عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 
أنت في : الغلاف » عود الند: العدد الفصلي 34: خريف 2024 » سلوكات لا تنتج باحثاً جيّداً

فراس حج محمد - فلسطين

سلوكات لا تنتج باحثاً جيّداً


فراس حج محمدتتراجع المدرسة عن أداء مهماتها البحثية بطريقة واضحة ومتعمدة؛ فالقانون العام الساري في المدارس؛ احفظ تنجح، أما أن تفكر وتبحث فهذه غائبة قصدا عن كل مراحل التعليم، فالمقرر المدرسي يتم التعامل معه على أنه مقدّس، لا يصح المساس به، وكل ما فيه مطلق الصحة. بهذه الرؤية المغلقة التافهة تم وضع كتب المقررات التعليمية، وبالطريقة ذاتها تم تدريسها، وبالتالي الإشراف عليها، ليضمن نظام الإشراف التربوي استقرار هذه الحالة من التسطيح التعليمي في المدارس؛ فأنفع الطلاب هم أكثرهم حفظاً، هؤلاء هم من يفاخر بهم النظام التربوي والاجتماعي، ويتقدمون الاحتفالات والمسابقات، ويسيطرون على المايكروفون في الإذاعة المدرسية، وينتقلون إلى الجامعة، فيحصلون على المنح والامتيازات على حساب الطلاب المفكرين الرافضين لفكرة التتفيه العلمي وتسطيحه؛ القادمين من مؤسسات تعليمية غير خاضعة لهذا النظام العقيم، أو ممن أتاحت لهم الظروف أن يعيشوا في بيئة وأسرة تقدّران التفكير العلمي والتفكير النقدي، ولا تستسلمان لهذا النهج المدمّر.

تكمن أهمية المدرسة في أنها يجب أن تضع أسس التفكير النقدي عند الطلاب، ليختبروا بأنفسهم صحة المعلومات التي يتلقونها، لتكون تلك منهجية تفكير تصبغ عقولهم وتؤهلهم ليكونوا- فيما بعد- طلاب جامعة باحثين، يقودهم الشك، أكثر مما يقودهم اليقين، ولأن هذا الأمر معدوم، فإنّ الطالب يذهب إلى الجامعة وهو غير مستعد لأن يفكر، فلا يستفيد من حياته الجامعية في صقل شخصيته السياسية والثقافية، بل يصرّ على أن يكون سِنّاً مخفيا في دولاب المجتمع الجامعي ليتحول- كما جموع الطلبة- إلى قطيع موازٍ لقطيع المجتمع الساعي لأن يعيش الحد الأدنى من الكفاف وتوفير الاحتياجات المادية اليومية، وكذلك الطالب الذي أدخلته السياسة المرسومة في البلد أن يظل على أعصابه، باحثا عن مصروفه اليومي وثمن تذكرة السفر، وثمن الكتب وتوفير القسط الجامعي، فما يعيشه المواطن من دوامة خارج أسوار الجامعة يعيشها الطالب داخل أسوارها، فيؤدي به هذا إلى عدم الاندماج الكافي في التعليم الجامعي، فتتضاءل أمامه الأهداف، ويساعده على ترسيخ هذه الدوامة أساتذة جامعيون كسالى وانتهازيون، فتتحول الدراسة إلى نوع من "الحفظ المبرمج" وإفراغ المخزون في ورقة الامتحان، ولكم أن تتخيلوا طالبَ بكالوريوس لا يتقن كتابة البحث، ولا يتقن الكتابة أصلا، ويتخرج في الجامعة وهو مؤهل شكلا ليكون في مواقع حساسة في هذا المجتمع، وأخطر هذه المواقع على الإطلاق أن يكون معلماً في مدرسة أساسية.

