إصدارات جديدة: خالد سامح المجالي - الأردن
مقتطف من رواية الهامش
صدرت للصحفي والقاص الأردني، خالد سامح المجالي، روايته الأولى "الهامش" في نيسان (أبريل) 2020. وسبق أن صدرت له مجموعات قصصية منها: "نافذة هروب"؛ "نهايات مقترحة"؛ "ويبقى سراً"؛ "بين سطور المدينة". وترجمت بعض قصصه للإنكليزية والفرنسية. يعمل في الصحافة وهو حاصل على بكالوريوس العلوم السياسية من الجامعة الأردنية. روايته الأولى، "الهامش"، من إصدارات منشورات ضفاف ودار الاختلاف (نيسان/أبريل 2020). لوحة الغلاف للفنان العراقي سنان حسين. أدناه فصل منها، وتنشره "عود الند" باتفاق مسبق مع المؤلف.
.
في شقة الشميساني: صيفٌ آخر 2005
.
"هل يمكن أن يكون ذلك المكان البخيل عالمي الجديد؟"
ثمة تغيرات طرأت على حياة حازم، الكثير منها لم يكن متوقعاً، بينما ما يسميه الطبيب بـ"الهامش" يمور بتحولات عاصفة تعِد بفصل عربي جديد يتسع لمزيد من الجنون.
يتواصل العنف العبثي في العراق، ومزيد من الهاربين يصلون إلى عمّان، ثم ينتقلون إلى تيه الصحاري والمحيطات ورحلات الموت.
"هل كانت بغداد كافيةً لرسم حياتنا؟ الشوارع ما زالت مطبوعة بالطين والحياة، بينما عمّان -نافذة هروبنا- تبصقنا إلى ما وراء المحيطات بلا رغبة؛ بلا وداع أو حتى عناق مخادع".
كتب ذلك الشاعر العراقي فرج الحطاب عند قدومه إلى عمَان نهاية التسعينيات، والتي كانت محطته للهجرة إلى ما "وراء المحيطات"، وهذا ما ظل يحصل حتى بعد فك الحصار وانهيار حكم البعث.
عمّان "نافذة الهروب". إلا أن بغداد أصبحت مطبوعةً بالدم وغبار الأحزمة الناسفة وآثار أقدام لكل وحوش الأرض.
لبنان، أيضاً، يترنح تحت وطأة هجمات منتقاة أعقبت اغتيال رئيس وزرائه رفيق الحريري في شباط، ونذر حرب أهلية في غزة والضفة الغربية بين فتح وحماس.
وحدها عمّان تمتص كل الصدمات وترقب بحذر حريق كل الجهات.
لماذا يشعر أنه بات رفيقاً لهذا الفصل الجديد من التاريخ؟ وكأنه يضع كفه بكفه مرغماً، ويسيران معاً في درب لا تعرف لها نهاية.
هل كان من الضروري أن يحصل كل هذا لتتغير حياتي، أم إن ما حصل لم يترك أصلاً فيَّ ذاك الأثر الكبير؟ هل أنا واهم؟ وهل حقاً هو مجرد "هامش" كما قال الطبيب؟
= = =
قررت الجريدة في الصيف الفائت ترقيته وتعيينه مشرفاً على صفحة المقالات المترجمة، مع منحه علاوة إضافية قيمتها خمسون ديناراً، لم يكن معه في الصفحة سوى فتاة متخصصة في الترجمة من اللغة العبرية، رسم لها رئيس التحرير حدود ما تترجم من الصحف الإسرائيلية، وكانت هي على قدرٍ عالٍ من المهنية والذكاء، إضافةً إلى شاب آخر متخصص في الترجمة عن الإنكليزية لكنهُ لم يلبث أن غادر الجريدة بعد حصوله على عقد عمل في البحرين.
ضغط العمل، إضافةً إلى غلظة رئيس التحرير يصيبانه بالقلق والإحباط، لكنه قرر أن يهجر مضادات الاكتئاب إلى غير رجعة. هل كان قراراً يفتقر للتبصر؟ لا يدري.
لم يعد أبداً مقتنعاً بتلك السعادة المزيفة التي تجلبها الأدوية وتجعله في كثير من الأحيان سخيفاً مندفعاً بلا أدنى مبرر؛ اندفاعةً تصل به حد الحماقة أحياناً وتفقده الإحساس بواقعية الأشياء وبمشاعر الآخرين.
لن أعود إلى تلك الحبوب السخيفة، وليَعُد الاكتئاب ويصل إلى أقصى درجاته؛ ولأشعر بالذنب والتفاهة حتى النهاية، لا يهم أبداً؛ نعم، الحزن سخيف جداً لأن حبة دواء تهزمه، لكن السعادة التي تجلبها حبة الدواء ذاتها هي أكثر سخافةً منه، وليصعد التوتر إلى ما شاء.
ربما كانت النتيجة مريحة جداً؛ أجرؤ على صفع رئيس التحرير عاشق المناكدة والعناد الصبياني، أو أبصق بوجه سكرتيرته المتعالية بملامحها الخشبية المغلفة بقدر هائل من الماكياج الفاقع، أو ألقي من النافذة كمبيوتر موظف الأرشيف وأقراص الدروس الدينية التي ينبعث صوتها من مكتبه طيلة ساعات العمل.
يااااه، كم سيبدو ذلك ساراً. وقد أقابل، مصادفةً، ضابط الأمن الذي طردني من تظاهرة المسجد الحسيني وأمر باعتقالي. ستكون فرصة تاريخية؛ هو يعطي أوامر للعسكر عند بوابة مركز أمن المدينة أو يلتهم صحن كنافة عند حلويات حبيبة، ولربما يتصفح مجلة بقليل من الاهتمام عند كشك أبو علي، يحدق كل منا في وجه الآخر لثوانٍ، أتذكره أنا أولاً رغم ما قد يكون قد طرأ على هيئته من تغيرات، ربما ارتقى برتبة عسكرية، فيبدو أكثر ثقةً وعجرفةً وكبرياء، وتطفو على ملامحه آثار الراحة نتيجة زيادة مرتبه وتراجع مهامه الصعبة، سيتفتح وجهه وتبيض بشرته، كذلك سيظهر أثر الاسترخاء جلياً على جسمه بانتفاخ كرشه.
أمشي، عندئذٍ، بخطى ثابته نحوه، فأقبض عليه من ياقته ثم أصفعه فيصاب الجميع بالذهول عندها في مشهد سينمائي مثير؛ لا، بل إن الحياة كلها من حولي ستتحول إلى فيلم سينمائي وأنا المخرج أقلب الأحداث كيفما أشاء. سأُسجن مرة أخرى بالتأكيد. لا مشكلة أبداً.
أي فائدة لكل تلك الأنواع من الأدوية، التي ما زال بعضها مكدساً في خزانتي، مرفقةً بشروحاتها وإرشاداتها؟ نعم، سأتصالح مع كآبتي إذا عادت؛ سأنتمي إلى قلقي وتهويماتي المرضية، فلا معنى أبداً للانتماء إلى عالم ينهار ويتداعى وأنا عاجزٌ عن فعل أي شيء.
= = =
سعى حازم لاستثمار الزيادة الطفيفة التي طرأت على راتبه الشهري في تحقيق حلم راوده طويلاً، لقد عاش سنوات شبابه التي مرت مع أهله في بيت بسيط في مدينة الزرقاء استأجره والده بعد تقاعده من الجيش ورحيلهم من إسكان الضباط. كان مضطراً طيلة تلك السنوات أن يتنازل عن جزء كبير من حريته في المنزل الضيق الذي يحويه هو ووالديه وإخوانه الثلاثة: يزن، وعلي، وخالد، وأختهم الوحيدة سارة، وهو كبيرهم.
