وهيبة قوية - تونس
كتاب ومسيرة: بنت البحر مع ندامى الفنّ
حفيظة قارة بيبان أديبة تونسية تكتب باسم «بنت البحر». صدر لها في العام الماضي (2022) كتاب عنوانه «بنت البحر مع ندامى الفنّ» يتضمن عشرة نصوص مع مقدمة لها من د. محمّد آيت ميهوب. الناشر: دار كلمة.
الجنس الأدبيّ
الكتاب بحسب التّصنيف المذكور على الغلاف شهادات. غير أنّ الكاتبة تقول في «كلمة أولى» ص 9: «هي كتابات لا تبالي بقيود الأجناس. تفتح دربها الحرّ يقودها صدق التّجربة وما جمعني بأصحابها من عشق الفنّ ومحبّة القيم النّبيلة الّتي يضيء دربها مشاعل رفاقي من الصّحابة سارقي النار». وحسب هذه الكلمة الأولى نستنتج أنّ النّصوص مفتوحة على التّجربة الشّخصيّة للكاتبة من خلال الآخر المحدَّد بصفة: رفيق، أو سارق النّار. وبقراءة الكتاب نتبيّن أنّه مجموعة من النّصوص المتفرّقة جاء فيها كلّ نصّ بصياغته الخاصّة عن رفيق من رفاق الفنّ والأدب.
أدب الشّهادة أو أدب الشّاهد وهو «أدب» لم تصنّفه الدّراسات ضمن جنس أدبيّ مستقلّ، إلاّ القليل منها. ودارس هذا الكتاب سيجد حيرة حقيقيّة بين ما سُجّل على الغلاف واعتراف الكاتبة بأنّها نصوص بلا جنس محدّد. ولكن بعد القراءة يمكن تصنيفها ضمن أدب الشّهادات ومفتوحة على المجالات التالية.
=1= السيّرة، إذ يمكن رسم ملامح الأديبة والإنسانة حفيظة قارة بيبان وتجربتها في الكتابة من خلال الشّهادات في الكتاب. ويمكننا أن نسأل بعد ذلك: ماذا لو كان القارئ لا يعرف بنت البحر؟ أو، ماذا لو أنّها غيّرت الأسماء في النّصوص أو لم تصرّح بها على الحقيقة؟ وكيف يحلّق الكتاب إلى أبعد من السّيرة؟ وللإجابة يجب أن نعود إلى تبيّن قيمة الشّهادات في نقل الحقيقة، أو في نقل ما يريد الكاتب أن يدوّنه من خلاله، والفصل بين الذّاتيّ والموضوعيّ. وأرى بأنّ مثل هذه النّصوص ما هي إلاّ تلميح بـشيء من شخصيّة الكاتبة، أو «بورتريه» من صنع فكرها تقدّم به نفسها للقارئ بما ترتضيه لنفسها.
=2= اليوميّات: فبعض النّصوص رصدت ملامح من حياة الكاتبة، وتميل أحيانا إلى نقل أحداث اليوم. مثل النّصّ الخاصّ بــ «أرنستو ساباتو» وروايته النّفق. إذ ربطت حياتها اليوميّة والقراءة بما يمكن أن يصير مادّة تفكير وكتابة.
=3= الرّسالة: وتظهر في نصّها الخاصّ بالأديب التّونسي «محمّد العروسي المطوي». فالشّهادة في هذا النصّ رسالة، توجّهها إلى أديب كبير أخذ بيدها في بدايتها الأدبيّة ورافق نصوصها في «نادي القصّة» وأضاء دربها أمام الكتابة القصصيّة. وهي رسالة موضوعها الاعتذار، والاعتراف بالجميل لمعلّم الأجيال وسادن القصّاصين في تونس.
