة حيلتي لتوفيرها، فالأبواب مغلّقة بقوانين صارمة فرضتُها على نفسي وعلى عائلتي حتّى عندما خفّت إجراءات الحجر الصحّي. ففي بيتي، صار الخوف فارسا، وقد أوجب عليّ أن أختار ما يدخل إلى البيت من ضروريات للأكل، فلا يدخله إلاّ ما يمكن أن يخضع للمراقبة والتعقيم، ولم أستطع إعطاء الأمان للحلوى وشهوة سكَّرها فربّما تستدرجني إلى ما لا أحتمل من الوباء المتفشّي في العالم كلّه، من يدري! بل بلغ الأمر أنّي خفت من أن يختبئ "الكورونيّ" المستجَدّ في حلوى ذاكرتي ويصيّر حاضري مرّا.

*****

ترصّدتني علبة رمضان القديمة وحلواها. واحتلّت مساحة كبيرة في عقلي الباطن والظّاهر. إذ رفعت يد خفيّة غطاءها لتظهر كنوزها بإغراء طيلة النّهار. بل صارت، بشكلها الدائريّ، قمرا سكن سماء ذاكرتي لم يعرف الأفول، وظلّ يصوّر لي أنواعا من الحلوى وخاصّة منها حلوى الذّاكرة. وألحّ عليّ المذاق القديم أن أجرّب وصفة حلوى أغرمت بها في الصّغر. فجرّبتها. وصنعت بيديّ أنواعا مختلفة، ولكنّ مذاقها لم يكن كما في ذاكرتي. ولم تكن كما اشتهيت. ففتّشت في ثنايا التّفاصيل البعيدة والقريبة عمّا كنت أفعل بالضّبط لتكون حلوائي مميّزة المذاق وليظلّ طعمها يداعب شهيّتي كلّ هذه السّنوات الطّوال ويغريني كلّ هذا الإغراء في شهر العبادة والصّيام. غرقت في البحث عن سرّ لذّة حلواي المفقودة حتّى وصلني صوت الأولاد وهم يضحكون ويستخبرون:

= ما اسم هذا الشّيء الحلو؟

= شيء؟ هذا حلوى.

ولم أكد أذكر نوع حلواي الغريبة حتّى قفز إلى ذهني مع قطعة منها مقطع من لحن أغنية الطفولة الّتي كنت أروّج بها لحلوى الحلقوم أو ما يشبه "الشيء" الّذي بيد أولادي ويدي. هو لحن غريب مثل حلواي.

*****

كنت في طفولتي ماهرة في صنع حلوى الحلقوم، أصنعها غالبا وحدي وقد تدرّبت على تحديد مقاديرها واتّباع مراحلها الّتي تعلّمتها من زوجة عمّي. ثمّ بفضل حلواي صرت تاجرة، فكنت أبيعها في بطحاء الحيّ للأطفال من حيّي ومن الأحياء الأخرى وأنا أغنّي لبضاعتي الحلوة بأغنية اشتهرت بين الأطفال الّذين يشاركونني تجارتي. بل إنّنا غالبا نغنّيها معا مثل كورال مدرسيّ ملتزم، بصوت واحد، يعتريه من حين إلى آخر نشاز يجرحه، ولكن ينتشر في كلّ أنحاء الحيّ ويمتدّ إلى بطحاء أجوارنا. الكلّ يبيع، والكلّ يشري، والكلّ يتذوّق، والكلّ ينقد المذاق، والقليل من ينقد المال أو يقايض بحبّة من البطاطا فيكون نصيبه من الحلوى بقدر حجم البطاطا ووزنها، ثمّ نقايض بها الآخرين لمزيد من الحلوى الكثيرة الألوان والمختلفة الطعم. ولم تكن تجارتي خاسرة. فقد كنت أستمتع بالحلوى والغناء والرّفقة في بطحائنا السّوق كما تعلّمت محاكاة التّجّار ومعاملات التّجارة وعرفت أنّ للأغنيات الإشهاريّة دورا في ترويج البضائع جدّا وهزلا وحلوا وبسيطا وغريبا ونافعا وغير ذلك. كما تعلّمت كيف أربح بعض الملّيمات فأعوّض بها ما أنفقته لشراء مكوّنات الحلوى وأوفّر لي منها مبلغا ينفع لشراء شيء من حلوى علبة رمضان.