مع دخوله العقد الرابع من عمره باتت فكرة استعادة ما فقد من حرية والتخلص من ساعات طويلة يقضيها قاطعاً الطريق بين عمّان والزرقاء أمراً ملحاً.
من بين إخوته لم يرضَ أبداً أن يكون موجَّهاً كي يصبح باراً في نظر والديه، لا سيما أبوه ذو العقلية القاسية الميالة إلى التسلط، والتي لم تغادر معسكرات الجيش أبداً. لم يعنِه كثيراً أن يتبوأ مكانة اجتماعية كبيرة وسط عشيرته ومحيطه.
لم يكن نافراً من حياته مع أهله تماماً؛ ففيها قدر من الحميمية يعينه على الاكتئاب في أحيان، إلا أنها كانت تضيق، يوماً بعد يوم، على طموحاته وآماله وإيقاعات الحياة التي طالما تخيلها وتمناها؛ لقد عانى عقم تلك الحياة وفقرها. المنزل الصغير لا يتسع لحلمه بصديقة تزوره بين الحين والآخر، أو رفيق يخوض معه نقاشاً سياسياً على مائدة مختصرة. لم يكن ظرف المكان يفتح له أي أفق لكتابة نص شعري آخر الليل.
صحيح أن موجات الكآبة والقلق التي طالما انتابته فعلت هي الأخرى فعلها في ذلك، وكانت تحد قدراته اللغوية وتربكها، إلا أن كتابة الشعر رافقته كطقس سري لذيذ. لم يطلع أحداً من أصدقائه على نصوصه التي كان يلوذ أحياناً في الليالي الحارة بسطح المنزل لكتابتها تحت ضوء القمر الساطع الذي يتحدى ليل الزرقاء البهيم، وسيحملها معه مثل سر أو فضيحة إلى مسكنه الجديد. كذلك سيحمل معه الكثير من الصور والذكريات الحميمة، وسيهرب من أخرى.
ليس سهلاً أن ينسى صوت أبيه عندما يصحو لصلاة الفجر وهو يقرأ سورة ياسين بصوت مرتفع يعبر الأرجاء، يبدد سكون المنزل ويصل إلى أسماع الجيران. كان أبوه يزداد تديناً وتعلقاً بالماورائيات، وخلال السنتين الفائتتين، بصورة خاصة، بات يتحدث كثيراً عن الموت ويُذكّر به وبما ينتظرنا بعده، وعن علامات الساعة التي كان يقول دوماً إن سقوط بغداد واحتلال العراق على رأسها؛ لقد بات يتحدث بيقينية مطلقة كَوَليٍّ تقيٍّ يتلقى وحياً ربانياً ويرفض النقاش فيه.
الطارئ من تطورات على حياته لن يمحو من ذاكرة الطفل الزرقاوي ما رسخ فيها، سيبقى وفياً لذكرى بيتهم القديم وصوت الطابور الصباحي في معسكر الجيش المجاور، وكأن أقدام الجنود تعزف مع إطلالة كل صباح لحن نصر على ليل الزرقاء الصحراوي الموحش، وتعلن حتمية نهار آخر يدب بالنشاط والصخب وفوضى الحياة والناس.
كيف لذاكرته أن تسقط من ألبومها صورة عبير؟ وجهها المستدير بمسحته الملائكية؟ براري صدرها المغموسة بلون برونزي مثير؟ ذنبة الفرس التي تتراقص مع خطواتها العجولة إلى المدرسة كل صباح؟ الوحمة الصغيرة أسفل رقبتها ما زالت في ذاكرته شهيةً ومثيرة، وغزيرة الإيحاءات. عبير التي كانت تسكن على مقربة من بيتهم كانت أول فتاة أحبها وتعلق بها، واختبر معها مشاعره. سعى للزواج منها وهو ما زال طالباً في الجامعة فصدته أمها.
= اسمع، إياك أن تفكر في عبير، ابعد عنها ولا بعملك مشكلة كبيرة وبخرب بيتك.
استوقفته يوماً أثناء عودته من الجامعة، وكادت أن تضربه أمام الجميع، بعدها أرسلت له عبير رسالة مع أخته:
"خلص حازم، أرجوك خلينا نبعد، أمي مستحيل توافق على زواجنا، وبتقول مستحيل أزوج بنتي لواحد آخرته أستاذ مدرسة".
بعد تخرجه بأشهر، ازدحم الحي ذات نهار تموزي حار بعشرات السيارات الفارهة، تزوجت عبير من أحد أقاربها، مليونير يعمل مع أحد الأمراء السعوديين، ستسافر معه إلى الرياض ولن يراها بعد ذلك حتى لو زارت أهلها باستمرار؛ فالوجه الملائكي، والجسد البرونزي الفاتن، والوحمة الساحرة، والشفتان السكريتان، وكل ما بهره فيها سيختفي خلف حجب سميكة وداكنة: عباءة، وخمار طويل، وقفازين. لن يظهر منها شيء بعد ذلك، كان هذا شرط السيد المليونير.
لن تختفي عبير من ذهنه، تغلغلت صورتها في أعماق ذاكرته حيث فوضى الأحلام الجميلة التي لم ينل منها شيئا.
= = =
بعد بحث استمر لأكثر من شهر، عثر على روف صغير في الشميساني، خلف فندق الماريوت بقليل. كانت أسعار الإيجارات تتصاعد بجنون متناغم مع جنون الإرهاب المستعر في المنطقة. عشرات الآلاف من العراقيين الأثرياء حطوا رحالهم في عمّان، والشقة التي لم تكن قيمة إيجارها الشهري تصل لمئة دينار أصبحت -بعد سقوط بغداد- تستأجر بمئتين وأكثر. كان زمن "أثرياء الحرب" بامتياز، ولطالما قرأ عنه في كتب التاريخ.
"يا بيه العراقيين رفعوا كل حاجة. الأسعار بقت نار، احمد ربك إنك لقيت أوضة وصالون بمية وخمسين دينار بس"، قال له حارس العمارة وهو ينظف البيت، وأردف بمزيد من التفاصيل:
"تصدق بالله يا باشا؟ الشقة اللي في الدور الأول كان مأجرها راجل أردني بمية وخمسين دينار، سافر قبل شهرين على أمريكا ودلوقتي سكنها واحد عراقي لوحده بتلتميت دينار، حاجه ولا في الخيال. ناس نازلة عليهم الفلوس زي المطر. ما بيسألوش خالص، واحنا الغلابة راحت علينا".
قاطعه حازم:
= يا بيه، يا باشا! لأ يا سيدي، أنا مش بيه ولا باشا، أنا كمان غلبان زيك.
= لا مؤاخذة، هوه إنت بتشتغل ايه؟
= صحفي ومترجم.
= يا سلام! بقى إنت باش صحفي قد الدنيا وبتقول عن روحك غلبان؟
ولإيمانهم الشديد بالحسد، لا بد أن ينهي الكثير من المصريين تعبيرهم عن الإعجاب بـ" بسم الله، ما شاء الله، الله أكبر!"
يضحك حازم، ويخرج إلى الشرفة للتمعن في المشهد من أعلى السطح؛ إطلالة رائقة على شوارع الشميساني الهادئة، أبعد قليلاً مدينة جديدة أيقظوها من سباتها فجأة، وأمروها بالالتحاق بركب المدن الحديثة.
