فراس حج محمد - فلسطين
إضاءة عامة على نظرية نعوم تشومسكي اللغوية
توجه كثير من العلماء لدراسة ظاهرة اللغة، بوصفها نشاطاً إنسانياً متطوراً يدل على رقيّ الإنسان في سلم الحياة التي يعيشها، إذ تعتبر اللغة هي الفارق الأهم الذي يميز الإنسان من بين جميع المخلوقات. اللغة المقصودة هي المتعلقة بالنظام التواصلي الكامل بين أبناء الجماعة الواحدة المشتركين بالفهم، وينتمون إلى نظام لغوي واحد، كالعربية، والفرنسية، والفارسية، وما شاكل. وتختلف عما عرف عند علماء آخرين بلغات أخرى تواصلية كلغة الجسد على سبيل المثال، ولغة الطير والنحل والنمل، إنما اللغة المقصودة في هذه الوقفة هي اللغة التي يتحدث بها الناس حسب القواعد والأصول منطوقة/ مسموعة، ومكتوبة/ مقروءة، وتمكنهم من الفهم والإدراك والبناء اللغوي المتطور الذي نشهده بتنوعه المعرفي في الحياة. كل هذا له أصل واحد هو اللغة التي تعني "كل ما هو ممكن من معانٍ وترجمتها على هيأة كلام يُنطق- فيسمع أو يُكتب- فيُقرأ".
تقع التوليدية التحويلية للغوي الأمريكي نعوم تشومسكي (1928-) في موقع وسط بين نظريات اللغة، ما بين البنيوية الشكلية والسلوكية وما بين التداولية السياقية، لتقوم على دراسة النظام اللغوي العام الذي ينطبق على أية لغة في العالم. فهي- ككل النظريات العامة للغة- لا تدرس نظاما خاصا للغة ما، إنما تدرس اللغة بوصفها نشاطاً بشرياً، بغض النظر عن هذه اللغة والمتحدثين بها، ولذلك يمكن أن يكون لها تطبيقات على أية لغة؛ لها الصفتان الأساسيتان: المنطوق أو المكتوب إما معاً أو يكفي أن توجد صفة واحدة أو مظهر واحد فقط للأداء اللغوي لتكون هذه النظرية مفيدة في التحليل اللغوي لنظام تلك اللغة.
وبناء على ما سبق، فإن التوليدية التحويلية تدرس النظام النحوي للغة، وما يتحكم به من آليات إنتاج اللغة وتوليدها، والتعبير عن المعاني عبر كثير من القواعد التي ينطلق منها تشومسكي، تخطو هذه النظرية إلى أبعدَ مِنْ أن تكون اللغة مكتسبة من المحيط والبيئة التي يعيش فيها الشخص منذ كان طفلا، فعلى الرغم من أنّ الطفل يتلقى اللغة الأساسية بوحداتها الأولى "المركبات الاسمية والفعلية والأدوات" من المحيط الذي يعيش فيه إلا أن ذلك لا يفسّر تماماً النظام اللغوي المكتسب إذ يظلّ جانباً منه بحاجة إلى شيء آخر لتفسيره، وفي هذه الحالة يكون النظام العام الذهني العقلي الباطني هو المسؤول عمّا يتشكّل في ذهن المتحدثين، هذا النظام يتجلّى في تراكيب جُمْلية تبنى من هذه المركبات لتدل على المعنى.
وتقوم التوليدية التحويلية بدراسة تشكل الأداء اللغوي الناتج عن البنى الذهنية للغة التي تعطيها النظرية اسم "البنى العميقة"، وسميت بالعميقة لأنها تتشكل منذ الوعي الأول للغة في الذهن المجرد، وتصبح أساسا ذهنيا لإنتاج اللغة المتداولة في ما تطلق عليه النظرية مصطلح "البنى الظاهرة" أو "السطحية"، ومعنى سطحيتها هو أنها تقرأ وتسمع وتقال، أي أن لها تحققا فيزيائيا محسوساً، للتواصل به عبر أشكال متعددة من التواصل والاتصال.