دندنت مقطع الأغنية وفكّرت، ثمّ قدّرت أنّ الأغنية هي الّتي تعطي للحلوى مذاقها الخاصّ الّذي في ذاكرتي. ولبستني صورتي الطفلة وأنا أقطع الشكّ باليقين. فها هي يدي تحرّك ما في الإناء على النّار وصوتي المفرد المتحمّس، في نشاز، يروّض الصّورة الّتي اجتاحتني. وبدأت الكلمات تظهر أمامي، فغنّيت ما تذكّرت من الأغنية القديمة:

= حَلْوِةْ حَلْقُومْ، مَا تِتْبَاعْ لاَكَانْ اليُومْ

= إِيجَا لِنّا، ذُوق البِنَّة، ومْحَمِّصْنَا مْشَاتْ لْحِنَّة

هذا كلّ ما تذكّرت من كلمات الأغنية الّتي لم أفهمها وأنا طفلة، وما زلت لا أفهمها، ولا أفهم كيف استطاعت أن تُشهر البضائع الحُلوة الملوّنة في الأطباق بين يدي الأطفال. إنّه عالم غريب بمذاق معتّق غارق في الحنين والبهاء الطفوليّ. كيف استطاع أن يعود ويكشف أسرار نكهته!

*****

تفنّنت في صنع الحلوى وأنا أغنّي، وقد بعثت الأغنية النشاط في يدي، ويدي حرّكت الخليط بنكهة زهر النارنج واللّون الورديّ الخجول، وحركة يدي تناغمت مع إيقاع الأغنية، والأغنية تعثّرت كلماتها في ذاكرتي وفي صوتي، والكلمات توالت ارتجالا فأضفتها إلى الأغنية، والارتجال أمسك بحدود الوقت حتّى تماسك الخليط. فسكبته في القالب. وتمتمت في سرّي:

= اللهمّ إنّي صائمة.

الوقت إلى الإفطار كان كافيا لتبرد حلواي وتتشكّل في قالبها المناسب، فجعلتها قطعا مكعّبة وصففتها في طبق وانتظرت الأذان بلهفة. ولم يتأخّر. وجاء شهيّا وأذِن لي بتذوّق الحلوى مع قهوتي بعد الإفطار. فتذوّقتها وتلذّذت، ثمّ أكلت حتّى اكتفيتُ. وكادت يدي تمتدّ إلى نصيب الأولاد، بل امتدّت. لقد تذوّقت لذّتها القديمة. ولم يعد في الأمر شكّ بأنّ الفضل في هذه اللّذّة يعود إلى مقطع الأغنية وطلاسم كلماتها الّتي لها سحرها على مذاق حلواي.

استعدت مهارتي في صنع حلوى الحلقوم على طريقة الطفلة الّتي كُنتُها، وفكّرت أن أبيعها لأولادي ليتمتّعوا بمذاقها معي. وأقصد طريقة البيع الطفوليّة الّتي تعتمد على مبدأ: "ذوّقني أذوّقك" ومقايضة الحلوى بغسل الصّحون مثلا. فأوفّر فرصة لحلاوة الرّاحة وأنا ألاعب أولادي وأسترجع ابتسامة قديمة.

غنّيت لهم وقدّمت الحلوى فالتهموها ولم يعلّقوا على طعمها، ونقدوني ثمنها قبلات حاولت تفاديها. فالتقبيل ممنوع بحسب الإجراءات الوقائيّة العالميّة من الفيروس الكورونيّ، ولكنّهم اختلسوها منّي اختلاسا، وكسروا القوانين الصّارمة للبيت والوضع العامّ، وبها تفادوا الوقوع في شرك غسل الصّحون. ضحكنا كثيرا. وسألني الأولاد عن معنى كلمات الأغنية وعن بقيّة مقاطعها، ففسّرت الكلمات القليلة الّتي تذكّرتها، ووعدتهم بأن أحاول إتمام كلماتها حين يُرفع الحجر ونزور العائلة والأصدقاء في مدينتي، فعندهم النّبأ اليقين. أمّا أنا فقد نسيت الكثير من العادات مع الأغنية ولم يختبئ منها في رأسي إلاّ القليل الّذي أقتات من حضور ذكراه أحيانا فيكفيني ويسعدني. وكفاني ما غنمت من ذكرى الحلوى.