هناك في الفضاء المقابل عمارات العبدلي التاريخية تُهدم تحضيراً لمشروع ضخم يتبناه أبناء الحريري - كما يقول كل أهل عمّان. تركب مع سائق التكسي فيحدثك عن "مشروع الحريري"، وكذلك سائقو الحافلات، وأصحاب المحلات التجارية، والزملاء في العمل. الجميع يتحدثون عن مشروع جديد تزرع فيه قطعة من دبي في عمّان حيث الأبراج متعالية تنشب أظفارها في كبد السماء وتُتعب رقاب المارين. في الصحف، وعلى الإنترنت حملات ترويجية للمشروع، ورسومات افتراضية بحمائم بيضاء تحلق عالياً واعدةً الناس بالرخاء والرفاهية والسعادة في أكثر صورها حداثةً ومواكبةً للعصر.
= "أنا خلصت يا بيه. عاوز حاجة تانية؟" يصرخ حارس العمارة من الداخل، فيرد حازم:
= "لا، شكراً".
= "لو عاوز أي حاجة تانية خد رقم موبايلي ورنلي في أي وقت، اسمي حسن يا بيه".
يغادر حسن الشقة سعيداً بعشرة دنانير لقاء جهده وخدماته.
يجول حازم بنظره في أرجاء المكان: غرفة نوم وصالون صغير بأثاث متوسط الحال، سرير مفرد وخزانة للملابس، طقم كنب جلد وتلفزيون بقنوات العربسات فقط، مطبخ صغير ملحق بالصالون، وحمام مع بانيو مختصر لا يكاد يتسع لطفل.
هل يمكن أن يكون ذلك المكان البخيل عالمي الجديد؟
السرير لا يتسع إلا لجسد واحد وكذلك البانيو، يذكرانني بوحدتي وبكل الضرورات الملحة التي أفتقدها، لكنه جيد على أي حال، ويكفي أنني اخترته وسألقى فيه حياة جديدة.
سيسعى في لاحق الأيام لتغيير حياته، ويتهيأ لما سيأتي. البيت الضيق ستأتلف فيه حياة شخصية هادئة لا يعوزها التبصر والتفكير العميق في ما سيأتي، ورغبة في الحرية حلم بها وسلبتها منه الظروف، وآمال راودته طويلاً، وبوهيمية لا تصل إلى التفلت تماماً، تفلت لم يكن قد أعد نفسه له، وحرية لا يخلو التفكير فيها من قلق، إلا أن الهدوء الذي يلف المكان الجديد، وبياض شرشف السرير، وزجاجة النبيذ التي استهل بشرائها دخول جنته الجديدة، والحرارة المنبعثة من جدران تنفذ منها سخونة النهار وحتى ما تبقى من رائحة رطوبة.
كل ما في تلك المساحة المكثفة يفرض ضرورة حتمية لالتقاء جسدين ملتهبين، ويثير الرغبة في تحقيق استيهاماته الجسدية، ولقاء امرأة تغير مسار حياته، روحٌ أنثوية كانت كل ما يحتاجه ليبدد رتابة وشح حياته العاطفية المريع.
بعد دقائق عاد الحارس ووقف بباب الشقة الذي ترك مفتوحاً.
"يا بيه، إنت نسيت كتبك تحت. بمدخل العمارة".
طلب منه حازم أن يحضرها فوراً ففعل بسرعة؛ أربعة صناديق كرتونية كبيرة شرع مع الحارس بفتحها ونقل محتواها على رفوف صغيرة علقت فوق التلفزيون مباشرة، فيها بعض ما أثر بوعيه ونظرته إلى الحياة والمجتمع، وعدد كبير من الأعمال الأدبية منحته حساً إبداعياً عبر عنه بعدد قليل من القصائد في دفاتر وأجندات صغيرة.
شرع بصف الكتب عشوائياً وعلى عجل: روايات ألبير كامو "الغريب" و"الطاعون" وكتاب "أسطورة سيزيف"، "رأس المال" لكارل ماركس، وروايات عبد الرحمن منيف: "مدن الملح"، و"شرق المتوسط"، و"قصة حب مجوسية"، وأشعار مترجمة لآراغون ولوركا، وروايات ماركيز ومذكراته، ومجموعات قصصية لزكريا تامر: "دمشق الحرائق"، و"النمور في اليوم العاشر"، وروايات غسان كنفاني: "رجال في الشمس"، و"عائد إلى حيفا"، وغيرهما، والمجموعة الكاملة لأعمال غالب هلسا، ومجموعة أخرى لمسرحيات سعد الله ونوس، وكتب جامعية بالإنكليزية تتضمن مسرحيات لشكسبير، وقصائد ت. س. اليوت، وكتب سياسية مختلفة لمحمد حسنين هيكل، وغيرها الكثير من الكتب التي لم تتسع لها الرفوف فركنها أسفل السرير.
كان حازم قد تعلق بالقراءة منذ أن كان في المرحلة الإعدادية، حين استعار كتب الأشعار والروايات من مكتبة المدرسة المتواضعة قبل أن يتعرف على مكتبة عبد الحميد شومان في المرحلة الثانوية، ويتكبد عناء زيارتها أسبوعياً من الزرقاء إلى مقرها القديم في حي الشميساني، حيث يسكن الآن. لقد كانت رحلة بين عالمين مختلفين تماماً، استعاد تفاصيلها أثناء بحثه عن شقة في ذلك الحي المخملي الراقي غرب عمّان، حي الفتيات المدللات بسياراتهن الفارهة، ومطاعم الوجبات السريعة التي لم يكن قد رآها إلا في الأفلام والمسلسلات الأميركية.
الأولاد، أيضاً، في الشميساني كانوا مختلفين بشورتاتهم وتقليعات شعرهم الغريبة والأقراط في آذانهم، كان يرقبهم من النافذة وهم متجمعون يأكلون الآيس كريم في "فروستي" المجاور للمكتبة. شنت جريدة شيحان في تلك الفترة حملةً ضدهم بتحقيقات أسبوعية سطحية ومثيرة تعوزها المهنية وترتكز على خطاب تحريضي وقصص أطلق الصحفيون فيها لخيالهم العنان كي يقدموها وجبةً تشبع شغف القراء وفضولهم، وتجذبهم لشراء الصحيفة بعناوينها البراقة المنتشرة في كل أرجاء المدينة.
لقبتهم شيحان بـ"الطنطات"، وعلى هداها سارت باقي الصحف الأسبوعية التي وجدت لها مواقع بارزة على أرصفة المدينة، وهي -إذ تكشف الكثير من خبايا المجتمع- تفبرك كذلك الكثير من الحكايا استجداءً لمزيد من القراء والإعلانات التجارية، مستفيدةً مما منحته عودة العمل بالدستور وإنهاء الأحكام العرفية من حرية نشر وتوزيع وخيال هُيأت له تربة خصبة جديدة فاستُثمر في التكسب والاسترزاق.
لم يكن ليرى مثل كل ذلك في الزرقاء. بدا الشميساني له حينئذٍ بقعة هاجرت من ولاية أميركية واستقرت في عمّان، إلا أن مظاهر الترف والحرية والحياة الرغيدة في تلك البقعة لم تغرِهِ بقدر ما أغرته المكتبة بما فيها من كتب فكرية وأدبية وعلمية قيمة، فكم شعر بالانتماء إلى أجواءها الحميمية الدافئة المطلة على كل تلك المشاهد والحكايا الغريبة.