وافتراق البنى السطحية عن العميقة هو فقط في التحقق الأدائي الظاهري من عدمه، فالمعرفة الضمنية المختزنة في الذهن أو في العقل هي معانٍ مجردة ذهنية قابلة للتشكل اللغوي الأدائي لتصبح سطحية ظاهرة لها واقع محسوس عند الأداء اللغوي. وإخراج المعرفة الضمنية التوليدية المختزنة في الذهن إلى التحقق الحسي للغة، بأي شكل كان، بسيطاً أو معقداً، مقروءاً أو مسموعاً أو منطوقاً، هو المقصود بعملية التحويل، ولا تفترض التوليدية التحويلية صيغة معينة لهذا المعنى لتكون أساسا تقاس عليها البنى السطحية، إنما هو معنى كائن في العقل فقط، ففي أيّ صورة تشكّل عليها في الأداء اللغوي تكون هي صورة من بنية سطحية ممكنة واقعية لتلك البنية العميقة، وتدرس عمليات التحويل من حذف وإضافة وتقديم وتأخير وغيرها من قواعد التحويل، بناء فقط على تلك البنية العميقة المجرّدة.
هذا الفهم للغة بهذا الشكل، يعيد اللغة إلى أهمية الوعي اللغوي الأول أو الإدراك الأول للغة، وكيفية بنائه، وهو ما اهتمت به النظرية عبر تشكلها الأساسي في ما تسميه "بالكفاءة" اللغوية أو الملكة اللغوية، وهو القدرة على التوليد الذهني لكمّ هائل من البنى العميقة التي تؤهل صاحبها لتخرج في بنى لغوية سطحية تؤدي مهام اللغة في التواصل البيني بين شخصين على الأقل، بينهما قاعدة مشتركة مؤسسة من البنى العميقة للغة ذاتها لتتم عملية التواصل بشكل صحيح وفعّال.
إذاً، هذه النظرية كفيلة بتفسير كيف تنشأ اللغة عند المتحدثين بها، وكيف تتطور، وكيف يمكن تطويرها أيضا، كما أنها تفترض الإبداعية في كلا الاتجاهين؛ القدرة الهائلة على توليد المعاني، والقدرة الهائلة غير المحدودة على التحويل بأداءات لغوية متعددة، وتكاد تكون غير نهائية. وهذا ما يفسّر قدرة أي شخص على أن يعبر عن المعاني التي في ذهنه، وأن يتحدث أو يعبر عن أي شيء يريده حتى ولو لم يسبق له أن مرّ به، بمعنى أن هذه النظرية تجيب عن سر التوسع في الأداء اللغوي دون أن يلجأ أحد إلى حفظ اللغة، ومعانيها العميقة كلها، فالاستعداد الفطريّ في الإنسان كفيل بأن يجعله توليديا وتحويليا حسب ما يريد من المعاني والأفكار.
أما الأمر الثاني المهم في هذه النظرية فهو التحليل اللغوي للبنى السطحية، أي الكلام المؤدى، كيف يمكن أن يكون وما هي قوانينه، لذلك، فهذه البنى تنطلق من قاعدة مهمة وهي طبيعة المركبات الداخلة في هذا الكلام، وتحلله بناء على مفهوم الجملة، لأن الإسناد أمر ضروري في هذه النظرية، إذ لا بد من مسند ومسند إليه سواء في الجملة الاسمية أو الجملة الفعلية، لأن هذه النظرية تفترض التواصلية؛ فلا بد من جملة ما أو كلام ما له معنى يؤدي غرض الأداء اللغوي، ولكن مع هذين العنصرين لا بد لاكتمال حلقة التواصل باللغة في بناها السطحية فالتفتت إلى مكملات الجملة من أدوات أو إضافات اسمية أو فعلية أو تقديم وتأخير في عناصر الجملة، أو حذف، إذا تلاحظ هذه النظرية ثلاثة أمور مهمة: مكونات التركيب اللغوي وتصنيفاته، وترتيبات هذا المركبات، وارتباطها مع النظام اللغوي الكلي المتصل بالبنى الذهنية/ العميقة. فهي إذاً تحلل وتصف وتفسر هذه البنى السطحية على أساس من البنى العميقة التي أنتجتها، ولذلك تلاحظ الحقيقة والمجاز والانزياح اللغوي، والمضمر وغير المضمر في البنى اللغوية التي يساهم في إنتاج الهدف من الأداء اللغوي بين الناس.