*****

وفي ليلة النّصف من رمضان التزمت ككلّ سنة بطقوس أطباق المناسبة. غير أنّ تدخّلي في العادات أفسد نكهة طعامنا المميّز. وأقرّ بأنّ الآكلين، لولا صيامهم وحاجتهم إلى الأكل ما كانوا ليمدّوا أيديهم إلى الطّبق. واعتبرت تذوّقهم للأكلة تضحية كبرى، لذلك ملت إلى مكافأتهم على تضحيتهم بصنع حلوى خاصّة للسّهرة، وأنا ألوم "قنديل رمضان" القديم الّذي أضاء ذاكرتي، وألحّ عليّ بحلواه وأغراني بأن أعدّل نكهة الطّبق الرّئيسيّ، فجمعت في مكوّناته المالح بالحلو، وأضفت الزبيب والتمر والمكسّرات إلى المكوّنات المالحة متّبعة تقليدا قديما حاولت الابتعاد عنه في رمضان لأنّني غير متمرّسة بتعديل مزيج الملح والسكر.

ووقعت تحت تأثير علبة رمضان ومحتوياتها الّتي في ذاكرتي فقد زيّنت لي عادات رمضان مجتمعة بعادات شهر مايو العجمي، أو مايو روزنامة الفلاحة عند أسلافنا، وذكّرتني بها وبما لها من مكانة في تقاليد أجدادي، وأغرتني بإقامة المراسم أسوة بهم وترحّما عليهم. ولا عيب في ذلك، فالطّبق معروف وليس مستنبطا. ولا عيب أنّني خاطرت بالتّجربة في رمضان وقرّرت أن يكون "البرزقان" سيّد المناسبة، وجعلته يتأقلم مع عادات بيتي ويشبه "مثرد" الأعراس، ويليق باللّيلة المباركة. ولا عيب في أنّ ما أراه مناسبا يصلح لكلّ مناسبة مميّزة، دون استشارة الآكلين. ولا عيب إن أضفت لمساتٍ مناسِبة لتزيين "المثرد" الّذي في ذاكرتي كما في الأعراس قديما. فهذه فرصتي لتجربة شهيّة تأتيني من بعيد. خاصّة أنّه لم يعد أحد يهتمّ بمثرد الأعراس كما كنت أراه في طفولتي حين كنت أخجل من مدّ يدي إلى طعام في غير بيتنا، ولم أتذوّق في حياتي من "مثارد" الأعراس الّتي تزيّنها الحلوى والبيض ويختلط فيها المالح بالحلو وتتناسق فيها المذاقات والألوان في زخرف مهرجانيّ تشبع منه العين قبل البطن.

ولكن، ما بين صور الذّاكرة والنتيجة الحاصلة تفاصيل غير متناسقة، وما ناسب شهوتي لم يناسب شهوة آل بيتي، فلم تستسغ أذواق الآكلين طعم الحلو المضاف إلى مثرد ليلة النّصف من رمضان وقد وجدوا أصنافا أخرى من الطعام كادت تغنيهم عنه. وما أزعجني هو سكوتهم عن مدح طعامي في "ليلة موسم" مميّزة مقدّسة. ولذلك ألزمت نفسي بتعويض الخسارة بالحلوى.

تساءلت كثيرا عن نوع الحلوى الّتي أعوّض بها للأولاد فأسمع مدحهم لعمل يديّ. فشاورتهم حول أنواع عديدة يمكنني أن أحضرها لهم، ولكنّهم لم يفيدوني برأي حاسم. واعتذروا بسبب امتلاء بطونهم. وأعفوني لأرتاح. فألححت. وحتّى لا يصيبني الإحباط رويت لهم حكاية حلوى علبة رمضان، فالحكاية حلوة. سمعوها على مضض وهم منشغلون عنّي وعن حكايتي بألعابهم على هواتفهم وقالوا لي بصوت واحد حين أنهيت:

= نفس الحكاية نسمعها في كلّ رمضان منذ عرفنا طعم الحلوى. ارتاحي أمّي! طعامك لذيذ وأكلنا ما يكفي منه حين كنت تعدّدين نقائص وجدتها فيه ولم ننتبه إليها لانشغالنا بالأكل وانشغالك بالكلام. أنت من لم يستلذّ مزيج الحلو والمالح. وأضافوا وهم يضحكون:

= رضاك. قبلنا العوض فهاتي حلواك. ونريدها حلوى حلوة لا مالحة.