في الجامعة، كما في المدرسة، لا يبدو أن الطالب قد تغيّر في سلوكاته، لقد ظل متنمراً، وظل متفلتا من النظام، ويريد أن ينجح بالواسطة والمحسوبية، ويصعد على أكتاف التنظيم السياسي، إنه شخص بالمجمل عديم المسؤولية، يظل بحاجة إلى من يسنده. ويستوي في هذا، الطالب الفقير المشار إليه في الفقرة السابقة، والطالب الغني، أو صاحب الجاه، لأن من انعدم لديه الجاه الاجتماعي، فالجاه التنظيمي حاضر، وقد يتغلب في الحالة الفلسطينية المتدهورة على الجاه الاجتماعي، فالمجتمع الجامعي تحكمه سلطة التنظيم أكثر مما تحكمه قوانين الجامعة، ولذلك فالجامعة لا تُخرّج طلاباً ناضجين عقليا ونفسيا، فانعكس هذا على الطلاب الذين تتيح لهم الظروف أن يكملوا الدراسة في برامج الدراسات العليا، إنهم يحملون العبأين معاً، وينوءون بهما، وهم يظنون أنهم أصبحوا باحثين جيّدين أو يمكن أن يكونوا باحثين جيّدين.

لن يكون هؤلاء الطلاب باحثين جيّدين لأنهم مقيّدون فكريا، فالمنطق الاجتماعي العامر بالغيبة والنميمة والحقد والاستهانة يرافقهم في أروقة البحث، فلا يرون المشكلات المهمة الراهنة التي يجب أن يبحثوها في مجتمعهم، فيبتعدون- ترفّعاً- عن هذه المشكلات البحثية إلى الارتداد نحو التجريد التنظيري في مسائل لا علاقة لها بالواقع، حتى لا يضطر هؤلاء الطلاب التافهون إلى أن يغوصوا في مجتمعاتهم ليفهموها، وليساهموا في وضع حلول معينة أو على الأقل الإضاءة على تلك المشكلات لوضعها بين يدي المسؤولين، فعندما يفكر الواحد من هؤلاء أنه سيتعامل مع أحد ما من مجتمعه ليجري مقابلة أو تطبيق استبانة، ينفر من ذلك أشد النفور وكأن تيارا كهربائيا شديدا ضربه بعنف. هذا النوع من الباحثين الشكليين لن يفيد نفسه ولا يفيد مجتمعه وستظل عدة الباحث لديه قاصرة وغير ناضجة، وسيظل يعاني كذلك من خلل تركيبيّ في بنيته الذهنية.

لا يقف النفور من المجتمع المحلي للباحث على الترفع عن بحث مشاكله، بل إنه ينفر من أن يدرس شخصياته، ويساعد الطاقمُ الأكاديميُّ الأعمى على هذا، بحجة أن "الشخص المعين" غير مشهور، وكرّس هذا الطاقم عرفا عاما في الدراسة يكاد يقارب القانون المتفق عليه دون أن يكون مكتوبا أن الشخصية المشهورة هي التي يجب أن تدرس فقط. والمشكلة أن الشهرة والمعرفة تقاس بالمعرفة الفردية لأحد أفراد الطاقم الأكاديمي الغبي المنغلق الذي لا يتابع ما يجري، ولا يستطيع أن يحكم على الأشخاص الفاعلين في هذا المجتمع الأكبر، ووقف علمه عند حدوده طالبا جامعيا في المرحلة الأولى، وغابت عنه التطورات الهائلة في كثير من المجالات العلمية والثقافية والاقتصادية، فأحدهم مثلا لا يعرف ما يصدر في بلده من كتب تخصه، أو مجلات أو صحف. إنها كارثة أكاديمية فكيف لهؤلاء أن يخرّجوا طلابا باحثين جيّدين؟

ويتّصل بهذه المسألة حد كبير من اللا مهنية، عندما ينفر باحث ما من بحث زميله، فيستبعده من مراجعه، على الرغم من أنه قدّم بحثا جيدا في ما يتصل ببحثه، وذو علاقة مباشرة بالبحث الجديد لهذا الطالب، لكن نفوره الاجتماعي منه، لأنه "فلان" ابن "فلان" ويعرفه جيّدا، فهذا كفيل بأن يستهان به وببحثه، على الرغم من أنه يلجأ إلى أبحاث أقل قيمة في البحث الجديد. إن هذا يقدح في شخصية الطلاب، فعدا أنهم غير موضوعين فإنهم أيضا لا يمنحون هذا الباحث أو ذاك ما يستحقونه من إشارة واستفادة، وفي نهاية المطاف فإن الخسارة على الطرفين، فالباحث الأول من حقه علميا أن يذكر في أي بحث جديد، وأي باحث لا يعود إلى البحوث السابقة يعد هذا مثلبة ونقصاناً ينالان من شخصيته البحثية، ولأن الاستشهاد بالبحث السابق يمنحه أهمية مقدّرة في بروتوكولات البحث العلمي؛ فمهمّ جدا للباحث أن يعاد استذكار بحثه والبناء على ما توصل إليه من نتائج، فهذا حقه العلمي، ولعل الباحث إن اكتشف عدم موضوعية الباحث الجديد أن يعترض ويلفت نظر القائمين إلى هذا الخلل القادح في الطالب الباحث ومن أشرف عليه.

