وهيبة قويّة - تونس
غمّيضة
كان أمر اختفائي سهلا في فترة الطّفولة، كان شديد الشّبه بلعبة الغمّيضة الّتي وضعتُ قواعدها الخاصّة بي. أدير وجهي إلى الحائط وأغمض عينيّ فلا أرى أيّ أحد من الأطفال الّذين يلعبون معي، ويحلو لي ذلك. أتعمّد أن أعطيهم مهلة طويلة ليختبئوا، فأعدّ إلى المئة، عدّا بطيئا، أعدّ كلّ الأعداد الّتي تأخذني إلى عالمها، وتدور حولي وأدور معها وأنا أغمغم:
= واحد، اثنان، ثلاثة... خمسون، وواحد... وخمسة...
وأنسى أمر اللّعبة.
كنت أحبّ عالم العدّ فابتكرت لنفسي ألعابا مع الأعداد والأرقام ووجهي إلى الحائط وعيناي مغمضتان، كنت أتصوّرها دُمى بأشكال مختلفة، أكلّمها وتكلّمني وتأخذ بيدي إلى البعيد حيث لا أرى أحدا فأنتقل إلى حلمي الخاصّ وألعابي الخاصّة.
أدور مع الأعداد والأرقام، وأعانق كلّ عدد وأصفّه وراء العدد الّذي قبله في نظام، فالأعداد لا تعرف الفوضى. ويطيب لي أن أراقصها في دورانها، وإن توقّفت أجري معها، أو أطير مع أعداد منها وقد منحتني أجنحة، أو أصعد معها سلّما إلى السّماء، وأختفي.
يملّ الأطفال من اختبائهم، وحين يظهر أوّلهم أعلن خسارتي، إذ أبدو لهم كأنّني بحثت عنهم ولم أجدهم، وأقنعهم بأنّهم أحسنوا اختيار مكان اختبائهم. فيفرحون لفوزهم. وبعد أن تثبت خسارتي لديهم، أقترح أن يلتفتوا جميعا إلى الحائط لأختبئ ثمّ يشتركون كلّهم للبحث عنّي. يوافقون. ويمنحونني مهلة إلى العشرين. فأجري سريعا، وعند العدد تسعة أكون قد تسلّقت شبّاك الجيران، وهذا ليس في قانون اللّعبة، وأصعد إلى السّطح وأطلّ عليهم من فوق.
وعندما أطمئنّ إلى أنّهم يبحثون عنّي في مجالهم المتاح تحت، أنتقل من سطح إلى آخر حتّى ينتهي ترابط أسطح الجيران وأصل إلى سطح منخفض أنزل منه إلى جانب آخر من الحيّ، وتحديدا عند المقبرة، بعيدا عن ساحة اللّعب. لا أحد منهم يجدني. فأنا لا أعود إليهم. يتفرّقون بعد طول انتظار ثمّ ينسون أمري، فالأطفال سريعا ما يصيبهم النّسيان ولا يحبّون الانتظار لذلك يغيّرون اللّعبة أو يواصلونها وحدهم بقواعدها المتعارف عليها لدى جميع الأطفال. وأعاود اللّعب معهم في مناسبات أخرى وبنفس الحيلة فلا يغضبون.
كنتُ أحبّ اللّعب مع أطفال الحيّ ولكنّي لم أتّخذ منهم أصدقاء، إلاّ صديقة واحدة، ولعبة الغمّيضة لا تحلو معها. لذلك كنت ألعبها مع رفاق الحيّ وعلى طريقتي. فهي تتيح فرصا للاختفاء تُسعد الطّفلة الّتي كُنْتُها. كما تُسعد الأطفال الّذين ألعب معهم، إذ تروق لهم خسارتي ولعبي الأخرق. فوَسَموني بالفاشلة في اللّعب. كم أرضيت غرورهم بمنحة التّفوّق الموهوم!