*****

تتوالى العادات في شهر رمضان وأنا لا أفوّت فرصة منها لإحياء التقاليد الّتي أتخيّر منها بحسب استطاعتي الماديّة والنفسيّة فأنتخب منها ما يلائمني، فالمهمّ هو أن يكون لي احتفال في كلّ مناسبة أعرفها، فكيف إذا كانت المناسبة ليلة السّابع والعشرين، فهي ليلة القدر والاحتفال بها من الالتزامات الّتي أحبّها. والطّبق الرّئيسيّ ليلتها معروف وسهل، يوفّر الوقت للذّكر والشكر والحمد والعبادة.

وفي هذه اللّيلة يقترن الذّكر بالاستعداد للعيد بصنع الحلويات المختلفة. ولكنّي قرّرت هذه السّنة أن أكتفي مع الأولاد ببعض الحلويّات السريعة غير المكلفة، اقتصادا في الجهد والمال واحتراما للحجر الصحّيّ، ولن أغامر بالخروج لشراء ما يلزم لصنع الحلويات أو أخذ الصّواني إلى الفرن. كما أنّه لن يزورني المعيّدون ولن أزور أحدا، ويمكن تأجيل أكل الحلوى إلى حين يمكنني الخروج والمشي والجري لأحافظ على لياقتي البدنيّة. الفكرة باركها الأولاد وأراحت بدني وعظامي ويسّرت عليّ في ليلة العبادة والذّكر الاعتكاف بين يدي الله وغنمت الفرصة من النّهار قبل اللّيل.

ولكن اختلط الذّكر بالذّكرى، وبالطّبخ والأكل والحلوى، فما أن أضفت مقدارا من الحمّص إلى خلطة الأكلة حتّى غرقت في ذكريات الحمّص المحمّص الّذي يَسِمُ تقاليدنا في اللّيلة المباركة. وصرت أراني أمّي ويداها يداي، أفعل ما تفعله بعناية وحرص على الإتقان لأجل فرحة الأبناء.

كانت أمّي تجتهد في تقليب الحمّص في إناء الفخّار على النّار، فإذا ما نضجت الحبّات وفاحت رائحتها فركتها بين يديها بزيت الزيتون، فتصير صفراء فاقع لونها تسرّ النّاظرين وتغري الآكلين، ويزيد من إغراءات الحمّص، المكسّرات والحلوى والزّبيب الّذي تخلطه به لتحصل على تشكيلة ملوّنة لذيذة تأخذ اسم "الفاكية". ملأت يديّ بحفنة منها وأنا أراقب تناسب كميّات المكسّرات والحلوى والزّبيب إلى الحمّص وناديت أبنائي أريهم غنيمتي من فائض الوقت والشّهوات في الحجر الصحّيّ.

*****

وكما في كلّ المناسبات المباركة يكون نصيب الأطفال محفوظا ويكونون أوّل المتذوّقين وفق طقوس لم تتغيّر منذ عرفتها. فترى الصّغار قد تجمهروا حول أمّهاتهم وهم يعدّدون ألوان الحلوى وأنواعها وأسماءها، ويتراهنون حول لون الحلوى الّتي ستكون من نصيبهم مع الحمّص وما زيّنه، ويظلّون في أخذ وردّ حتّى تصل إليهم حفنة "الفاكية"، كلّ حفنة تُصَرّ في كيس من القماش تخيطه أياد ماهرة للمناسبة. وتمتدّ إليّ يد أمّي بنصيبي، كما لكلّ الصّغار في البيت، وتحتلّ حفنة "الفاكية" الكيس الصغير الّذي خاطت قماشه بيديها، ثمّ تعلّقه في رقبتي. فأخرج إلى الشارع وألاقي الأطفال من أترابي في بطحاء الحيّ وقد تعلّق في رقبة كلّ واحد منهم "شكارة فاكية" قماشيّة تشبه الّتي التفّ خيطها حول رقبتي. وكم يتشابه الأطفال في مثل هذه المناسبات!

