عدلي الهواري
كلمة العدد الفصلي 20: عود الند تكمل عامها الخامس عشر
بمزيج من الارتياح والاعتزاز أعلن وصول مجلة "عود الند" الثقافية إلى محطة خمسة عشر عاما من النشر الثقافي الراقي، عشرة منها كمجلة شهرية، ثم خمسة كدورية فصلية. سبق وصول هذه المرحلة الكثير من الترقب، خاصة في العام 2020 الذي شهد وباء كورونا وسلالاته فأصبح بنو البشر في مهب الريح بسبب فيروس يقرر أن يفتك بالإنسان دون رحمة، أو يصيبه بأعراض خفيفة تشبه الإنفلونزا.
ولكن الترقب سبق اجتياح كورونا وسلالاته العالم، فقد كنت تواقا للوصول إلى هذه المحطة فهي تعني لي الكثير. كذلك، كنت أفكر في مسيرة "عود الند" بعد خمسة عشر عاما من النشر المنتظم.
يقال إن المتعة تكمن في الرحلة وليس في مقصدها. عندما أصدرت العدد الأول مطلع حزيران (يونيو) 2006، لم أخطط للاستمرار عددا معينا من السنوات. أردت أن أشعل شمعة حتى لا أكون ضمن لاعني الظلام، إذ كشف تأسيس المواقع والمنتديات والمدونات انتشار الضعف في الكتابة بلغة عربية سليمة، وأصبح من المسلمات عند الكثيرين أن النشر الإلكتروني يعني المحتوى الرديء. واكتسح النشر المتكرر المواقع. يضاف إلى ذلك ظاهرة التنغيص على زوار المواقع بنشر إعلانات أو وضع شروط مثل التسجيل في الموقع قبل التمكن من القراءة أو التعليق.
صدرت "عود الند" ومارست عكس كل الظواهر السلبية، فهي لم تكن موقعا يتجدد في أي وقت، بل مجلة تصدر في موعد محدد كل شهر، ولها سياسة نشر، وتطبق معايير جودة مثل مراجعة النصوص قبل نشرها. يضاف إلى ذلك التعامل باحترام مع من يتواصل معها بالرد على الرسائل التي تأتي إلى المجلة، وإعلام المشاركات والمشاركين في عدد بأنه صدر ومادتهم نشرت فيه. وعززت "عود الند" تصنيفها كمجلة بالحصول على الرقم الدولي للدوريات (ISSN 1756-4212)، وكان ذلك بعد عام ونصف عام من صدورها.
وفعلا المتعة كانت في الرحلة. الحافز على الاستمرار كان يتجدد ويتعاظم كل عام، والمجلة يردها أكثر مما تنشر في أعدادها. رغم ذلك، لا تحس بالتعب لأنك كلاعب في مباراة تركض وتلهث وتعرق لوجود حافز قوي لديك.
في الوقت نفسه لا توجد رحلة يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية. مع اقتراب "عود الند" من إتمام عامها العاشر، بدأت أحس بتعب السفر. أنت حين تسافر رحلة طويلة في سيارة أو قطار أو طائرة تكون جالسا، ولكن يبدأ جسدك وعقلك بالتململ. وعندما تصل إلى مقصدك تكون متعبا.
بدل التوقف عن النشر بعد العام العاشر، كان الاستمرار كدورية فصلية فكرة معقولة فهي أعطتني مزيدا من الوقت لنفسي. ولذا واصلت الرحلة بسرعة أقل. خمس سنوات أخرى من النشر ستكون كافية. هذا كان شعوري وقتها.
الحقيقة أن استمرار مبادرة فردية خمسة عشر عاما رغم أنها تتطلب وقتا وجهدا كبيرين قد يبدو عملا جنونيا، خاصة وأنه دون مقابل مادي. ضع نفسك مكاني وابدأ بعد النصوص والبحوث والمقالات والقصص التي راجعتها، والرسائل التي رددت عليها، والترويج لأعداد المجلة، وحل المشكلات التقنية التي تواجهها المواقع من حين إلى آخر. أعتقد أن الصورة ستخيفك. لو كان أحدكم في وظيفة مشابهة لحصل/ت على راتب شهري وإجازة سنوية وترقيات.