هذه العملية من التحويل المستند إلى البنى العميقة أنتج جملا بسيطة، وجملة معقدة، كما أنه أنتج جملا رئيسية تأسيسية، وأخرى فرعية ثانوية تابعة ومفسرة، بناء على التأسيس الذهني للبنى العميقة. بمعنى أكثر وضوحاً تلاحظ النظرية التوليدية التحويلية كل الأنشطة اللغوية المتحققة في الكلام التواصلي. وكل ذلك يسير حسب قواعد التحويل الجائزة أو الموجبة، وعليه فإنها تهتم بالصحة اللغوية أو ما تطلق عليه "الجملة النحوية" أي التي تتفق وصحة القواعد السليمة التي تلقاها الشخص في بيئته، سواء في ذلك الكلام الفصيح أو العامي، لا فرق بينهما، فكما أن للغة الفصيحة بنى عميقة تشكلها كذلك فإن للغة العامية بنيتها العميقة إذاً، ومن خلالهما الفصيحة والعامية ينتج الكلام في البنى السطحية، ويجب أن يكون الكلام المؤدى في الناحيتين مستقر في التواصل ولا يحدث خللا أو إرباكا عند التواصل، لأن كليهما له قواعد ذهنية ينطلق منها، هي الأساس في تحويل الكلام المؤدى ولا بد ألا يخرج عنه وإلا أصبحت عملية التحويل هنا عملية مربكة ومشوشة وغير صحيحة، وصارت منفكة عن مرجعيتها في البنية العميقة التي يفترض أنها تنتمي إليها وتحولت عنها. إذاً الذي يقرر "الصحة النحوية" هو النظام اللغوي النحوي الذي يحكم تلك البنى العميقة التي تشكلت على هذه الكيفية، وتجعل المتحدثين قادرين على الحكم على هذه الصحة من خلال ما تسميه "الحدس"، فيستطيع المتحدث التمييز- بناء على ذلك- الصحيح من الخاطئ في الاستعمال اللغوي، لأنه مؤسس بالتلقي المبرمج الأساسي منذ الصغر عبر النظام اللغوي في بناه العميقة، ولعلّ أقرب مفهوم لذلك عند العرب ما يعرف "بالسليقة اللغوية" المشهورة عند أبناء البادية قديما في صناعة اللغة وتلقيها أو حتى في المجتمعات المعاصرة وكيفية التعبير عن المعاني بأداء لغوي متوافق على صحته بناء على ما هو مختزن في الذهن من بنى عميقة.
والآن، يبرز السؤال المهم ما الذي يجعل الكلام المؤدى في "البنى السطحية" يظهر على شاكلته التي يتحقق فيها؟ أظن أن المرء يحتاج إلى أمر آخر للإجابة على هذا السؤال، ففرضا لو قال أحدهم: رأيتُ القمر بدرا هذه الليلة، وجاء آخر وقال: هذه الليلة رأيت القمر بدراً، أو بدراً رأيت القمر هذه الليلة. (وبالإمكان إنتاج عدد آخر من الجمل؛ لأن إنتاج الكلام المؤدى من البنى العميقة غير محدود). فإن التوليدية التحويلية تهتم بالتحليل إلى مركبات اسمية وفعلية وأدوات ومسند ومسند إليه، وإضافات على الإسناد وتلاحظ التغيير في موقع المركب، لكنها لا تقول لماذا حدث ذلك أو ما الذي يعنيه هذا. إنما هي تقف عند حدود الإنتاج غير المحدود من البنى السطحية دون أن تفسر لماذا حدث هذا على هذا الشكل، ولماذا استُخدم الفعل الماضي، مع أنها تنص على زمن الفعل عند التحليل لأنه تابع لمدخلات البنية العميقة لكنها غير معنية لماذا كان ماضيا، ولماذا استخدم المتحدث الفعل "رأى" وليس "شاهد" أو "ناظر" أو ما شابه. فهذه النظرية معنية بدراسة اللغة ومخرجاتها الأدائية بناء على التصور الذهني للغة لإحداث عمليات التواصل الفعال، أما أن تذهب إلى أبعد فهو ليس من أهدافها، إنما كانت تسعى فقط للكشف عن كيفية تشكل النظام اللغوي بناء على الاستعداد الفطري للغة أو ما تطلق عليه الكفاءة اللغوية أو الملكة اللغوية، ولذلك قلت في بداية الحديث أنها جاءت في الموقع المتوسط بين النظريات، لتأتي التداولية السياقية لتكمل عمل النظرية التوليدية التحويلية.