تختلف الأكياس في ألوانها وأحجامها ولكنّها، تحفظ "فاكيتنا"، ومثل كلّ الأشياء الّتي تحفظ كنوزنا، نتعلّق بها ونوليها اهتمامنا، وقد كنت أحرص على غنيمتي كلّ الحرص، فأتثبّت، كلّما تحرّكت، من ثبات الخيط حول عنقي واستقرار الصُّرّةِ على صدري. بل قد أجمّد حتّى أنفاسي لبعض الوقت إذا تقلقلت الشّكارة في موضعها حتّى أضمن أنّها لن تتأثّر بالحركة فتترك رقبتي وصدري وينفرط ما التأم داخلها من حبّات حمّص وما تبعها.

كان الكيس يشبه صرّة النّقود الّتي تخبّئ فيها الجدّات نصيبا من المال ويفتحنها في صباح العيد لمنح الأحفاد "المهبة" فيسعدون وتزيد من محبّتهم للجدّات ورمضان والعيد. وأعتقد أنّ أكياس جدّاتنا كانت للفاكية قبل أن تصير للنّقود. فنحن الأطفال، نحوّل أكياس الحمّص صباح العيد إلى صرر يجمع فيها كلّ واحد منّا هبات الجدّات والأقارب بعد أن نتلذّذ بما كان فيها من الخيرات الحلوة.

*****

تعوّدت أن أعدّ ما في الكيس لأعرف مقدار كنزي، كذا عدد حبّات الحمّص، وكذا عدد حبّات اللّوز والجوز والبندق والفستق... وكذا عدد قطع الحلوى المختلفة. وكنت أحفظ الأعداد وأسجّلها في رأسي، وأحرص على الحفاظ عليها كما هي، وأرفض عروض التذوّق والمقايضة، وأصرّ على العودة إلى البيت عند الإفطار ومعي كلّ ما في الكيس لا ينقص منه ولا حبّة حمص واحدة. بل أظلّ أحافظ على كنزي إلى صباح العيد، فلا ألمس ما فيه إلاّ للعدّ والتأكّد من عدم نقصان ذخيرتي، واعتبرت دائما أنّ ذلك دليل الإخلاص في صيامي وأنّني اجتزت امتحان القدر ولا بدّ أن يفتح الله في وجهي يوما ما باب العرش.

ولم تكن تهمّني أطباق الحلويّات الّتي أشارك الكبار بحمل أصغرها إلى الفرن القريب وأعود بها لتحفظ أمّي حلواها ليوم العيد. لم أكن أعدّ قطع الحلويّات في الأطباق، فأمرها موكول إلى الكبار. وإن نقص العدد أو زاد لا يمكن أن يثبت أنّني صائمة. ولكن عدد حبّات الحمّص وما تبعه داخل الكيس دليل قاطع أنّني لا آكل خلال النّهار وأحافظ على صيامي، وأنّني في الطّريق القويمة فأعدّ أيّام صومي كاملة لا ملفّقة مثل أطفال حيّنا.

*****

بدأت الصّوم قبل دخول المدرسة، وأحببت إحساسي بالجوع والعطش، وأحببت أكثر قدرتي على احتمالهما. صحيح أنّني كنت أتعب ولكن كان هنالك شيء ما يدفعني لأنتظر أذان المغرب وأنا أظهر قدرتي على الصّيام. وقد أثنى عليّ جدّي كثيرا حين أخبرته بأنّني أصوم. قال لي بأنّ الأطفال يمكن أن يفطروا فهم غير مكلّفين بالصيام، فهم عصافير الجنّة ويعفيهم الله ويؤجّل صيامهم إلى عمر محدّد. كما أخبرني أنّه بإمكاني أن أصوم كلّ يوم نصف نهار أختاره من الصباح إلى الظّهر أو من الظّهر إلى المغرب ثمّ أخيط النصفين وأعدّه يوما كاملا.

لم أسأل جدّي كما لم أسأل أحدا غيره كيف أخيط النّصفين، لذلك اخترت صيام كامل اليوم وخجلت أن أفطر إلاّ في بعض الأيّام الّتي قالت عنها أمّي إنّها فاقدة لشرط العبادة لأنّني نمت ولم أفق لأتسحّر وأنوي الصيام. وكانت غالبا من حيل أمّي حتّى لا يتعبني الصّوم.