=4= الفنون: اشتملت الشّهادة الخاصّة بمعرض «حليم قارة بيبان»، أخيها، والشّهادة الخاصّة بــ «البروفة» الموسيقيّة ثمّ العرض الموسيقي مع الفنان عادل بوعلاّق في فضاء أيكار. وبدت الكاتبة ناقدة للفنّ التشّكيلي في الشّهادة الأولى تحلّل الألوان والأشكال وتنقل مشاعرها تجاه لوحة معيّنة وتقيّم المعرض والفنّ عامّة. وفي الشّهادة الثّانية تتّخذ دور المعجبة بالتّجربة الجديدة الّتي تحوّلت بها الكتابة السّرديّة إلى مغناة وألحان تتغنّى بالجمال والإنسان وتقترب من الأطفال وتفتح معابر الضّوء أمامهم في هذه التّجربة الفريدة.
=5= الثّقافة: أظهرت الشّهادات اطّلاعا كبيرا على الأدب العالمي والتّونسيّ وقدّمت كاتبة مثقّفة يمكنها الخوض في الأدب والفكر والفنّ والدّين والحياة اليوميّة، وامتزجت تجربتها بتجارب إنسانيّة كبيرة.
=6= الروايات والكتب: هذا الكتاب مكتبة ورقيّة وفنيّة تشكيليّة وموسيقيّة وتاريخيّة. وهو شهادات حول ما عاصرته الأديبة وعاشته وقرأته وساهمت فيه بشكل من الأشكال.
المضامين
إذا وقفنا عند الإهداء انفتحت أوّل المسالك إلى ندامى الفنّ، تقول بنت البحر في الإهداء: «إلى منية، سيّدة الحكمة والعطاء، مضيئة الكلمات». منية بوصف مميّز. وللقارئ أن يعرف وحده أنّها أختها مع أنّها لا تذكر اللّقب. وكأنّها تخفيها أو، تماما العكس، تظهرها بأفضل الصّفات، باسم مجرّد من اللّقب لتصير شخصيّة خارج كلّ الوصف الممكن، لتصير شخصيّة في المطلق «كآلهة» الفنّ والحكمة والعطاء. ورفيقة من سرّاق النّار. و»منية قارة بيبان» لمن يريد أن يعرفها سيجدها في كتبها الّتي نشرتها في النّقد، ومن خلال مسيرتها العلميّة وعند من تتلمذوا على يديها وينحنون احتراما لمسيرتها في التّعليم والتّفقّد وخدمة الأدب.
ويطالعنا بعد الإهداء، صفحة بها بيت لابن عربي وبيتان للحلاّج. والجامع هو الحبّ والفناء في «دين الحبّ». وهل غير الحبّ جامع النّدامى؟ يلي ذلك، كلمة أولى (ص 9) في أسطر قليلة، وكلمات محدّدة واضحة، تبيّن فيها الكاتبة: أسباب وضع الكتاب، وموضوعه، وجنسه الأدبيّ.
وتتوالى بعد ذلك النّصوص بحشد من الأسماء تقفز من الكتب الّتي تقرأها الكاتبة، وهم كتّاب من أنحاء العالم ومن تونس ومن العالم العربي، أو فنّانين، أو أسماء أخرى مختلفة من أقرباء الكاتبة تسيل مثل ماء نمير أو ضوء منير من علاقاتها بأفراد عائلتها (البنت، الأخ، الأب، الأمّ)، أو أسماء تنبجس من الذّاكرة تطلّ على فصول من حياتها فتضيئها للقارئ في النّصّ بكشف نوع العلاقة بينها وبينهم مثل الأديب محمّد العروسي المطوي أو الأديبة فاطمة سليم، أو أعضاء نادي القصّة، أو بنت البحر «طفلةً» منفصلة متّصلة ببنت البحر الّتي تكتب النصّ.
