عدلي الهواري
كلمة العدد الفصلي 33: تنوير أم تمويه؟
هناك إصرار من دعاة ومشاريع "التنوير" في العالم العربي على إعطاء الانطباع أن الشعوب العربية تعيش في حال من الجهل الفظيع نتيجة السائد المتوارث من المعتقدات والممارسات بين المسلمين. لذا نجد أن "التنوير" صار يعني استهداف الدين برمته (الإسلام تحديدا) لأن التنويريين لا يعلنون أنهم لا دينيون. وإذا تساهل المرء فقد يقبل زعم أن الاستهداف ليس للدين ككل، بل معظم أو بعض ما هو متوارث وسائد من معتقدات لأنها في رأيهم مسؤولة عن ظواهر سلبية في المجتمع. هل هناك حقا حاجة لدعاة ومشاريع تنوير من هذا النوع؟ وهل سجل أبطال المشهد التنويري يشعر الجمهور المستهدف بالثقة في مصداقيتهم؟
لنبدأ ببعض الملاحظات عن الدين والتدين.
أولا: للدين أهمية في حياة البشر. لذا نشأت الأديان وتطورت مع مرور الزمن. ومع أن الالتزام بدين قد يكون لأسباب تخدم مصلحة سياسية أو مادية، إلا أن الالتزام بدين يرجع أيضا لحاجات نفسية وروحية. هناك من يلبي احتياجاته النفسية والروحية بوسائل أخرى، لكن أغلبية البشر تختار الدين. وقد يبدأ الالتزام به مبكرا، وقد يكون في مرحلة متأخرة من العمر، أو بسبب حدث في حياة الإنسان تجعله يجد في الدين ملاذا.
ثانيا: درجات الالتزام بالدين في كل المجتمعات متفاوتة. لذا لا يوجد في وقتنا الحاضر مجتمع عربي مسلم كل من فيه متدينون (وبالتالي "متخلفون" من وجهة نظر التنويريين) باستثناء قلّة اهتدت بعقلها وفكرها إلى نور العلم والمنطق ونمط العيش الصحيح. ليس من حق أحد تفتيش النيات والسرائر ليصدر أحكاما على صدق التزام الإنسان بالدين. من المؤكد أن هناك من يلتزم بالدين وما تمليه أحكامه من ممارسات التزاما صادقا ويحب الخير لنفسه ولبني البشر.
ثالثا: الدول في العالم العربي هي التي تطبق أحكام الدين، والخطاب الديني خاضع لتوجيهاتها، من خلال وزارات الأوقاف ومؤسسات الإفتاء والبرامج الدينية الإذاعية، وخطب الجمعة الموحدة، وغير ذلك. لذا التنويري المعترض على فكرة ودور الدين في حياة الناس عليه توجيه جهوده "التنويرية" نحو الجهات التي تحكم، والعمل على إقناعها بعدم تبني دين، وعدم تأسيس مؤسسات حكومية دينية وعدم الترويج لخطاب ديني. وحبذا لو جربوا إذا كانوا يتحلون بالشجاعة الفكرية حقا.
ولكننا نعرف أن أصحاب المشاريع التنويرية المعاصرة لا يستهدفون بتنويرهم السلطات الحاكمة، الراعي الرسمي للدين وخطابه. لذا سنفترض أن "التنوير" يستهدف أتباع جماعة مرجعيتها دينية. هنا يجب أن نشير إلى ملاحظات أخرى خاصة بهذا الجزء.
أولا: معظم الناس لا يمارسون تدينهم من خلال الانتساب إلى جماعات دينية، رسمية أم غير رسمية، معترف بها أم غير ذلك. أقصى ما يفعله أكثر المتدينين هو الاسترشاد بأحد المذاهب التي تعرف بأسماء أصحابها كأبي حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل. فعل ذلك لا يتطلب عضوية في جماعة دينية لها هيكل رسمي أو غير رسمي، معترف بها من السلطات أم غير معترف بها.
ثانيا: الجماعات التي توصف بأنها إسلامية ليست من نمط واحد لا في عموم العالمين العربي والإسلامي، ولا ضمن البلد الواحد. لقد ظهرت جماعات "إسلامية" تؤمن بممارسة العنف على أساس فتاوى وتنظيرات تجيز ذلك، ولكن ليس من الصعب تفنيد عدم صوابها. أتباع هذه الجماعات لا يمثلون أغلبية ضمن أتباع الجماعات ذات المرجعية الإسلامية. ويلاحظ أن جماعات العنف عرضة للانقسام، فيزيد عددها بهذه الطريقة دون أن يزيد عدد المنتمين إليها أو من يؤمن بأفكارها.
ثالثا: إن عنف هذه الجماعات وحده كان ولا يزال كافيا لإقناع الأغلبية الساحقة من المتدينين وغيرهم أن هذا ليس من الدين في شيء.
رابعا: جماعات العنف ذات الخطاب الديني منشغلة بمحاربة بعضها بعضا، وتخوض حربا في الوقت نفسه مع من تعادي من جماعات وأنظمة. ولا ننسى أن ظهور بعض هذه الحركات ارتبط بالصراعات السياسية عالميا وإقليميا ومحليا، وخاصة منذ الغزو السوفيتي لأفغانستان عام 1978.