= = =
كثرت هواجس الغميضة والاختفاء وأنا طفلة. فقد اختبأت مرّة تحت سرير أمّي منذ الصّباح. دخلت غرفتها في غفلة منها وبقيت ساعات طويلة. كنت أسمع الأصوات من بعيد وأنتظر أن تتذكّرني أمّي أو إحدى أخواتي أو صديقتي الوحيدة بنت الجيران. لم أسمع اسمي ولم يتذكّرني أحد.
كنت في مخبئي أراقب الأقدام الّتي تدخل إلى الغرفة لأسباب مختلفة ثمّ تخرج، وعرفت قدميْ أمّي الجميلتين البيضاوين الهادئتين هدوء صلاتها وسجودها.
وراقبت قدميْ أختي الوسطى الصّغيرتين وقد بدتا كأنّهما لا تكبران معها، وكانتا تتحرّكان بسرعة وفوضى، مثل فوضى أغنيتها الّتي كانت تدندنها حين دخلت ورافقها صرير باب الخزانة الّذي فتحته وأغلقته.
وعرفتُ قدمي أخي الكبيرتين بأظفار كقطع من الخشب لكثرة مشيه حافيا، وكانتا تنتقلان بعصبيّة، وأحيانا تقفزان، ثمّ سمعت صوته يسأل عن شيء وضعه فوق الخزانة ولم يجده.
لا أحد من الدّاخلين انتبه إلى وجودي في مخبئي. ولكن كان عليّ تفادي عقوبة والدي إن علم بغيابي عن البيت، فخرجت من مخبئي تحت السّرير قبيل وصوله عند المغرب، كأنّ شيئا لم يكن. وتسلّلت من الغرفة خلسة كما دخلت وانتظرت أيّ سؤال عن المكان الّذي كنت فيه طيلة النّهار ولكن لم يسألني أحد. فراقت لي فكرة الاختفاء أكثر، وصرت أتسلّى في مخبئي بمتابعة الأقدام الّتي تدخل الغرفة ولا أدري ما يفعله أصحابها تحديدا، ولكنّها كانت تنتقل في اتّجاهات مختلفة أو تقف، وغالبا يكون وقوف أصحاب الأقدام وهم يولونني ظهورهم الّتي لا أراها. ولا أرى رؤوسهم. بل أرى أقداما حافية مختلفة الأحجام والألوان، وأسعدني أنّني صرت أعرف أصحابها.
كان يمكن بعد مرّات اختبأت فيها تحت السّرير أن يختبروني لمعرفة أفراد العائلة من أقدامهم وطريقة تحرّكها. كم جميل أن تحمل الأقدام الملامح كما الوجوه، بل ربّما كانت أشكال الأقدام وحركتها أفضل من ملامح كلّ فرد في التّعبير. فهي لا تكذب ولا تتكلّف في حركتها.
وذهبت بي الفكرة بعيدا وقرّرت الاختفاء في مكان آخر لفترة أطول لأعرف وقع ذلك على المحيطين بي. فاختفيت ليومين كاملين. لم يكن المكان بعيدا. كان غرفة في بيت عمّي لا يدخلها أحد إلاّ في مناسبات قليلة. فرشت المكان تحت منضدة كبيرة عليها غطاء يخفي ما تحتها وأقمت ليومين كاملين على أمل أن يبحث عنّي شخص ما. وكنت أخرج من مخبئي إذا هدأت حركة الأقدام في البيت وتأكّدت من خروج الجميع، فأجلب معي من المطبخ ما يسكت صوت معدتي الخاوية. وأتمدّد في مخبئي أنتظر المفاجآت الّتي أبت أن تحدث.
وراقبت الفراغ والهدوء في غياب مراقبة الأقدام لأنّ الأقدام لا تصل إلى هذه الغرفة المغلقة في آخر البيت. فرويت لنفسي حكايات كثيرة ألّفتها وحدي. وعددت أعدادا كثيرة وتخيّلت أشكالا جديدة لها، بل صنعت لها عالما خاصّا، فألبستها ملابس وأحذية وصنعت لها رفوفا تقف عليها مرتّبة وتحافظ فيها على أدبها وعلاقتها ببقيّة الأعداد. كان الوقت يمضي هادئا مليئا بالخيال والمتعة، فإذا ما أخذني النّوم في حضنه جعلني أرى أحلاما سعيدة.