= = =
التفت حازم إلى الحارس، كان ما يزال واقفاً بالباب يرقبه وهو يفرغ الكراتين من الكتب وينقلها للرفوف، وفي ملامحه ثمة سؤال:
= "الله معك يا حسن".
= "عاوز حاجة تانية يا بيه؟"
= "لا شكراً".
= "ممكن أسألك سؤال يا بيه قبل ما أروح؟ معلش استحملني".
= "تفضل يا حسون بيه".
يضحك حسن بصوت خفيض، ويسأل بخجل: "هو إنت مش ناوي تتجوز؟"
يكمل حازم ترتيب الكتب ويبدو غير آبه للسؤال، ثم يرد بشيء من الفضول:
= "إنت بتسأل ليه يا حسن؟"
= "أصل أنا عندي ليك عروسة لقطة".
يضحك حازم بأعلى صوته كمن يختبر قدرته على الضحك بعد أيام طويلة من الضنك والكآبة:
= "إنت حارس عمارة وخطّابة بنفس الوقت يا حسون؟"
= "لا يا بيه، بس أنا قلت تكمل نص دينك".
يتصنع نبرة جادة محاولاً منع استخفافه بمنطق حسن من الظهور:
= "يعني أنا حالياً نص مسلم؟"
= "أبداً يا بيه، والله مش كده القصد، أستغفر الله، أنا بس قصدي أذكرك بضرورة الست في البيت، وإنت سيد العارفين، والأيام بتعدي بسرعة ولازم تلحق تجيب عيال قبل ما تكبر".
محاولاً صرفه وإنهاء الحوار:
= "حاضر يا حسن، اتركني أفكر بالموضوع بعد ترتيب الكتب".
يضحك الحارس هذه المرة مستشعراً الاستهزاء في لهجة حازم، لكنه يكمل كلامه: "مش عاجبك كلامي أكيد يا بيه. بس أنا متأكد إنك حتفكر فيه، والعروسة جاهزة؛ بنت زي القمر، ساكنة هنا في العمارة، وبتشتغل مهندسة"، ويقاطعه حازم:
= "وبعدين يا حسن؟"
= "حاضر يا بيه، آسف قوي، ابقى كلمني لو احتجت حاجة".
مقبولةٌ هديتك الأولى، يا عمّان، لساكنك الجديد: حارس عمارة لطيف مألوف الملامح والحركات وطريقة الكلام، يبحث عمّن يسليه ويستمع لمواعظه ويعينه على وحشة وحدته وملله ليس إلا، كأنني رأيته قبل ذلك في فيلم مصري بهيئته نفسها وأسلوب حواره ذاته؛ شيءٌ يشبه "الديجافو". يا إلهي ربما بدأت ذاكرتي تصاب بهذه الحالة من الشذوذ الغامض.
ما هي هديتك القادمة، يا عمّان؟
سأعالج حسن، أمره يسير، لكن ماذا عن الآخرين الذين يدعون في كل لحظة لي بالهداية وإكمال نصف ديني واستمرارية حياتي بولد يحمل اسمي؟ إنهم يتكاثرون كل يوم، ماذا عساني فاعلٌ معهم؟ هل باتوا قدري الذي لا فكاك منه، أو ثمناً للحرية التي أنشدها؟
يفرغ من ترتيب الكتب، ويدلق قليلاً من النبيذ في كأس صغيرة. يتفحص الشقة ويجول بنظره بين الجدران. يستشعر بغتةً ثقل صمتها المطبق، تشبه سجناً مترفاً إلى حد ما، ومؤثثاً بأقل ما يمكن لمقامٍ نهائي.
عندما خرج إلى الشرفة، أنعش حواسه بنسمات صيف عمَان الرهيفة، فجلب زجاجة النبيذ من الداخل وسهر حتى الفجر، يرقب المدينة وهي تنام، والحركة وهي تخفت تحت أضواء القمر المنسابة بنعومة ترسم خارطةً بديلة لتفاصيل المكان.
= = =
لم يمر في حياته شخص أكثر شهوةً للكلام من حسن حارس العمارة. بات على موعد صباحي معه كل يوم وهو يهم بمغادرة العمارة إلى الجريدة. يجده أحياناً جالساً أمام باب غرفته وقد اكتسى وجهه بملامح الملل ومؤشراته. وفي أحيان أخرى يبقى في الداخل يتابع بعض الفضائيات المصرية، لكنه -حين يستشعر قدوم أحدهم- يخرج مسرعاً للتحقق من شخصيته ومبتغاه. يتفرس طويلاً في وجوه الغرباء القادمين لزيارة أحد القاطنين في العمارة وهو يتحدث إليهم.
= "صباح الخير يا بيه".
= "أهلاً يا حسن، صباح الفل".
= "سمعت الأخبار؟"
و"سمعت الأخبار" هذه لازمة ومفتتح للكلام دوماً. هو يعلم أن حازم صحفي والأخبار مهنته، لذا فحديثه لم يكن إخبارياً بقدر ما هو فضولي لاستطلاع رأيه واقتناص فسحة من الوقت للحديث معه، فقد استأنس كل منهما بالآخر، هكذا بدأ حازم يشعر.
الحارس لا يجد من سكان العمارة سوى المعاملة الجافة، وعلاقته بهم جميعاً لا تتجاوز حدود ما يقدمه لهم من خدمات كإصلاح ماسورة أو حنفية معطوبة، إضافةً إلى شراء مستلزماتهم اليومية من السوبر ماركت. أما حازم، فقد بدا له أكثر ألفةً وحميمية؛ لا سيما أنه يحدثه في كثير من الأحيان باللهجة المصرية مسايرةً وتحبباً، وحسن هذا جامع أخبار سياسية واجتماعية واقتصادية دون كلل أو ملل:
= "إنت ما سمعتش يا بيه؟ بقولوا إنه فيه صحفي أجنبي دخل عند صدام حسين السجن، وحينشر صور جديده ليه".
= "إنت ما سمعتش يا بيه؟ بقولوا فيه انفجار قوي النهار ده الصبح في بغداد، ومات فيه مش عارف ييجي ميه ولا ميه وخمسين بني آدم، ربنا يخرب بيوتهم أولاد الكلب دول، صدقني كلها عمايل الأمريكان وبحطوها بضهر الإسلاميين".
= إنت ما سمعتش يا بيه؟ حيرفعوا أسعار البنزين، وحاجات كتير سعرها حيبقى نار".
وهكذا يتفجر سيل الأخبار من فمه كلما رأى حازم صباحاً ومساءً وفي كل الأوقات، فهو يسعى لإشراكه في رؤيته لما يدور في العالم وما يسمعه من أخبار، ولم يجد حازم غضاضةً في الاطلاع على قراءة جدية وتفسير آخر من خلفيات اجتماعية ومستويات فكرية مختلفة، ومن بسطاء الناس لما تحمله الأخبار يومياً عن عالم موغل في دراماتيكيته الوحشية.
يمتد الحديث بينهما في كثير من الأحيان إلى غير الشأن العام، يساعده حسن في حمل مشترياته من سوق السيفوي القريب، يدخلها معه للمطبخ فيدعوه حازم لشرب كأس شاي معه.
= "إنت مسألتنيش عن أهل العمارة يا بيه".
لم يبد حازم رغبة في الاطلاع على أية معلومات عنهم، لكن حسن –وكعادته- يمنح نفسه الضوء الأخضر ويشرع في الحديث عنهم بالتفصيل.