الكتاب إذن «سَفَرٌ» بالحرف مع عدد من الكتّاب من تونس، ومن مختلف أنحاء العالم (الأرجنتين، أمريكا، اليونان، لبنان ...)؛ ومع الفنون حتّى أنّ من اختارتهم من الأدباء يتميّزون بتأثّرهم بفنّ من الفنون موسيقى ومسرحا ورقصا ورسما[1]؛ ومع الأهل؛ ومع المربّي: وتتجلّى صورته في الأديب الكبير عبد الواحد براهم الّذي درّسها، وفي الأديب محمّد العروسي المطوي الّذي تبنّى تجربتها القصصيّة في نادي القصّة، والأب المعلّم والمسرحيّ الّذي كان أوّل مربّ يعلّمها مبادئ الحياة؛ ومع الرّفقاء أو النّدامى.
والسّؤال يفرض نفسه: ما الرّابط بين هذه الشّخصيّات؟ ولماذا اختارت بنت البحر جمعهم في هذا الكتاب؟ وللإجابة عنه أعود إلى «كلمة أولى» في صدر الكتاب. تقول بنت البحر: «حين تدعونا المحبّة لرفاق الحرف، ندامى الفنّ، سارقي النّار المقدّسة، لا مفرّ من أن نكتب». إذن هي المحبّة جامعة كلّ هذه الشّخصيّات. ولكن ليس فقط. فحسب الكاتبة: هذه الشّخصيّات تشترك معهم في «سرقة النّار المقدّسة»، بل هم من التقت معهم بنت البحر في كتابات، تقول: «تحكي قصّتي معهم.»
وبقراءة النّصوص نكتشف أنّ جمعهم في الكتاب جاء لغايات مختلفة منها الذّاتيّ ومنها الموضوعيّ. ولكنّها غايات لا تحيد عن دور الأدب وقيمته وعن «العمل الفنيّ» أعني الكتابةَ ولكن أيضا الفنّ التّشكيلي، وهذه المرّة لتشكيل بورتريه لشخصيّة بنت البحر حفيظة قارة بيان.
كلّ شخصيّة من هذه الشّخصيّات تمثّل في صفاتها أو في علاقتها بالكاتبة جزءًا من شخصيّة الكاتبة، فكأنّ الكتاب رسم لها «بورتريه» تضيف إليه كلّ شخصيّة ملمحا من ملامحه. فإذا ما انتهى الكتاب اكتملت البورتريه لنجد صورة كاتبة تشبّعت بالبحر وبجمال الطّبيعة، وبقراءة الكتب، وبحبّ خاصّ لأبيها ولمربّيها في الدّراسة وفي الأدب، ولعائلتها، ولفلسطين وقضيّتها.
ويكتمل تشكيل اللّوحة لنجد أمامنا كاتبة تسعى إلى بناء صورة بتفاصيل (تشبه نسيج صورتها في الواقع حين تعرفها) من خلال الآخر الّذي أثّر فيها وفي تكوينها الفنّي وبالأخصّ فنّ الكتابة وانفتاحه على بقيّة الفنون. لذلك نرى الكاتبة في هذه النّصوص تلتقط من الكتب الّتي قرأتها جملا بعينها، ومن المواقف ما أسهم في تشكيل الصّورة، ومن الذّاكرة ما ميّز تكوينها. تنتقي بثبات ودأب. فما دلالة ذلك؟ وما قيمته في كلّ نصّ؟ وما قيمة النصّ في ذاته إذا كان جزءا من الصّورة منفصلا؟ هل يكتمل بذاته وبلغته وفنّه البلاغيّ واللّغويّ وفكرته المستقلّة؟
لنجيب عن هذه الأسئلة لا بدّ من مواصلة تحليل مضامين نصوص كتاب «بنت البحر مع ندامى الفنّ» وإطلالة على كتابها «سارقة النار» بل على كلّ كتبها والانتباه إلى المضامين وأسلوب الكتابة.