إنّ المشكلة الأكبر تكمن في استثمار البحث لمصلحة شخصية، فيتوجه هؤلاء الباحثون إلى الشخصيات المتنفذة، فيتخذون من البحث سلّما للوصول إلى هؤلاء، لعلهم وعساهم ينالون الرضا لديهم يعد أن يتخرجوا، فيحصلون على الدعم الكافي للعمل أو لتطوير الذات، وقد أنتج هذا التصور بحوثاً جيّرها معدوها لتكون في صالح هذه الشخصيات، فغابت المسؤولية البحثية والموضوعية مرّة أخرى، وستغيب في كلّ مرة يظن فيها هؤلاء الباحثون أن البحث يتعارض مع مصالحهم الشخصية، فيبتعدون عن "نبش عش الدبابير" في أبحاثهم لأن عقولهم مبنية على المصلحة الذاتية والانتهازية وتوظيف كل الإمكانيات لهذه المصلحة.

وهذه العقلية المبنية على المصلحة تجعل من الطلاب كائنات طيّعة، عديمة الشخصية، ولا تقوم ببناء ذاتها كشخصيات مفكّرة مستقلّة، فهي دائما على استعداد أن تعيد إنتاج مقولات المشرفين الأكاديميين والأساتذة والمحاضرين، فهم غير مستعدين لأن يعارضوا واحدا من هذه الجوقة، لأن أعضاء هذه الجوقة أولا غير ناضجين ولا يريدون طلابا يعارضونها، فيستخدمون سلاح التقييم للنيل من الطلاب ودفعهم إلى التدجين، وثانيا لأن هؤلاء الطلاب عندما دخلوا الجامعة لم يدفعهم إلى الانتظام في صفوفها الرغبة في البحث لتحقيق آمالا علمية، وإنما لأنهم يريدون الحصول على الشهادة، بمعدل عالٍ، شَرَفيّ، ولا يهم إن كانوا باحثين جيّدين أو لا، فآخر ما يفكرون به البحث والنزاهة والمسؤولية العلمية والأخلاقية. إن مثل هؤلاء الطلاب لا يدركون أن الباحث همّه أن يفهم ما حوله؛ ليصبح أكثر قدرة على التعامل مع محيطه، فالبحث يوسّع الأفاق الفكرية، لا يضيّقها، ويعيد بناء الذات لتكون أكثر تقبلا للآخرين واختلافاتهم المنهجية والفكرية، ولولا هاتان العلامتان لانعدمت أهمية إجراء البحوث وتعميمها.