غريب أمر الكبار! كيف يستطيعون حفظ كلّ هذه الحكايات الخاصّة بالصّوم؟ وكيف يعرفون من يجب أن يصوم ومن يمكنه ألا يصوم؟ وكيف يعرفون شروط الصوم؟ وكيف حفظوا عادات رمضان وما يعدّونه في أيّامه للاحتفال؟ وكيف يخيطون للأطفال أنصاف نهارات لتصير أيّاما كاملة؟ ليتني أعرف!

أنا لم أشاهد يوما أحد الأطفال يخيط نصفين من أنصاف أيّام صومه، ولا رأيت الكبار يفعلون أو يساعدون الصغار حين يعدونهم بذلك. كم تمنّيت معرفة أدوات الخياطة وكيف يكون اليوم بنصفين مجموعين إلى بعضهما بالخيط! تمنّيت كثيرا ولكن لم أسأل ولم أتطفّل على أحد واكتفيت بمراقبة صومي والابتعاد عن المفطرات حتّى كدت أن ألتزم بعدم الكلام إلى الأطفال حتّى لا يُفسد الكلام صيامي، نعم! ربّما الكلام في شؤون الآخرين مفطر، فقد سمعت جارتنا العجوز تقول بأنّ شمّ الورد في نهار رمضان مفطر، وعليه قست أشياء كثيرة ومنها الكلام إلى الأطفال عن خياطة الأنصاف وكيف تتمّ الخياطة. وبقي الأمر سرّ نفسي لنفسي وتمنّيت ألا تفسد الأسرار الصّغيرة الصّيام.

في سنّ السابعة صمّمت على صوم كامل رمضان ونجحت تقريبا، ومن وقتها صار رمضان صديقي أنتظره وأحفظ شروطه وأيّامه المميّزة. وصار لديّ طقوسي الخاصّة أمارسها مع أبناء الحيّ ونحن ننتظر أذان المغرب. وتعلّمت المزيد معهم عن رمضان. أنا أحبّ رمضان، والحبّ لا يفطر. ولأنّني أحبّ هذا الشّهر المبارك أزيّن علبتي الرّمضانيّة إجلالا له وانتظارا لفضل ليلة القدر. فالعلبة قنديلي المقدّس الّذي يسرج قناديل الإيمان بصدري.

*****

علبة رمضان أو "قنديل رمضان" طقس مميّز جدّا في عاداتنا الصّغيرة القديمة. وهي خاصّة الأطفال وملكهم اللّذيذ الّذي يتصرّفون فيه بأنفسهم، فيمنحون من العلبة المغلقة للأصدقاء منحا صغيرة ومنها يقدّمون بعض الهبات للكبار إذا أرادوا، وغالبا لا يأخذ منها الكبار شيئا وإنّما يكتفون بالاطّلاع على ما بداخلها وجودته وطريقة تزيينها فيزيدون على خيراتها أو يعطون بعض النّقود لشراء بعض الحلوى تنضاف إلى علبة الكنز الحلو.

*****

أثناء الاستعداد للشّهر الكريم ينشغل الكبار بشواغله الاقتصاديّة والدينيّة والاجتماعيّة وسهراته وكلّ تحضيراته ويدعون الأطفال لمشاركتهم في ذلك فيكونون خير عون لقضاء بعض شؤونهم البسيطة والبعيدة فيؤجرون على ذلك ببعض النّقود أو الحلوى أو الهِبات المتنوّعة. كما ينشغل الأطفال في استعداداتهم بتوفير علبة بحجم مناسب لميزانياتهم وحلواهم، وتكون العلبة عادة من علب "الحلوى الشامية" أو بعض علب الحلوى الفاخرة الّتي يهديها المهاجرون إلى فرنسا حين يعودون إلى عائلاتهم. تحفظها الجدّات والأمّهات والعمّات والخالات والجارات يهدينها لأطفال العائلة بمناسبة رمضان. ولا أدري إن كانت الهديّة تحفيزا للصيّام أو المساعدة أو صرفا لهم من المطبخ ودوائر انشغال الأمّهات بإعداد الإفطار. بل أظنّها كانت لكلّ هذه الغايات مجتمعة إضافة إلى البعد التعليميّ الموجّه لتعلّم التّعامل الاجتماعيّ والاقتصاديّ والأخلاقيّ فضلا عن الدّينيّ الرّوحيّ. كيف لأمّهاتنا الكثيرات في الحيّ وفي العائلة أن يكون لهنّ كلّ هذا الحسّ التربويّ الأصيل ويغيب عنّا اليوم في زحمة حياتنا العصريّة؟! يبدو أنّ التربية عندهنّ كانت مجموعة من الحيل اللّذيذة الّتي استقامت بها تربية جيلنا وجعلت الكثيرين منّا في حنين دائم إلى استعادة أيّامها الحلوة ولو بالذّكرى والذّكر.