فأمّا مضامين هذا الكتاب. فكما هو سفر مع الأشخاص هو سفر في المكان رغم أنّنا ننتقل مع الكاتبة في أمكنة محدودة ومحدّدة. تبدو في الظّاهر عالما ضيّقا هو بنزرت أو العاصمة وتحديدا نادي القصّة، ولكنّ الكاتبة فتحته على البحر الّذي تنتمي إليه وتعيش بقربه وتسير مع موجه، وافتتحت النّصوص به. تأكيدا على هذا الانتماء والعلاقة الدّائمة بالبحر، وفتحت المشاهد في تناسق مع البحر لتصف الطّبيعة: الرّمل والصّخر. وإذ ينفتح المشهد تجمعه في عينيها أو في أحضانها... بل في حرفها فتقول: «ألتحم بالطّبيعة. ذرّة من ذرّاتها أصبح. أهيم في دورة الطّبيعة العذراء. في الملكوت الإلهي» وإذ جمعته بها تعود للانفتاح على المعنى، تقول (ص 19): «أستعيد بعض إيماني برحمة الكون».
وكما فتحت المكان (في النصوص 1 و2 و3) على البحر فتحته على العالم من خلال الكتب. فالكتب رفقاؤها أيضا وكلّ كتاب يكمّل جزءا من الصّورة. والأمكنة في الكتب هي كلّ العالم... أمكنة تجيء إليها لتدفعها لا إلى الاكتشاف والفنون فحسب بل إلى الخلاص: الخلاص بالمحبّة، بامتحان الذّات من خلال امتحان الآخر، ويصير المكان أرحب وأبعد، أو «لا مكان»... لأنّها تتخلّص من المادّي إلى الرّوحانيّ. الّذي سيظهر بجلاء في مسجد سيدي المسطاري ببنزرت ذات رمضان وهروبها منه بالصّلاة في أمكنة أخرى بالذّاكرة، بل في السّماء الفسيحة الّتي تسعفها بزرقتها ورحابتها لتحلّ فيها شعرها حرّا في حركة حرّة وفكرة أكثر حرّية. وتتحرّر من سيدي المسطاري إلى ابن عربي بدمشق، مكانان وعالمان متصوّفان تضيق بهما الجدران ويعبران بالرّوح بلا مكان أو زمان.
ويصير الكتاب سَفَرًا في «الزّمان» أو اللاّزمان. فهي لا تربط نصوصها بزمن تسير وفقه، بل تتركها تختار زمانها. ولئن وجدنا علامات تدلّنا عليه حينا فإنّه يفضي غالبا إلى المطلق لأنّ الزّمان كالمكان والشّخصيّات، ينفلت بالفكرة ليساهم في أحد ملامح الصّورة. فالزمان طفولة أو بدايات الكتابة أو بدايات العضويّة في اتّحاد الكتّاب أو مغناة «رؤى» أو «رواية العراء». تبدو تواريخ واضحة. وعندنا ما يحدّدها لمن يتابع كتابات بنت البحر أو نشاطها في رابطة الكتّاب الأحرار. حتّى كأنّنا بها تؤرّخ لمسيرتها، وهي فعلا تؤرّخ، ولكن، كما في كلّ الأجناس الأدبيّة، تنفلت هذه الأزمنة من التّاريخ لتنصهر في سيرة الكاتبة وتشهد لها بانتمائها إلى الفنون بلا حدّ.
صورة الكاتبة في «بنت البحر مع ندامى الفنّ»
هكذا بنت البحر، الموجة المسافرة في بحر الفنّ تتنافذ في كتابها الفكرة والشّخصيات والمكان والزّمان والذّاكرة لتجمع كلّ القطع (مثل قطع ليغو أو بازل) في صورة أرادتها لنفسها، بل صورة هي الّتي اختارت ملامح بنت البحر. هي الصّورة الجميلة النّبيلة الّتي بدأت في تشكيلها منذ بداياتها. تضيف إليها في كلّ مرّة جزءا لتتجلّى أمامنا الأديبة الفنّانة الإنسانة. فنحن لا نقرأ للرّوائيّة أو القاصّة فحسب وإنّما نقرأ للإنسانة الّتي تراها في تفاصيلها الأنيقة الرّشيقة لا تتنازل عن القيم الثّابتة في الإنسان وهي قيم المحبّة في معناها الأسمى: محبّة الإله والإنسان والمطلق بلا قيد ولا حدّ. فتراها مثل «نبيّة» تعلّم من لم يتعلّم «دين الحبّ» من خلال صفاتها وأفعالها ونصوصها واختياراتها.
