حيدر الغزالي - فلسطين
يوميات
غزة: ملف العدد 33
تجربتي مع النزوح خاصةٌ جداً، فقد نزحتُ إلى جنوب القطاع عشرة أيام، ثم عدتُ بعد انكشاف زيف المنطقة الآمنة هناك، إلى بيتي؛ لأعيش أسوأ ما يمر على الإنسان طيلة حياته، من اقتحامات عسكرية مستمرة، وحصار، وجوع، وتشرّد. كان وجعنا مركباً، كأنك تنال كلّ نصيبك من الوجع دفعةً واحدة.
حين خرجتُ من بيتي —بعد عودتي من جنوب القطاع— كانت لا تزال الدبابات في الطريق إلى حارتنا، تشقّ أرضها بالموت والكراهية والرصاص، رحنا نركض خارج حيّنا إلى بيت جدي، وفي الليل كانوا قد وصلوا حتماً، فأصوات الرصاص تأتي من هناك، والقذائف لا تتوقف.
كانت الأخبار تتحدث عن عدد كبير من الشهداء، وأنّ الجثث قد ملأت الطرق والشوارع، كنت لا أنام طيلة تلك الفترة، شبكات الاتصال ضعيفة، ولم أكن أستطيع التواصلَ مع أي أحد.
من مات من أصدقائي؟ من تُركت جثّته باردةً على بلاط الشوارع؟ كنت أسأل.
الحارة التي كبرتُ في شوارعها، ومزّقت ركبي حجارتُها، صارت الآن مقبرة، تضيق بطفلٍ قُتِلَ أبوه عند مكانه المفضل على عتبة البيت.
أصعب اللحظات حين تتخيّل أصدقاءك حتى الذين عرفت أنهم نجوا فيما بعد —وهم جثثٌ على الرصيف والطرقات، خصوصاً حين لا يردون على هواتفهم التي ترن أحياناً.
في إحدى تجارب النزوح الصعبة، كان تعدنا أمي في كل شارعٍ ومنعطف، كان صوتُها يعلو كلما تفرقنا في الزحام: "حيدر، حمزة، ريماس: معي؟" وكنا نجيبها بصوت أعلى من القذائف.
كنا نمشي والرصاص فوق رؤوسنا، وشظايا القذائف تقتلُ وتصيب. لم أكن خائفاً، فحين عقدت جدتاي أذرعهما في ذراعيّ، ومشيت بينهما فوق الركام، كنت أشعرُ أنني عشت عمراً كاملاً.
ماذا يعني أن تنزح، ماذا يعني أن تهاجر؟
يعود الفلسطينيُّ بعد أكثر من سبعين عاماً من النكبة إلى ذات الحيرة، هل في البقاء تحت النار وبين الدمار نجاة، أمّ أن النجاة ستكون حتميةً في المنافي؟ كلما فكّرتُ في البقاء تذكرتُ مستقبلي وأحلامي التي تتدمر، وكلّما فكرت في الغربة اشتقتُ إلى بلادٍ غادرت نفسها.
كان على هذه الحرب أن تأتي، أنْ تعلمَنا معاني الأشياء في تناقضاتها، أن تعلمنا الحياةَ في حضرة هذا الموت، وقيمةَ الطعامِ في حضرة المجاعة، أن تعلمنا الحبَّ تحت وطأةِ الغياب، أن نتسامحَ مع أجسادِنا في حضرة الأشلاء، أن ندركَ دفءَ البيت في برد الخيم، كان على هذه الحرب أن تأتي، وعليها الآن أن تتوقف.