*****

كنّا ننظّف علبنا الفارغة ونستعدّ بالحديث عمّا يمكن أن يملأها وتصير لعبتنا المفضّلة أسئلة عن رمضان وكيف استعدّت له كلّ عائلة في حيّنا، وكم يوما سنصوم، ومن سيدخل حلقة التحدّي بصيام يوم كامل، ومن سنساعد من كبار الحيّ، ومن سيحمل صواني الخبز إلى الفرن، ومن ستساعد أمّها في المطبخ قبل الاجتماع في حلقة قنديل رمضان. كما نراجع أغنية القنديل ونكنس المكان المخصّص لاجتماعنا. ولا أدري كيف تصبح عُلبنا الفارغة، قبل مغرب أوّل يوم صيام، وقد امتلأت بأنواع وألوان من الحلويّات والمكسّرات والتّمر والثّمر المجفّف. بل كنّا نعلم أنّها التّقدير المناسب من الكبار لجهدنا وهباتهم الّتي تحفّزنا على تأسيس مجتمعنا الصّغير بكلّ حبّ وسعادة. وليس على الأطفال إلاّ أن يبذلوا الجهد ليكونوا مؤدّبين ولا يرفضون أيّ خدمة للكبار فينالون من كرم عطفهم ويصيبون من كرم أيديهم حتّى تفيض الخيرات من "علبة سيدي رمضان".

*****

كلّ يوم بعد العصر، وبعد انتهاء أشغالنا مع كبار العائلة والحيّ، كنّا نجتمع، نحن الأطفال، في أحد أطراف بطحاء الحيّ على الرّبوة قرب المقبرة، نحتمي بجدران بيوت الجيران القريبة منها، في جهة مقابلة تماما للجامع العتيق المرتفع بصومعته البيضاء وعيونه الكثيرة الّتي تطلّ على كلّ المكان. ثمّ علمت أنّها تطلّ على كلّ الأطفال في كلّ الأحياء القريبة من المدينة العتيقة وحتّى البعيدة عنها، وتشرف أيضا على أبواب المدينة كلّها. ويبدو أنّنا كنّا أقرب الأطفال إليها بعد أطفال حيّ الجامع. إذ كنّا على مسافة ثلاث سطوح من الجامع، ولو صعدنا إلى سطح الجيران لقفزنا مباشرة إلى من يجلسون مستندين إلى الجدار المقابل للجامع.

كنّا نجلس ونشجّع بعضنا على الصّيام ونتباهى بعلبنا وما فيها. وكنت أفعل ما يفعله الجميع فأتباهى أمامهم بعلبة الصّيام وحلواها المتنوّعة. وننسى كلّ ذلك سريعا ونجلس في مكاننا المخصّص في بطحاء الحيّ والعلب في حجورنا نفتحها من حين لآخر لنطمئنّ على كنوزنا الحلوة داخلها ونعيد تنسيق ما فيها بحسب شهواتنا الّتي قد تنقص من محتواها أو تزيده وأصوتنا تتشارك في أداء أغنية انتظار موعد الإفطار. وكانت البنات في الحيّ أكثر دربة عليها وأصبر من الأولاد الّذين سريعا ما يفسدون الأغنية أو ينسحبون بعد إفراغ علبهم في بطونهم آملين في تلفيق صيام نصف يومهم بنصف آخر. ويتركون في حناجرنا المؤمنة بأنّنا نشعل قناديل الصّومعة بأغنيتنا الجميلة:

= "شعّلوا القنديل جا رمضان فضيل

سعدكم يا صايمين ع العصيدة والبازين

سعدكم يا فاطرين ع الكسور المخناسين"

نصرخ بها في البطحاء ونحن نطوّح برؤوسنا مثل الدّراويش، فترتفع أصواتنا إلى السّماء ثمّ تنزل في اتّجاه الجامع لتشعل قناديل الصّومعة فتمتلئ نورا بصوت المؤذّن ويتحوّل صياحنا بالأغنية إلى صراخ أعلى: "آآآآآذّن" نملأ به الحيّ ونطيل ما شئنا من همزته لتصل قبلنا إلى كلّ البيوت ونحن نجري إلى موائد الإفطار نحضن عُلبنا ونعلن موعد الحلوى.