= الطابق الأول كله لصاحبة العمارة، اسمها ناريمان، وهي أرملة ستينية، عادت إلى عمّان من أبو ظبي بعد وفاة زوجها الطبيب الذي عمل هناك لأكثر من ثلاثين عاماً وجمع ثروة كبيرة، ولديها ابنتان فقط: إحداهن تقيم في نيويورك مع زوجها اللبناني الذي يعمل مستشاراً قانونياً في الأمم المتحدة، والأخرى مطلقة ولها مطعم فخم في عبدون اشترته بعد عودتها مع أمها إلى عمّان".
= "ست غنية يا بيه، وكل اللي بيزوروها ناس أكابر، بس أنا حاسس كده إنه عندها مشاكل؛ شاكك كده إنه على تقسيم الورثة والفلوس وحاجات زي كده يعني". يخبره حسن وهو يرتشف الشاي بنهم، ويعاود استعراض حكايا الباقين بمزاج منفتح على السرد.
= "وفي العمارة ذات الطوابق الخمسة شققٌ مفروشة تؤجرها صاحبتها بالليالي وأحياناً بالأشهر لسائحين خليجيين، ومرضى ليبيين وسودانيين ويمنيين يتلقون العلاج في المستشفيات القريبة كالمستشفى التخصصي، ومستشفى الاستقلال، وغيرهما".
= "أما الدور اللي تحتك على طول، يا حازم بيه، بقالوا فاضي من شهرين، يعني من لما قبضت الشرطة على اللي كان ساكن فيه".
يتوقف حازم عندها عن ترتيب المشتريات داخل الثلاجة، ويسأله بفضول بالغ عن سبب اعتقاله، فتنفرج أسارير حسن ويستعيد الثقة بجدوى سرده لحكايا سكان العمارة واهتمام حازم بها أخيراً. يعدل من جلسته كحكواتي متمرس مستعداً لسرد حكاية جديدة بمط وإطالة متعمدتين، وذلك من أجل استثارة المستمع وتحفيز فضوله:
= "كان ساكن فيها راجل هو ومراته اسمه هشام، وعنده حوالي أربعين سنة، وما عندوش أولاد، وضعهم عادي؛ يعني ما كانش باين إنهم أغنيا أو أكابر قوي. بس من حوالي سنتين تبدلت أمورهم، وبقى عندهم سيارتين آخر شياكة، وغيروا عفش البيت كله وجابوا عفش فخم جدا، ومراته بقت تلبس دهب كتير. وقبل ما ياخدوه الشرطة بكام يوم شافني على باب العمارة وقاللي إنه خلاص، كلها شهر وحيسيب العمارة، وحيحصَّل مراته في أميركا؛ اصل مراته معاها جنسية أميركية".
هشام كان نصاباً وبائع أحلام محترفاً، يدير مكتباً سياحياً يمتلكه خاله في جبل عمّان. ادعى إمكانية توفير تأشيرات مختلفة إلى أستراليا وجنوب أفريقيا وأميركا اللاتينية مقابل ألف دولار، فأقبل عليه مئات الشباب العراقيين وكثير من العائلات الفارة من جحيم الحرب والإرهاب. بعضهم كان يقيم في عمّان منذ أكثر من عقد، وآخرون قدموا من العراق، خاصة، على أمل أن تكون عمّان بوابة نجاتهم من المحرقة والهلاك. ثم، فجأةً، أغلق المكتب، وقرر السفر في الوقت الذي كان فيه مخدوعون يعدون الساعات لهفةً على تأشيرة "الدخول إلى الجنة".
يفرغ حازم من ترتيب الحاجات في الثلاجة، ويجلس قبالة حسن شغوفاً بسماع مزيد من التفاصيل:
= "طيب، كيف قبضوا عليه؟"
يعدل حسن من جلسته فيبدو على هيئة طفل مسرور جداً وهو يروي أحداثاً مثيرة لوالديه شاهدها في فيلم كرتوني؛ هيئة تناسب تماماً الوظيفة الدرامية التي تخيلها حازم لحكاياه.
= "ياه يا بيه! ده يوم مستحيل أنساه، الساعة تمنية الصبح دخل شرطيين اتنين للعمارة وسألوني عن شقته، أنا خفت ألحقهم وأشوف عاوزين ايه، بس لما سمعت صوت الصراخ طلعت على طول، وكمان طلعت الست ناريمان، واتلمت العمارة، وهو بيصرخ وبقول: "أنا عاوز أتصل بمحامي"، وماكنش عاوز ينزل. قاموا جروه على السلالم وحطوه في السيارة غصب عنه، ومن يومها ما شفتوش. تصدق يا بيه؟ أنا بصراحة صعب عليَّ وهُوِّهْ بالمنظر ده".
كان حسن راغباً في سرد مزيد من الروايات عن باقي السكان لولا أن اتصالاً مباغتاً أتاه؛ صاحبة العمارة أمرته بالحضور فقام مستعجلاً وفي جعبته الكثير من الكلام والأسرار.
= = =
تترامى الزرقاء في اتجاهات جديدة، إلا أنها، وفي الجزء القديم منها، ما زالت تحافظ على طبيعتها وأجوائها. مدينة بزي كاكي ودخان أسود وفوضى عارمة، وكغيرها من البقع الشعبية المكتظة في العالم، لا يبرحها المتضادون: القوادون والقديسون، المثقفون والمشعوذون، الشرفاء واللصوص، العقلاء والحشاشون، الغاوون والأتقياء. وتحت نور القمر الساطع في أغلب ليالي المدينة كثير من الأسرار.
الزرقاء مدينة تسلل أحد شبانها إلى العراق بعد الاحتلال الأميركي، فجعلها بين ليلة وضحاها "مدينة عالمية" تذكر في كل نشرات الأخبار. أما الشاب، ففور خروجه منها بات اسمه "أبو مصعب الزرقاوي"، أو alzarkawee، كما كانت تلفظ كنيته الجديدة في القنوات التلفزيونية الأجنبية، وفي التقارير الإخبارية التي تستعرض سيرته الذاتية ولا بد أن يرافقها صور للمدينة وحاراتها التي ترعرع فيها وتخرج منها المطلوب رقم 2 أميركياً بعد أسامة بن لادن.
عندما دخل الشارع، انتابته رعشة حنين غير متوقعة. جال بنظره في الأرجاء؛ المشهد كان مشبعاً بكثير من الذكريات. عبير التي أحبها واختطفها منه رجل ثري ربما كانت في زيارة لأهلها، وتسير أمامه مع عشرات النساء المغلفات بالسواد، مثل الكثير من النساء اللائي أينما ولَّين وجوههن يقرأن تحذيرات من السفور: "أختاه الحجاب أو النار": في الباص، والتكسي، والسرفيس، والسوبر ماركت، والجامعة، وعلى أعمدة الكهرباء والهاتف، والجدران المرشومة كذلك بالأدعية والاستغفارات والفتاوى وكل مظاهر التدين الجديدة التي تجتاح البلاد.
تجلس صور الفواجع على عتبات ذاكرتنا، لا بد من أن نمر بها أولاً.
وهو يعبر الشارع الطويل باتجاه منزل أهله، يستعيد حازم صورة وليد، ابن جيرانهم الذي أصابته، فجأةً، حالة صرع واضطرابات نفسية وعصبية عنيفة، لم يبق "شيخ" يعالج بالقرآن أو حجب الطلاسم إلا وحمله أهله إليه. باعت أمه مصاغها الذهبي، وباع أبوه، موظف البلدية، سيارته وقطعة أرض له في إربد لعلاجه، صرفوا آلاف الدنانير في بيوت المشعوذين وأخصائيي "طرد الجن من الجسم"، قبل أن يأخذوه إلى مستشفيات الحكومة ثم المستشفيات الخاصة.