وهي الفنّانة الجامعة لكلّ أنواع الفنون، فاقرأ لها تفكيك الألوان ودلالة التّشكيل في بعض لوحات حليم قارة بيبان، ليس لأنّه أخوها، بل لأنّها تعلّمت كيف تقرأ لوحة ثمّ ترسمها بحروفها. ويمكن، لمزيد التعرّف إليهما معا، العودة إلى كتابهما المشترك «النّجمة والكوكوت».
التّفكيك والتّحليل لم يكن فقط للّوحات الفنّيّة، بل لحوار جومانة حدّاد مع الأميركي، بول أوستر، ومع نفق أرنستو ساباتو، ومع سيرة الكاتبة التّونسيّة فاطمة سليم الّتي تكاد ذاكرة التّونسيّين تنساها، وبعض المواقف الدّينيّة الّتي أخذت تسود بعد الثّورة.
هي إذن تفكّك وتحلّل وتصف وتبدي رأيها بلا تعصّب لأنّها تحسن اختيار ما ستبدي فيه رأيها. حتّى أنّنا لا نجدها تستاء من أشياء كثيرة، إذا استثنينا مسجد سيدي المسطاري ببنزرت، وما آلت إليه الكاتبة فاطمة سليم أو ما أبدته من موقفها حين لم تزر الأديب محمّد العروسي المطوي ومات دون أن تراه.
وأراها اختارت طريق السّلام. وفي الكتاب ما يفسّره إذا انتبهنا إلى أبيات ابن عربي والحلاّج. إنّها تلوّن فضاءات المحبّة والسّلام والجمال وتنادم من هم أهل ليكونوا ندماء الحرف وسرّاق النّار المقدّسة. وهي تشكّل علام الجمال حتّى أنّها لمّا لاحظت في الصّخر لونه الرّماديّ وكآبته تأمّلت عظمة الكون، وصارت الصّخرة لوحا أو «مسلّة» تقرأ على مساحتها الحكمة المطلقة تتناسق على صلابتها حركة الماء حتّى رأت الصّخر رحيما. وكشفت عن عالمها هي الرّحيم. إنّها في حالة كشف وتصوّف وزهد في وحدتها مع الطّبيعة، أو توحّدها معها. ألا يبدأ التّصوّف بعزلة كهذه، وقراءة كهذه لمفردات الكون ثمّ تنجلي الرّؤى إلى علاقة الحبّ الخالصة؟
هكذا تبني بنت البحر عالمها في هذا الكتاب وفي كلّ كتاباتها، لبنة تلو أخرى.
ولئن سعى هذا الكتاب إلى رسم بورتريه للكاتبة فكلّ النّصوص بدورها تدور في فلك محاولاتها للاكتمال وبلوغ مرحلة التجلّي والكشف، ونقرأها نحن سيرة أنيقة نبيلة.
ولتتجلّى هذه الصّورة أكثر لبنت البحر، حفيظة قارة بيبان، أفتح بابا على إصداراتها وسيرتها الذّاتيّة، وأعيد التّشكيل لأستخلص دور الكتابة وقيمة الأدب في رسم صورة صاحبه.
بنت البحر من خلال نصوصها: تجربة الكتابة
كتبت بنت البحر الكتابة منذ الطّفولة، فكتبت الأشعار وأخفتها. وهذه التّجربة تكشف لنا الشّغف بالأدب وإنتاجه قبل ظهور أديبتنا في ساحة الأدباء بكتبها وتجربتها المتميّزة والّتي بدأت رسميّا مع القرّاء سنة 1984 بالمجموعة القصصيّة «الطّفلة انتحرت». وتتالت بعدها الإصدارات في القصة والرواية والشعر والسيرة وسلسلة كتب للأطفال، مجموعات قصصية وروايات. تحوّلت قصّة رؤى والنّجمة إلى قصّة مُغنّاة من تلحين الفنّان عادل بوعلاّق في 2014.