عدا أنه لو درس باحث جادّ المنتجات البحثية لهؤلاء الطلاب فسيجد أنها أبحاث هزيلة، في بنيتها العامة، متهاوية فيما تقوم عليه من منطق علمي ومنهجية بحثية وأدلة عقلية، وتفتقر إلى الدقة العلمية، وتوظيف ما يلزم من اصطلاحات تخص الدراسة ومنهجها، كما أن النقل فيها يتم على ذمة الباحث السابق، فيتم التعامل مع المراجع كما وجدها في البحوث السابقة، دون أن يتكلف عناء البحث عن تلك المراجع، وإحضارها وقراءة ما يخصه منها، فيظل منقادا إلى اقتباسات الآخرين وتوجهاتهم الفكرية في فهمهم من المراجع ذات الصلة، ويزيد الطين بِلة عندما يحشر أحد هؤلاء الطلاب مراجع معينة في البحث لم يعودوا إليها بتاتاً، وإنما من أجل إرضاء المشرف أو عضو هيأة التدريس أو لمجرّد تكثير المراجع، لأنه قد استقرّ في وعي كثير من هؤلاء أن البحث كلما زادت مراجعه فإنه سيرتفع في تقييمه، وبالتالي فالنتيجة تحقيق الغرور الشخصي للباحث في حصوله على تقييم عالٍ لبحثه، ولأن المشرفين الأكاديميين كسالى- غالباَ- بطبيعتهم، فإنهم لا يقومون بفحص ذلك بمنهجية تكشف عن الخلل، وإنما يكتفون بالشكليات، ويتم التقييم بناء عليها.
إن هذه السلوكات غير الموضوعية التي تسم عمل الطلاب الجامعيين هذه الأيام، لا يتحمّل وزرها الطلاب وحدهم، بل يتحملها النظام التعليمي برمته أيضاً، فعدا أن هذا النظام لا يفكر بالطلاب الجامعيين في كل مراحل التعليم إلا اقتصادياً، فإنه على سبيل المثال لا يمنح الوقت الكافي لإتمام البحوث، فما لدى الطلاب من وقت غير كافٍ لإتمام بحث جيد، وبالتالي فإنهم غير قادرين عمليا على التدرب الحقيقي على إنجاز بحوث جيدة، فالفصل الدراسي الذي يتيح للطلاب أن يدرس أربعة موضوعات، وكل موضوع يلزمه بحث لاجتياز المادة في وقت لا يتجاوز شهرين (مدة الفصل الدراسي في بعض الجامعات الفلسطينية). وحتى لو كان الفصل (16) أسبوعاً بهذا العدد من الأبحاث لن يكون بمقدار الطلاب إنجاز أبحاث بسوية عالية، فيلجئون إلى الموضوعات التقليدية المقتولة بحثاً فيصبح دورهم مقتصراً على التجميع والتوليف والقص واللصق من مصادر إنترنتية، وبقليل من الاهتمام والتبويب يصبح البحث جاهزاً. ناهيك عن عادة شراء الأبحاث من مختصين لا عمل لهم سوى إعداد البحوث، أو سرقتها دون أن يتكلف الطالب عناء قراءتها ومراجعتها، فلولا ما فيها من مخالفة بين التذكير والتأنيث بين باحثة سابقة جادة، وباحث مهووس بالسرقة لما ظهرت بعض هذه السرقات، نظرا لما أسلفته من كسل المشرفين الأكاديميين، فلم يبذلوا جهدا مقبولا لمراجعة البحوث والاطمئنان إلى جدتها وأصالتها.

لقد أنتجت المنظومة التعليمية الجامعية برعاية المنظومة المجتمعية الأوسع طلاباً لا يقدّرون مثل هذه القضايا، بل لا ينظرون إليها بأهمية، ولا يلتفت إليها إلا من كان باحثا جيدا مؤهّلا ينتبه لمثل هذه الأساسيات المتعلقة بشخصية الباحث، وكيفية إدارته للمعرفة، وتقليبها على وجوه متعددة، وهذا يلزمه باحث صبور، يعاني بلذة وهو يبحث عن مراجعه ويعدّ مواده ويشحذ همته ويستحضر أدواته، ليكون سعيدا وهو يبني على جهود الآخرين، ويتمتع بقدرة كبيرة على المناقشة الهادئة المتأنية المبنية على الأدلة وسعة الاطلاع، ولا يأنف من أي باحث، ويجب ألا يضع في اعتباراته البحثية إلا أخلاقيات الباحث الجيد، فيستبعد الحكم على الباحثين الآخرين من وجهة نظر سياسية أو دينية أو ثقافية أو اجتماعية، وليكن شعار الباحثين "الحكمة ضالة الباحث فأينما وجدها فهو أحق بها".

وأخيراً، إن كنتم تشكّون بما كتبته آنفاً، فاسألوا طلاب الدراسات العليا في الجامعات فسيخبرونكم بما هو أفظع وأبشع، وستدركون كم أن هذا المجتمع العلمي- مجازا- غارق في "نظام تفاهة" أشد مما تحدّث عنه د. آلان دونو فيما يخص الجامعات والبحوث الأكاديمية.

D 28 آب (أغسطس) 2024     A فراس حج محمد     C 0 تعليقات

بحث



5 مختارات عشوائية

1.  كلمة العدد 85: ظاهرة اليساريين سابقا

2.  عن لوحة الغلاف

3.  حالة الطقس في جهنم لهذا اليوم

4.  النقد الاستقرائي في أعمال الفنان عدنان يحيى

5.  فاكهة فلسطينية

send_material


microphone image linked to podcast



linked image to oudnad.net pdf_xive
linked image to oudnad.net/dox