عجز كل الأطباء عن تفسير حالته، وذهبت كل الأموال التي صرفت على الأدوية باهظة الثمن هباءً منثوراً. قرر أبوه تقديم التماس للديوان الملكي كي يعالجه في الخارج، وقبل أن يأتي الرد كان وليد قد وجد العلاج النهائي بنفسه، ففي صباح يوم كانوني زمهريري البرودة، وجدوه معلقاً على عمود الكهرباء المقابل لمنزله؛ تسلل خلسة عند أذان الفجر، وشنق نفسه بحبل الغسيل.
كانت المرة الأولى في حياته التي يرى فيها ميتاً، جسده بدأ بالانتفاخ كورم عملاق، وعلى لسانه المتدلي وقفت كلمة وتجمدت، هكذا خيل لحازم الذي أفزعته الحادثة حينها لكنه بدأ بعدها باستيعاب فكرة الانتحار كعودة إرادية نحو العدم، وخلاص نهائي من الألم والمعاناة.
يترك عينيه تدوران في المكان، في البيوت المتراصة والأزقة الضيقة المعتمة المخاصمة لنور النهار.
كل شيء هنا مرتبط بحدث ما يسكن عمق ذاكرتي. هذه البيوت التي طالما فاحت منها رائحة الأسرار والخبايا، كنت أشمها دوماً من الحديث الجماعي الهامس لأمي مع الجارات، ما زالت كما هي تشحذ مخيلتي وتلهمها.
تباغته من آخر الشارع صورة نورا؛ أخوها وعمها يجرانها في الشارع والسكاكين تنهال على جسدها، لا أحد يجرؤ على الاقتراب، جريمة علنية لم يتخيلها يوماً ولم ير مثلها حتى في الأفلام السينمائية. هكذا رميت نورا الجميلة على الرصيف نازفةً حد الموت، ويكتمل حفل الذبح الهستيري بتوجه قاتليها منفوخين بفخر كبير لتسليم نفسيهما للشرطة.
كان في العاشرة من عمره، ربما سمع الكثير عن جرائم القتل التي تحدث في الخفاء بعيداً عن الأعين، في عتمة الأزقة ليلاً، أو خلف الأبواب المغلقة، لكنه سيدرك بعدها ما معنى تلك الجريمة، ولماذا ترتكب بكل فخر في وسط النهار، وضرورتها لعشيرة كاملة لا بد لرجالها أن يمشوا مرفوعي الرأس دائماً بشرف كامل غير منقوص، وكيف جاءت "المادة التكريمية" للقاتل في قانون العقوبات لتمنحه فرصة استضافة واحتضان من الدولة لمدة ثلاثة شهور يتباهى فيها بعظم جريمته وأهميتها أمام تفاهة جرائم نزلاء السجن؛ يمشي بينهم مزهواً كالطاووس؛ مأخوذاً بأصداء التهمة: "القتل دفاعاً عن الشرف"، تحيطه الأعين بإعجاب وإجلال، كيف لا، وهو الذي انتزع اعترافاً ببطولته من القاضي وقوانينه، ومن باقي المجرمين والدولة وأعراف المجتمع؟
ما أن وصل إلى منزل أهله حتى هاله الصمت المطبق. الباب ترك مفتوحاً، وفي الصالة جلست أمه وأخته سارة مع عدد من الجارات المستسلمات لرهبة الصمت، المشهد لا يشي إلا بفاجعة قد حلت عليهن. وما أن رأته أمه حتى قامت مسرعة باتجاهه تغالب ألم قدميها، وثقل حركتها. لاحظ هو في عينيها أثر بكاء وحرقة، فأستفسر بهلع عما جرى:
= "رامي، يا يمّه. رامي ابن سعاد".
وهو يذكر تماماً اليوم الخريفي الذي عاد فيه من المدرسة وعلى بعد عشرات الأمتار سمع زغرودة هستيرية تشق كآبة الأجواء. وعندما اقترب أدرك أنها صادرةٌ عن منزل أهله، فطرق الباب يأكله الفضول لمعرفة السبب، كانت أمه تدور راقصة وسط الدار، لم يلتفت إليه أحد، اقترب من أمه وأخذ يشدها من يدها.
= "يمة ايش فيه؟"
لم ترد، لم تعره اهتماماً أو حتى التفاته، وكأنها كانت في حضرة صوفية عزلتها عن محيطها المادي. اقتربت منه أخته وأخبرته:
= "سعاد حامل".
لم يفهم سر هذه الفرحة العارمة، وكيف يستدعي حمل امرأة كل تلك الزغاريد وذاك الاحتفال.
مرَّ على جارتهم سعاد عشر سنوات، باء سعيها وزوجها للحمل خلالها بالفشل، كانت تذبل كل يوم في حلمها الوحيد بمولود يبعث الأمل في حياتها التي سحقها ثقل الهم والتفكير الدائم. راجعت أطباء كثراً في عمّان والزرقاء، وأثبتت التحاليل أن زوجها لا يعاني أية مشكلات، وأن العقم يعود إليها، والسبب ضعف الإباضة، فوُصِفت لها أنواع مختلفة من الأدوية ومقويات الهرمونات ذات العلاقة بالإباضة، تحملت مضاعفاتها وآثارها الجانبية؛ جسدها الرشيق تورم وقامتها الهيفاء دفنت تحت كتل الدهون، يأست ووقعت في اكتئاب مزمن. كرهت جسدها وباتت تتخيل رحمها وقد استحال إلى كتلة من العفن تستقر في أسفل بطنها.
ساورتها أفكار جنونية: لم لا تمد يدها وتقتلع هذه الكتلة من جذورها؟ تنفض عنها هذا الأمل الكاذب، ثم تترك زوجها يرتبط بامرأة أخرى كما بدأت أمه وأخواته بإقناعه، وتستسلم هي لقدرها تذروها رياح الأيام أنّى اتجهت، إلا أن الأمور سارت باتجاه آخر؛ فقد فُتح أمامها باب أمل جديد بالإنجاب عندما أخبرتها جارتها طبيبة الأطفال في مستشفيات الجيش أنها سمعت عن أطباء في "المدينة الطبية" حازوا مؤخراً على البورد البريطاني في الأمراض النسائية والعقم، وأقاموا فترة طويلة في مستشفيات ومراكز بريطانية متخصصة في علاج العقم بأحدث الوسائل، وأنها ستساعدها بالحصول على إعفاء طبي، والعلاج عند أحدهم كالكثير من النساء اللائي تعالجن وأنجبن على أيديهم، وتلك هي المعجزة الإلهية التي حلمت بتحققها طويلاً.
وبعد سنوات مضنية من الألم والرجاء والخيبات تعالجت سعاد عند فريق الأطباء العسكريين، فحملت وأنجبت بكرها رامي، ومن بعده أنجبت ابنتين. بعد ولادته، نسجت سعاد الكثير من الأحلام على مهل؛ فما دام الحلم الكبير بالإنجاب قد تحقق، فلا ضير من أحلام وأماني أخرى. تخيلته طبيباً برتبة عسكرية عليا، مثل أولئك الذين عالجوها بعد طول عذاب وحرمان، وما زالت هيبتهم وقيافتهم العسكرية ووسامتهم الباذخة ماثلة في ذاكرتها، لكنه حصل على معدل لم يؤهله لدخول كلية الطب فالتحق بكلية العلوم في الجامعة الهاشمية.