صورة الأديبة في نصوصها
تكشف هذه الإصدارات المتنوّعة عن قدرة الكاتبة على الانتقال بين الأجناس الأدبيّة، فلا حاجز لدى أديبتنا بينها. وتبلّغ مع كلّ جنس أدبيّ رسالة من رسائلها النّبيلة للإنسان والإنسانيّة. وتعبّر مؤلفاتها عن ثراء هذا الإنتاج، لا من حيث الكمّ بل من حيث قيمة المواضيع ورصانة الكتابة وخير دليل على ذلك الجوائز العديدة الّتي تحصّلت عليها أديبتنا. فقد حصلت على مجموعة من الجوائز من بينها جائزة الإبداع الثّقافي لولاية بنزرت في 2003، وجائزة مركز التّوثيق والبحوث والدّراسات سنة 2013 عن رواية العراء. كما حظيت نصوصها بأطروحات جامعيّة في تونس وخارجها، منها: المكان ودلالته في رواية دروب الفرار بجامعة تونس الأولى منّوبة.
وبنت البحر، حفيظة قارة بيبان، ليست مجرّد إنتاج نصوص لنحصيها وإنّما هي كتابة واعية ذات محامل متنوّعة فنيّا وأجناسيّا وجماليّا تكشف عن أديبة تتميّز بنصوصها المختلفة.
صورة الكاتبة من خلال سيرتها وإنتاجها: لأنّها ولدت بين أمواج البحر[2]
ما إن نتصفّح سيرة، بنت البحر، الأديبة حفيظة قارة بيبان، على موقعها وفي حواراتها، ومن خلال أنشطتها ضمن رابطة الكتّاب الأحرار، وكتبها، حتّى ينفتح بابٌ على البحر ليشرق حرف بنت البحر وتنساب أشعّته تُضيء وجه الماء، وتهدهدنا أمواج البحر موجة موجة، وتنكشف ملامح شخصيّة بنت البحر أديبة وفنّانة وإنسانة. وتأخذنا إلى ضفاف من حياتها.
=1= ضفّة المكان
«المكان يسكننا بقدر ما نسكنه، فيغدو إدراكنا للمكان تأكيدا على وجودنا»[3]. فعند الضّفّة الأولى مدينة منفتحة على البحر وُلدت فيها بنتُ البحر ونشأت. «هيبو»، هبة الله بنزرت، حيث الأفق الممتدّ والعراقة الّتي تتجلّى في تفاصيل المكان وتاريخه وتتشبّع بها نصوص بنت البحر.
=2= ضفّة الكتب والقراءة
وأمّا الضّفّة الثّانية فبحر من الكتب هو مكتبة والدها الّتي نهلت منها أديبتنا وخطّت من روحها صفحات صَقَلتْ شخصيّتها الأدبيّة واللّغويّة وذائقة الفنّ لديها. وخاصّة فنّ الكتابة شعرا (في تجربة وحيدة منشورة في كتاب رسائل لا يحملها البريد) وقصّةً وروايةً وقصصَ أطفال ومزاوجة هذه الكتابات بالمسرح والموسيقى في تجربة متميّزة (مسرحة النصّ السّردي، ووضع موسيقى خاصّة بنصوص من رواية العراء) ثمّ شهادات أدبيّة.
=3= ضفّة الأصالة والانفتاح، وبحر الأب والأدب والفنّ
وأمّا الضّفّة الثّالثة فهي النّشأة في عائلة محافظة على تقاليدها الأصيلة، منفتحة على بحر الأدب والفنّ. فوالدها، رحمه الله، كان مدرّسا بالفرع الزّيتونيّ ببنزرت وكان إماما وأديبا وشاعرا ورجل مسرح رَأَسَ جمعيّة النّهضة التّمثيليّة ببنزرت.