حين خرجت من مخبئي اكتشفت مرّة أخرى أنّه لم يفتقدني أحد. كأنّني لست موجودة، أو لا أنتمي إلى الحشد الكبير في بيت العائلة. ووجدت تفسيرا لعدم الانتباه إلى وجودي أو غيابي أرضاني. فكلّ ما في الأمر أنّ زوجة عمّي ظنّت أنّني عدت إلى بيتنا وظنّت أمّي أنّني في حماية زوجة عمّي.
غير أنّ التّفسير الّذي راق لي أكثر هو أنّني لم أكن كائنا مرئيّا، وأنّني كنت محض خيال لا أظهر إلاّ في أوقات معيّنة، وأنّني سقطت على هذه العائلة بغتة من السّماء وتصوّرتُني فردا منها. وربّما أنا لا أنتمي إلى أيّ عائلة. من يدري!
لم أشغل فكري البسيط حينها بطبيعة الطّين الّذي تشكّلت منه فقد تأكّدت لي فكرة أنّني كائن خياليّ لامرئيّ، فتركّز اهتمامي أكثر على تجربة الاختفاء، ولذلك كان عليّ أن أجرّب مرّة أخرى، ومرّات،
وبحثت عن مكان مناسب لأختفي. ولمّا لم أجد، آثرت الوحدة ولم أعد أخرج إلى الشّارع لألعب. واخترت القراءة والكتب فهي وحدها تخفيني في غرفة صارت أفضل مكان لاعتكافي وقتها.
وطالت ساعات وحدتي، لا يقطعها إلاّ خروجي إلى المدرسة بهدوء كمن ينوي الخروج إلى الصّلاة ويخشع في الطّريق إليها. لا يهمّني المارّون في الطّريق ولا يشغلني تسابق الأتراب يلعبون ويتنادون ويثيرون الفوضى حولي، فهم لم يصدّقوا أنّني تركت ساحة اللّعب إلاّ بعد محاولاتهم لإغرائي بمشاركتهم لعبهم، ثمّ تأكّد لهم عزوفي عن ذلك فتركوني.
كانت طريقي جزءا من خلوتي، فأمشي وكأنّ الطّريق معبر إلى السّماء أو صراط مستقيم ليس لي أن ألتفت فيه إلى ما يمكن أن يشتّت خشوعي حتّى لا أسقط في صخب الطّفولة. وتمسّكت بذلك أكثر بعد أن قرأت كتاب بينوكيو. لم أخف أن يطول أنفي، إذْ لم يكن لذلك من داع، ولكن خفت أن يأخذني الأغبياء إلى أرض الفوضى والفراغ ويوهمونني أنّها أرض السّعادة، فأنا كنت أبحث منذ الصّغر عن السّعادة لا عن وهمها. وإلى اليوم أبحث عنها.
ويوما بعد يوم، كلّما انغمست في وحدتي وابتعدت عن لهو الطّفولة، امتلأت حياتي بتفاصيل صغيرة أخذتني إلى عالم جميل خاصّ بي وحدي، سعيد على حدّ فهمي للسّعادة حينها، فرتّبته على طريقتي واحتفظت به لنفسي لا يشاركني فيه أحد.
ولم أعد أهتمّ إن تفطّن أحد لوجودي أو غيابي، فعالمي الخاصّ يغنيني عن كلّ العالم الآخر من حولي. ومن وقتها لم يتعثّر أحد بأيّ تفصيل من تفاصيل حياتي فأمِنت زحمة النّاس من حولي واستمتعت بحياتي بينهم، وفي نفس الوقت بعيدا عن عيونهم. وتأكّد لي حقيقة أنّني كنت لامرئيّة في ذلك الوقت. فلم ينتبه أحد إلى عالمي الوحيد السّعيد ولا إلى اختفائي وأنا في ظلّ مراقبتهم.
◄ وهيبة قويّة
▼ موضوعاتي