بعد أشهر من دخوله الجامعة، بدأت سعاد تشعر بتغير كبير يطرأ على حياة ابنها وسلوكياته ومظهره، بات لا يبرح أحد المساجد البعيدة عن الحي، ويغيب لساعات طويلة. أطلق لحيته وحف شاربه مقلعاً عن بنطلونات الجينز والتيشيرتات مستعيضاً عنها بالأثواب القصيرة. إلا أن قلقها بدأ يتصاعد أكثر عندما أخبرها أبوه أنه يرافق ملتحياً يدعى أبو عثمان، يسكن في حي الغويرية في قلب الزرقاء منذ عودته من أفغانستان نهاية الثمانينيات، وأن المخابرات اعتقلته أكثر من مرة لعلاقته بخلايا سلفية.
حاول والداه إبعاده عن مساره الجديد وفشلا. ذات صباح، وقبل توجهه للجامعة، أخبرهما أنه سيذهب مع أصدقائه في رحلة إلى العقبة نهاية الأسبوع، فوافقا ورحبا على أمل أن يبتعد قليلاً عن الشيخ أبو عثمان ويستعيد بهجة شبابه وألق روحه.
لم يساورهما أي شك في أمر مريب سيحصل. سافر صباح الجمعة على أن يعود إلى البيت مساء السبت. إلا أنه لم يعد، وحل يوم الأحد دون عودته، اتصلوا بموبايله فكان مغلقاً، تصاعد القلق ودبت الشكوك بقوة في تفكيرهما. بدأت شقيقته، وبالاستعانة مع أبناء الجيران، بجمع أسماء رفاقه. اتصلوا بهم جميعا ولم يحظوا بإجابة مطمئنة. شمس الأحد غابت دون أن يعود أو يتصل بهم. بدأ الخوف ينهش قلوبهم ويفقدهم صبرهم، فأجهشت أمه بالبكاء طوال الليل.
وما أن أشرقت شمس الإثنين حتى كان أبوه في المركز الأمني يقدم بلاغاً، فاستدعته الشرطة بعد ساعات لتخبره أن ابنه قطع الحدود إلى سوريا منذ مساء الخميس، وليس برفقته أحد. وهنا ما كانت شكوك أرهقتهم على مدى يومين باتت يقيناً بأن ابنهم عزم الأمر على المغادرة دون عودة.
انتظروا أياماً إضافية بما تبقى لديهم من ضئيل الأمل، تواصلوا خلالها مع السفارة الأردنية في دمشق ومع السلطات السورية التي أفادت بمكوثه ثلاث ليال في فندق شعبي وسط دمشق ومغادرته إلى جهة غير معلومة. وفي نهاية الأسبوع المضني، جاء الاتصال الصاعق، مكالمة آخر الليل مع والده من خط "الثريا" المرتبط بالأقمار الصناعية.
كان المتصل رامي، قال بصوت مرتفع وبسرعة دون أي توقف وكأنه حفظ الكلام عن ظهر قلب: "قررت الجهاد يا أبي في سبيل الله ضد الصليبيين الكفرة، وأنا الآن مع إخواني المجاهدين في العراق، ادعي لي أنت وأمي. أستودعكم الله وسلامي لـ..."؛ إلا أن أحدهم أسرع بسحب الموبايل منه ثم قطع الاتصال، وهذا كل شيء.
أفسحت له أخته المجال للجلوس، لم يكن ليتحرج من الجلوس مع الجارات والاطمئنان على أحوالهن وتبادل بعض الأحاديث معهن. رحبن به وسألن عن أحواله رغم احتفاظهن بتعابير وجوههن التراجيدية، ثم خيم الصمت من جديد لثوانٍ قبل أن تبدأ أمه بسرد ما حدث، إذ ارتاحت تعابير وجهها قليلا، وتهيأت للكلام دون دموع:
= "ليلة أمس، ما حد نام في الحارة والله. آخر الليل، وأنا بحط راسي عالمخدة بدي أنام، سمعتلك صوت صريخ، وحده بتنادي: يا رامي. يا رامي. ارجعلي يا حبيبي يا يمّه. فتحت الشباك حتى أتأكد من الصوت، عرفت إنها سعاد، فكرت –لا سمح الله- إنه رامي مات أو صابه مكروه، وبعد أقل من دقيقة صحيوا أهل الحي كلهم وركضوا زي المجانين، وسعاد بتصرخ وبتلطم وبتخبط على راسها وبتتعفر في تراب حوش الدار زي اللي مسها جن، وكل الرجال والنسوان وبناتها وزوجها ما قدروا يهدوها".
يتعالى مقدار الألم في صوتها، وتطفر عيناها بالدموع مرة أخرى، ثم تستأنف كلامها واصفةً المشهد وهجوم أهل الحي على منزل الفتى الهارب، وتحلقهم حول أمه يرقبون انهيارها العصبي بعيون ذاهلة.
= "وأنا كمان يا يمّه، طلعت فارعة دارعة على بيتهم. إنت عارف، والله سعاد زي أختي ورامي مثلك يا يمّة ربيته معها".
تقطع كلامها بتنهيدة طويلة ثم تعاود الكلام:
= "ولما وصلت خبروني بناتها إنه أخوهم هرب على العراق علشان يجاهد". وتأخذها نوبة بكاء.
طرقات خجولة على باب البيت. يعود الصمت وترنو كل الأنظار نحو الباب بفضول بالغ. يسارع حازم إلى فتحه. إنها نهلة، جارتهم المسيحية، مضى على سكناها وزوجها في العمارة نفسها التي يقطونها أكثر من عشر سنوات.
تدخل نهلة بفستان رمادي غامق طويل يضيق عند خصرها وثدييها المكتنزين، امرأة في أواخر الأربعينيات من عمرها بدأت التجاعيد تنمو على رقبتها، إلا أن وجهها ما زال وضيئاً، تلقي السلام وتجلس في حزن فيضفي حضورها على المشهد مزيداً من السوداوية، تستمع صامتةً لتعليق الجارات على ما حدث، إلا أن ذلك لم يطل. فبعد تنهيدة صغيرة بصوت خفيض، علقت:
= "كل يوم صرنا نسمع عن شب هرب للجهاد مع الإسلاميين، بصراحة مساجدكو صارت كلها شيوخ إرهابيين –بلا مؤاخذة- وهمه اللي بحرضوا الشباب على هالحكي".
ترمقها بعض الجارات بنظرات زاجرة فتدرك أنها لو أكملت لأنقضضن عليها، تصمت لثوانٍ ويبدو الارتباك على وجهها، وفجأة تقوم مسرعة معتذرة عن انتظار الشاي:
= "والله كنت بدي أطمئن على المسكينة سعاد، يالله، بالإذن. الطبخة على النار".
تغادر مسرعة تلاحقها عيون الجارات المتوعدات لها في سرهن بـ"بهدلة" في أقرب فرصة.
يغادر حازم الجلسة إلى غرفة الجلوس ذات الفرش الأرضي، والتي يسمونها غرفة "الجلوس العربي"، وفيها أبوه المتقاعد الذي تجاوز الستين من عمره بسنوات قليلة، وأخوه خالد الذي يدرس الاقتصاد في الجامعة الهاشمية، أما أخواه يزن وعلي؛ فالأول كان قد التحق بالأمن العام حديثاً، وبعد تخرجه مباشرةً في كلية الآداب، والثاني موظف في مكتب سياحي ويقضي نهار الجمعة عادةً مع أصدقائه في مكة مول.