وقد تأثّرت بوالدها الأديب الشّاعر المسرحيّ. فتقول في «سارقة النار»، ص 14: «هذا الفنّ بجماله وغموضه، بملذّاته وعذاباته كنت أجده مبثوثا في كلّ أركان بيتنا. في رحلة الشّتاء والصّيف. في البرد وزمن المطر، في مكتبتنا الغنيّة بكتب الأدب والتّاريخ والفقه والمجلاّت العريقة... في أوراق أبي المخفيّة في الأدراج: أشعاره المرسومة بخطّه أو المنشورة في المجلاّت، مراسلاته مع الأدباء والشّعراء. أو في صدى صوت عليّ الرياحي يتغنّى بإحدى قصائده. في ليالي المسرحيّات الّتي تقدّمها جمعيّة النّهضة التّمثيليّة التي كان يترأّسها أبي كلّ ثلاثيّة».
=4= ضفاف شتّى وبحر من الفنون
إذن تمتدّ الضّفاف إلى ضفاف أخرى ومنها الموسيقى. تقول بنت البحر في أحد حواراتها: «فيّ أنغام العود والبيانو يعزف عليهما عمّي في بيته المحاذي لبيتنا». ومنها الفنّ التشكيليّ من خلال تجربة أخيها «حليم قارة بيبان» والّذي كان لها معه كتاب «النّجمة والكوكوت» الّذي ينفتح على مواضيع الحياة والمجتمع عامّة في فترة ما سمّي بالثّورة والرّبيع العربيّ، وينفتح على الجرح العربيّ والفلسطينيّ وعلى الفنّ التشكيلي وغيره من الفنون. تقول في سارقة النّار: «الله رمى بذرة الفنّ في قلبي الخصيب لتكون شجرتي الظّليلة المعطاء. لتكون قدري»[4].
هكذا اتّسعت مناهل الثّقافة منذ النّشأة الأولى لبنت البحر، واجتمعت متناغمة، مختلف الفنون، لتصقل تكوينها فصَاغت أدبًا شاملا لكلّ الفنون وخلاصتها، تجلّى في كتاباتها.
بنت البحر، على ضفاف الحرف
بدأت مسيرتها الأدبيّة مع القصّة (وهي عضو بنادي القصّة) ثمّ الشّعر ثمّ الرّواية لتراوح بين أجناس الكتابة وشاغلها في كلّ هذا الإنسان والحريّة والقيم الّتي تعيد تشكيل الفرد والمجتمع. فالمنهل قضايا الإنسان المعاصر في تونس وفي العالم العربيّ بل الإنسان في كلّ زمان ومكان ممّا يعطي لكتابتها البعد الإنسانيّ الّذي يطمح إليه الأدب.
هذه المواضيع المتنوّعة من كتاب إلى آخر تكشف إضافة إلى عمقها الإنسانيّ إلى الالتزام الّذي طبع الأديبة بنت البحر. فأدبها «أدب ملتزم» وألزمت قلمها بذلك خاصّة في الرّوايتين وإن لم يغب في القصص ولا في بقيّة كتبها أو حواراتها.
بل إنّنا نجد أنّ كتاباتها تندرج ضمن الأدب المقاوم: مقاوِمًا بكلّ صُوره. في رواية «العراء» مثلا، وفي رواية «دروب الفرار»، وفي المجموعة القصصيّة «قهوة أكسبريس». وهو أيضا إنتاج ينتمي إلى أدب المقاومة (الفلسطينيّة) ويظهر في كلّ ما تكتب.
وجاءت النّصوص قصّة ورواية وشعرا في لغة متجذّرة عربيّة فصيحة تنهل من مَعين شاعريّ إنسانيّ وتنقل القارئ بفصاحتها عبر قضايا استقتها الأديبة من الواقع وأضفت عليه من خيال الأدب ليقرأ واقعا موجعا وأملا في خلاص الإنسان.