ولا يعني هذا بحال من الأحوال أن هذه النظرية قاصرة، إنما عملها مقتصر على تفسير طبيعة نشأة اللغة وكيفية تشكلها في الذهن، وفلسفتها قائمة على وجودية اللغة في منطقة الميتافيزيقيا وتجلياتها الفيزيائية، وهذه العلاقة الكامنة بين الصيغتين، المفترضة والواقعية، وعلى ذلك تبني استنتاجاتها اللغوية في الواقعين التجريدي والمادي.
ولا بد من الإشارة أخيرا إلى أن البحث اللغوي العربي قد شهد شيئا من هذا في عمل اللغويين العرب منذ ابن جني الذي درس اللغة وأهميتها وكيفية تشكلها وأجاب على سؤال التوقيفية في اللغة، أي أنه ناقش تشكل اللغة ولم يعترف بتوقيفيتها الجامدة، فكان للبيئة والتعلم والملكة والكفاءة والاستعداد الفطري دور في تشكل اللغة عند ابن جني، وحتى المفسرون، فقد اقترب بعضهم من هذا الفهم لطبيعة اللغة عندما فسروا قوله تعالى "وعلّم آدم الأسماء كلها". وتعليم آدم الأسماء كلها، كما قال فريق من المفسرين، هو أنه مجهز للتعامل مع الأشياء بمعرفة أسمائها، بالاستعداد الفطري، المجبول عليه، بمعنى آخر وبمصطلحات التوليدية التحويلية، تجهيز بنى عميقة في ذهن آدم، وأصبح بمقدوره بعدها أن يحول هذه البني في أداءات غير محدودة من الكلام، فالآية تقول بتعليم الأسماء، وليس تعليم نظام لغوي بكامله، ويشهد على صحة هذا التصور أو يدعم منطقيته على الأقل مظاهران لغويان؛ توسّع المعجم العربي الحديث، ولا نهائية البنى اللغوية عميقة وسطحية التي استخدمت في المؤلفات العربية المتنوعة شعرا وسردا وغيرهما من النشاط اللغوي التأليفي أو المحكيّ المتداول.
كما شهد البحث البلاغي العربي دراسة أحوال الجملة العربية في بعدها التركيبي كما في مباحث علم المعاني، عدا الدراسات النحوية المتطورة لدى النحاة العرب، أضف إلى كل ذلك الجهد العربي في دراسة المجاز والحقيقة أو مباحث الإعجاز البياني ونظرية النظم الجرجانية، وأخيرا ما عُرف عند المفسرين العرب باللغة النفسية، أي اللغة الكائنة في النفس، وليست اللغة المتصلة بأحوال الشخص من غضب وفرح على سبيل المثال، عندما تحدثوا عن لغة الخالق، كما في قوله تعالى على لسان عيسى عليه السلام "تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك" أي من معنى ولغة أي من بنى ذهنية عميقة- إن صحت مع عيسى عليه السلام، فلا تصح مع الخالق- لذلك قالوا باللغة النفسية.
وعليه، فإن البحوث اللغوية العربية ليس غريبا عليها هذا النوع من الدراسات وشهدته المؤلفات العربية، ولم تقف عند حدود البنيوية الشكلية الواصفة من الخارج بل تعدتها إلى طرق إنتاج المعنى (التوليدية التحويلية) إلى تفسير المعنى وتعليل إنتاجه على الشكل الذي جاء فيه حسب ما يتطلبه السياق فشهد "التداولية" وعرفها، وإنما لكل عصر أدواته البحثية ومصطلحاته، ومن يقرأ في كتب تفسير القرآن الكريم، وخاصة التي تنحو المنحى البلاغي كالكشاف للزمخشري قديماً، أو جهود الشيخ محمد متولي الشعراوي حديثاً في التفسير اللغوي، سيجد أنها تمر في النظريات الثلاث وتقاربها وتمس شيئا منها: البنيوية الشكلية، والتوليدية التحويلية، والتداولية السياقية، بل أحياناً تتطابق البحوث القديمة مع الحديثة إلى درجة مذهلة، تجعل الباحث يميل إلى أن هؤلاء اللغويين؛ تشومسكي وغيره قد اطلعوا على الدرس اللغوي العربي واستفادوا منه إفادات عظيمة، كما قيل عن استفادة العلماء في العلوم البحتة التطبيقية من استفادتهم إلى درجة السطو على الجهد العلمي العربي، وفي هذا قول طويل ومفصل، ليس هذا محلّ بيانه والاشتغال عليه.
◄ فراس حج محمد
▼ موضوعاتي