بناء على ما سبق، فإن المتدينين غير المنتميين إلى جماعة رسمية أو غير رسمية، وكثير من المنتمين لجماعات من هذا القبيل، ليسوا بحاجة للجهود التنويرية. أما الأقلية التي تمارس العنف فلن تتوقف عن ممارسته عن طريق التشكيك ببعض أو كل ما يتعلق بالدين، وهي في الأصل لم تكن ممن يفضلون أسلوب الحوار والموعظة الحسنة.
رغم ما ذكر أعلاه، هناك إصرار على مشاريع تنويرية متعلقة بالدين، رغم عدم وجود حاجة في المجتمع إلى ذلك. فلماذا الإصرار عليها؟
على الصعيد الفردي، الذي يعجبه القيام بدور تنويري لا حاجة حقيقية له هو فرد اختار لنفسه في الحياة خيارا سهلا، رغم أن هذا الاختيار لا يخلو من المخاطر. هذا الفرد يريد أن يتميز بأن يكون حول رقبته هوية تقول إنه تقدمي، ومتقدم فكريا عن الآخرين، وسابق عصره أيضا.
الجانب السهل في الموضوع أن هذا التنويري يخوض معارك دونكيهوتية في جانب منها، واستفزازية في جانب آخر. يعود أو تعود إلى كتب تاريخية أو فقهية ويوجه السهام إلى مؤلفيها الذين غادروا دنيانا قبل مئات السنين. الأساطير الإغريقية تتحدث عن آلهة وصراعات بينها. لا أحد يمنع باحثا من نقد ما ورد عن تاريخ الإغريق وأساطيرهم. هذه نشاطات فكرية مهمة، ولكنها لا تتم ضمن مشروع يزعم أنه يريد تنوير أهل اليونان حاليا.
المشاركون في المشاريع التنويرية هم أيضا شركاء في معارك يفتعلها الممسكون بالسلطة غايتها حرف الأنظار عما هو أهم للمجتمع، وإشغال كثير من الناس بنقاشات لا طائل منها حول أمور حدثت قبل قرون، وعدم الحديث عن الأوضاع في البلد، أو التفكير بالمطالبة بحريات أكثر أو مستويات أفضل من الرعاية الاجتماعية، أو زيادة المشاركة في الحياة السياسية، وما إلى ذلك من أمور لها تأثير مباشر على حياتهم اليومية ومستقبلهم ومستقبل أبنائهم.
"التنويري" الذي يتحدث عن مشاريع تنوير ذات علاقة بالدين في وقت يشهد إبادة جماعية لأهالي غزة، أقضت مضاجع أصحاب الضمائر الحية في العالم، شخص يحتاج تفكيره إلى تنوير ليستطيع التمييز بين الأولويات، فالمستنير حقا مكانه في تيار أصحاب الضمائر الحية الذين يعارضون الإبادة في غزة.
أثناء حرب الإبادة في غزة شاهد الكثير من الناس في مختلف أنحاء العالم بإعجاب كيف كان للإيمان دور مهم في ردود فعل الكثير من أهالي غزة على استشهاد أحبتهم أو تدمير بيوتهم. وكان من نتائج ذلك تقديم صورة للمسلم تناقض صورة الإرهابي التي اعتادت عليها شعوب من غير العرب والمسلمين، وخاصة في الدول الغربية. ليس هذا فحسب، بل إن هذا الثبات رغم الأهوال دفع أيضا كثيرين للتعرف على الدين الذي يمنح هذه القدرة على الصبر والثبات.
المستنير لا يتجاهل كل مشكلات المجتمع السياسية والاجتماعية والاقتصادية الحالية، ويواصل نبش الماضي لينتقي منه ما يثير الجدل والاستفزاز، فيجد في ردود الفعل على استفزازاته دليلا على صواب مزاعمه بشأن الدين والمتدينين.
المستنير حقا يعطي الأولوية لتوجيه جهوده الفكرية ومشاريعه نحو تحقيق مصلحة المجتمع من خلال الحماية من الفقر، وتوفير الرعاية الصحية، وتوفير التعليم الجيد على كل المستويات، وبناء مجتمع يتمتع بالحريات.
أما المشاريع التنويرية المعاصرة التي تستهدف الدين فهي في الواقع تزعم التنوير في حين أنها تساهم في حماية احتكار السلطة، وعدم الاعتراض على تفشي الفقر، وتناقص وتدهور الرعاية الصحية، وكذا الحال بالنسبة للتعليم.
تريد أن تنوّر الشعب أيها المستنير؟ جرب/ي توجيه جهودك نحو مكافحة الفقر وتقديم الرعاية الصحية والحرص على التعليم وجودته، ورفع مستويات المعيشة، وتوفير وحماية الحريات وتوسيع المشاركة في الحياة السياسية. سوف يسطع النور في كل مكان.
◄ عدلي الهواري
▼ موضوعاتي
- ● كلمة العدد الفصلي 34: أعذار التهرب من المسؤوليات السياسية والأخلاقية
- ● كلمة العدد الفصلي 32: حكّم/ي عقلك وأصدر/ي حكمك
- ● كلمة العدد الفصلي 31: قيم لا قيمة لها
- ● كلمة العدد الفصلي 30: النقد والمجاملات
- ● كلمة العدد الفصلي 29: عن الذكاء الصناعي (والغباء الطبيعي)
- ● كلمة العدد الفصلي 28: الورق والتمويل: وصفة الانتحار البطيء
- ● كلمة العدد الفصلي 27: الموارد الرقمية بين المكتبات والمواقع المفتوحة: مقارنة
- [...]