وهي بذلك تضطلع بمهمّة الأديبة على أحسن وجه إذْ ترسي القيم الأصيلة في ثورة جامحة على الموجود وفي هدوء ورصانة ينخرط معهما القارئ. فما إن تقرأ الثّورة وتنفعل حتّى يَأخذ النصّ بيدك ليهدّئ من روعك لتفكّر بهدوء، وتشعر بالهدوء في أمواج متلاطمة. وهذه ميزة لا تتاح للجميع. ومثال ذلك شخصيّة «شرود» في دروب الفرار، الّتي يتجلّى هدوؤها في كثير من مواطن الرّواية، في مظهرها، في حين كان داخلها على درجة من الغليان. وهذا الازدواج في الرّواية خلق عالما ثائرا على السّائد راغبا في التّغيير وتجميع الأشلاء والشّتات وكأنّ «شرود» تختزل قضايا العالم العربيّ بأسره بل قضايا الإنسانيّة كلّها.
وتأتي مضامين النّصوص بمختلف أجناسها منفتحة على كلّ الفنون مثل انفتاحها على الإنسانيّة لتتلخّص التّجربة جليّة في «سارقة النّار» و»بنت البحر مع ندامى الفنّ» وخاصّة كتاب «النّجمة والكوكوت» الّذي جمع فنّ الكتابة بالفنّ التّشكيلي في تجربة جميلة قرأنا من خلالها كيف يمكن للفنّ أن يصف الجرح زمن الثّورة ويجد متنفّسا للبرء منه بالفنّ: فنّ الكتابة للنّص ولرواية «العراء» وللأنشطة الثّقافيّة والثوريّة ولقصص الأطفال والقرص المضغوط، إذ الثّورة عند بنت البحر في «النّجمة والكوكوت» إنّما هي ثورة واقعا وكتابة ومشاريع فنيّة متنوّعة فالثّورة الحقيقيّة هي ثورة الفنّ بمختلف أنواعه ومواضيعه.
بنت البحر: الكتابة الأصيلة وتأصيل الهويّة
في نصوص بنت البحر نجد انتماء وطنيّا واضحا لتونس وبنزرت وللبحر ولكن أيضا انتماء عربيّا وإنسانيّا. كلّ ذلك في تعالق مع التّربية الأصيلة والمنفتحة على الآخر وعلى الفنون ممّا لا يُتاح لأقلام كثيرة. ونتبيّن من خلال ذلك صورة الأدب التّونسيّ المزاحم للأدب العربيّ والعالميّ من حيث القضايا واللّغة وطرائق معالجة الواقع وخاصّة الوفاء، للانتماء التّونسيّ الأصيل وللقيم الإنسانيّة. فنصوص بنت البحر لها بصمتها الخاصّة والّتي تجعل من النّصّ التّونسيّ نصّا «عالميّا» كما البحر يفتح أبوابه على كلّ الضّفاف ويتنافذ معها. هكذا إذن أرى بنت البحر، حفيظة قارة بيبان في كتاباتها: نصّا وفيّا لمواقف الحياة في رؤية إنسانيّة استشرافيّة (رائيّة).
= = =
الهوامش
[1] منهم أرنستو ساباتو، وهو من أهم كتاب أمريكا اللاتينية فقد كان يكتب في مجالي الرواية والمقال بالإضافة إلى كونه عالم فيزياء ورسّام. وأمّا بالنسبة إلى إنتاجه الأدبي فقد كتب الرّواية: «النفق» و»أبطال ومقابر» ورواية «الجحيم المهلك»، كما كتب عددا كبيرا جدّا من المقالات وتدور حول الإنسان ووجوديته.
[2] من كتاب «سارقة النّار»، ص 7، تقول: «لأنّي ولدت بين أمواج البحر.»
[3] «سارقة النار»، نصّ: المكان الأوّل، ص 9، نقلا عن جبرا إبراهيم جبرا.
[4] «سارقة النار»، ص 14.
◄ وهيبة قويّة
▼ موضوعاتي