وحدها سارة المتفرغة لخدمة البيت، تخرجت قبل سنتين في الكلية الجامعية المتوسطة، درست فيها تكنولوجيا المعلومات لكنها لم تحصل على وظيفة، وهي مخطوبة وتتهيأ للزواج بعد أشهر، والالتحاق بزوجها الذي يعمل مهندساً في دبي.
يتسمّر والده أمام التلفزيون ليل نهار، يتنقل بين المحطات: "الجزيرة"، "العربية"، وبعض القنوات الدينية التي باتت تلقى رواجاً، وأبرزها قناة "اقرأ". ويوماً بعد يوم، يزداد والده تديناً، يتابع شيئاً من جلسات محاكمة صدام حسين، ثم يعود لمتابعة درس ديني أو برنامج فتاوي، ثم نشرة الأخبار على رأس الساعة، وهكذا يمضي يومه.
يعانق ابنه دون أن تبدو عليه علامات التأثر بما جرى في الليلة السابقة، ثم يخفض صوت التلفزيون متوجهاً إلى حازم في الحديث:
= "والله يا ابني كل ما حل في الأمة سببه ابتعادنا عن الله".
هذا دأب أبيه في كل جلسة معه، يخصص جزءاً كبيراً منها لمحاضرةٍ في الدين والإيمان. كان مؤمناً منذ شبابه ذلك الإيمان الفطري غير المعقد؛ كان ووالدته التي جبلت منذ طفولتها على أجواءَ وأفكارٍ تحررية لأن والدها كان رجلاً ليبرالياً منفتحاً، عمل في قطاعات مدنية عدة، وسافر إلى الكثير من الدول، يحرصان على متابعة الأفلام الحديثة المعروضة في دور السينما العمّانية، وأهمها -وقتئذٍ- "زهران"، و"الحسين"، و"الخيام"، وغيرها.
كان ذلك تقليداً حرصت عليه عائلات عمّان بانتماءاتها الطبقية ومستوياتها المادية كافة: عائلات العسكر، وموظفي البريد، وعمال البلدية، إلى جانب عائلات الوزراء، وأعضاء البرلمان، ومدراء البنوك، وأعيان المدينة، طقس وتقليد مقدس استمر حتى بداية الثمانينيات وظهور الفيديو بالتزامن مع موجة تدين جديدة متدثرة بغطاء العفة والأخلاق وتجنب الشبهات.
وبعد حرب تحرير الكويت عام 1991، وتحطيم العراق، باتت الموجة ثقافة راسخة عمادها المقدسات الكثيرة والمتكاثرة باستمرار.
أخذ تدين أبيه ينحو بعدها إلى اتجاهات يقينيةٍ مطلقة ترفض النقاش، وتحض على الالتزام بأوامر الدين حرفياً، وكما هي، وقد تعمق توجهه ذاك أكثر بعد سقوط بغداد.
أمه لم تتعمق في التدين كثيراً، كانت تحن دائماً لزمن السينما وأفلام فاتن حمامة وعبد الحليم حافظ وحفلات أم كلثوم عبر راديو "صوت العرب"، وخطابات جمال عبد الناصر الرنّانة. لكنها، وهي التي تقف على أبواب الستين عاماً، تحتفظ في خلدها بإيمان الأمهات؛ إيمان الخوف على الأغلب، إلى جانب حنينها للماضي الذي تبوح به بحذر دائماً.
أعدت له أمه على عجل "المقلوبة" التي يحبها، على المائدة استمر أبوه في حثه على الصلاة، شدّد كثيراً عليها وحذره من التهاون فيها، ضرب له الأمثلة حول الشباب الناجحين والموفقين في أعمالهم ضمن نطاق الأقارب والجيران والمعارف، ذكّره أنهم جميعاً ملتزمون بالصلاة وحريصون عليها، وأن الله وفقهم من أجل ذلك، وحذره كذلك من صداقة السياسيين العلمانيين. بات ينظر إلى كل الحركات السياسية في البلد على أنها حركات علمانية تطالب بدولة مدنية لا تحكم بشرع الله:
= "والله، يا ابني، ما ضيعنا إلا هالحركات وابتعادنا عن الله، علشان هيك إسرائيل هزمتنا ورح تهزمنا أكثر. صدقني".
حضه على عدم استغلال وحدته وحريته لارتكاب "المعاصي والآثام". أطال في محاضرته ومواعظه، وفي نهاية حديثه لمز لمرض حازم القديم، فقال له إن المؤمن الحقيقي لا يمكن أن يشعر بالاكتئاب والحزن، وأن السعادة الحقيقية هي بالإيمان وتسليم الأمر كله لله.
هكذا يخرج من كل جلسة مع أبيه؛ متأرجحاً بين الإيمان واللاإيمان؛ بين التصديق والتكذيب، وكلتا الحالتين أكبر بكثير من احتماله. في الحقيقة، كانت تلك الميتافيزيقيات تحتل في ذهنه حيزاً كبيراً، استقرت مداراً لأفكاره بعد تراجع نشاطه السياسي الذي وسم تفكيره بالشك الدائم والشعور بالخيبة وعدم الاستقرار.
= = =
في الخارج، بدأت الظلمة الكثيفة في الهبوط. مرت عصبة نساء يتحدثن عمّا حصل، توقعت إحداهن أن تُجن سعاد أو تموت، نهرتها أخرى: "بعيد الشر، الله يطمن قلبها ويردلها وحيدها".
على الرصيف الذي سحلت عليه نورا دفاعاً عن شرف العائلة وسمعتها، كان ثمة عدد من الفتيات ببناطيل جينز ومناديل ملونة يعدن مسرعات إلى بيوتهن، وعند عمود الكهرباء الذي أنهى عليه وليد عذابه، جلس مراهقون بنظرات تشيع الفتيات اللائي سرعان ما انطفأن في العتمة.
توجه إلى وسط المدينة، دخل حانة صغيرة فيها عدد قليل من الرواد يجلسون فرادى صامتين إلى طاولات ضيقة، ويغالبون بالبيرة والعرق والويسكي الرديء الجو الكئيب. شرب ربع ليتر من عرق حداد مع القليل من المكسرات، ثم استقل سيارة سرفيس إلى عمَان. سائقها شغل كاسيت لكاظم الساهر طوال الطريق، رفاقه في الرحلة شاب مراهق ورجلان ملتحيان، ظلا يستغفران الله ويتأففان طوال الطريق، خمّن أنهما شمّا رائحة فمه عندما تحدث للسائق، ولربما عبقت السيارة برائحة الخمرة على امتداد المسافة، أو أنهما تضايقا من صوت الأغاني.
ظل يفكر طوال الطريق: فمي المترع برائحة الخمرة، أم فم كاظم الساهر الصادح بأشعار "الزنديق" نزار قباني سبب كدرهما وتأففهما واستغفارهما على مدى الساعة الفاصلة بين الزرقاء والعاصمة؟
دخل المنزل حين تجاوزت الساعة الحادية عشرة بقليل، ألقى بجسمه فوراً على السرير دون أن يخلع حذاءه. كان "عرق حداد" قد وصل لذروة مفعوله. خيل إليه أن سكيناً تهوي على رقبته أو تسقط عمودياً من السقف لتخترق جسده فتثير ألماً فيه قدر من اللذة، ألم انتصار نهائي.
هل الموت ضعف وانكسار أم قوة وانتصار؟ راوده مثل ذلك السؤال الوجودي كثيراً على مدى سنوات، وبصورة مكثفة بعد آخر نوبة اكتئاب أصابته في نيسان من العام 2003.
= = =
- غلافة رواية الهامش
◄ خالد سامح
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ إصدارات جديدة
- ◄ روايات