أذكر أنّني كنت أكثر من تفسد الأغنية بصوتها المتعثّر لأنّني رغم مشاركتي في الغناء لمرّات كثيرة لا أحفظ من الكلمات إلاّ المطلع ثمّ أتابع اللّحن بدندنة في نشاز واضح، وكيف أغنّي ما لا أفهم؟ وكيف أصرخ مثلهم ملء حنجرتي وصوتي قد أتعبه الصّيام وجفّ من العطش؟ لذلك تركت الاحتفالات الجماعيّة في البطحاء وصرت أحتفل بقنديلي وحدي في البيت وأنا أتابع قراءة بَابَا للقرآن من مصحفه القديم الّذي ورثه عن أبيه عن جدّه، فأسمعه وأنا مثل "درويشة" في حضرة الأولياء الصّالحين أعيد بيني وبين نفسي ما أسمعه من تلاوة بَابَا ورأسي يتحرّك بلا إرادة منتشيا بحروف لا أفهمها ولكنّني أحسّها بقلبي ولا تسبّب لي العطش في يوم الصّيام.

حرصت على عادة "علبة سيدي رمضان" وأنا طفلة، وحرص عليها أطفال الحيّ قبل أن ترتفع البنايات لتغطّي صومعة الجامع العتيق فلم يعد للعادة معنى، إذ احتجب شرط من شروط تمام طقوس رمضان الطفوليّة وهي رؤية قناديل الصّومعة. ثمّ لم يعد للحلوى من معنى إذ كبرت الطفولة فينا وتغيّرت طقوس الحلوى، فطالت قاماتنا ولم تعد عيوننا الصّغيرة تتطلّع إلى رمز الصّيام وانطفأ نور قناديلنا الحلوة وقد كان يطوف بمنارة القرآن والأذان ووجدنا البديل في ألوان التلفاز وأناشيد المنشدين وقصائد المدائح والأذكار من فرق المتصوّفين وترتيل كبار القرّاء فاكتفينا، ولذنا بالبيوت نعين أمّهاتنا ونرجّع بأصواتنا مع المسبّحين وننال فضل رمضان بلا علبة رمضان وحلواها.

كبرت وظلّت علبة الحلوى معي، هي أيضا كبرت، وصارت علبة خياطة تحوي ما أحتاج إليه من خيوط ملوّنة وإبر وحامي الأصبع الّذي أهدتنيه جدّتي حين بدأت أتعلّم استعمال الإبرة وأرتق فتوق الثياب. وأخيط عرائس قماشية احتلّت بدورها رفّا من رفوف ذاكرتي وصارت عرائس حلوى.

= = =

مقتطف من رواية قادمة عنوانها "أنا بخير".

D 1 آذار (مارس) 2021     A وهيبة قويّة     C 1 تعليقات

1 مشاركة منتدى

  • أطيب التحيات وأرقاها ا للسيدة وهيبة ڨوية. حكاية جميلة اخذتني معها الى الماضي. ماضي لطالما تحسرت عليه وشعرت بالحنين له. صامتة أنا وهذه هي بليتي معي الحق أو علي فقد غلبت أمام سحر وابداعك في الكتابة، أمام مواجهة كلماتي العالقة في حنجرتي للتعبير. دمت مبدعتا راقية بفن الكتابة.


في العدد نفسه

كلمة العدد الفصلي 20: عود الند تكمل عامها الخامس عشر

طموح الحرية وفطرية الضمير الأخلاقي

أبو العبّاس المبرّد وكتابه "الكامل في اللغة والأدب"

بين الشعر والموسيقى العربيين

المعبودات المحلية في المغرب خلال الحقبة الرومانية