قبل كورونا وبعده، فكرت كثيرا في أمر "عود الند" بعد إكمال خمسة عشر عاما من النشر الثقافي الراقي. متابعتي لعدد زيارات موقع المجلة في السنوات القليلة الماضية أظهرت لي أن "عود الند" تؤدي دورا موازيا لدورها كمجلة، وهو دور الأرشيف الثقافي المفتوح، وهذا مفيد وفعال أيضا في خدمة الثقافة. ولذا، وصلت إلى قناعة بأن "عود الند" أدت دورها كمجلة ثقافية راقية سبحت عكس أكثر من تيار منذ صدورها في منتصف عام 2006، وبوسعها أن تسلم الراية إلى دورها كأرشيف ثقافي رقمي مفتوح لا يقل أهمية عن دور المجلة المتجددة دوريا.
موقع المجلة يضم ثروة كبيرة من البحوث والمقالات والنصوص الإبداعية وأخبار الإصدارات الجديدة ومقتطفات من كتب وبعض المقابلات. محتوى ما نشر لا تقل قيمته مع مرور الأيام. وتكتسب المواد أيضا دورا تأريخيا يعطي المهتمين فكرة عن الاهتمامات الثقافية أثناء خمسة عشر عاما.
خلافا لما قد يظن الإنسان، فإن للأرشيف، أي أرشيف، قيمة ودورا مهمين. "عود الند" تقوم بهذا الدور منذ سنوات، وبموازاة صدور عدد كل ثلاثة شهور. يستدل على نجاحها كأرشيف أنها تحصد ألف زيارة يوميا في المعدل، بحيث أني لم أعد الاحظ فرقا كبيرا في عدد الزيارات بعد صدور عدد جديد.
صيغة الأرشيف تريحني من أعباء إصدار مجلة دورية، وهي كثيرة، وستوفر لي المزيد من الوقت للعمل على مشاريع أخرى، مثل إصدار كتب جديدة، أو تحديث كتب أصدرتها في السنوات الماضية.
عندما أصدرت "عود الند" في 2006، حرصت على تميزها عما كان معروفا عن النشر الإلكتروني، فقد تمسكت بمعايير جودة تشمل مراجعة النصوص قبل نشرها، ونشر الجديد فقط المرسل للنشر الحصري في المجلة.
لقد كانت غايتي أن تكون "عود الند" مبادرة ثقافية تساهم في النهوض الجماعي. ولكن كثيرين يشدون في الاتجاه المعاكس ويفضلون الهبوط الجماعي. وكانت مسألة التساهل في تطبيق شروط النشر مطلبا دائما، إضافة إلى التظاهر بالالتزام بشرط النشر إلى أن يصدر العدد، ثم المسارعة إلى نشر المادة في أماكن أخرى بصيغتها التي يشوبها الكثير من الشوائب.
الهبوط الجماعي لم يعد مقتصرا على مستوى المحتوى الثقافي الذي ينشر في المواقع. صار الهبوط الجماعي قرارا سياسيا تتخذه الدول على أعلى المستويات، فتعلن إقامة علاقات مع إسرائيل وتطبيع العلاقات معها دون مبرر أو حتى ثمن مقابل هذا التطبيع.
خلال عمر "عود الند" الممتد خمسة عشر عاما، أوهمت بعض الدول النفطية الكثير من المثقفين العرب بأنها مهتمة بالثقافة، وأنها راعية الارتقاء بالثقافة والبحوث، وأغرتهم بتقديم الجوائز. وبعد أن سبح كثيرون مع هذا التيار، وجدوا أن رعاة الثقافة هم أيضا رعاة التطبيع والهبوط الجماعي الإجباري.
التوقف عن إصدار أعداد دورية من "عود الند" له مبررات متعددة. ولكن "عود الند" سوف تبقى كأرشيف رقمي مفتوح، لا يزال فيه كل المواد التي نشرت منذ العدد الأول. وكل من كان يهمه أن ينشر في مجلة راقية مثل "عود الند" يحق له أن يفخر باختياره النشر فيها، وهي الآن تحتفظ له بما نشر إلى أن يشاء الله، ولا تزال تجلب له الزيارات للاطلاع على ما كتب ونشر.
◄ عدلي الهواري
▼ موضوعاتي
- ● كلمة العدد الفصلي 35: التاريخ يكرر نفسه
- ● كلمة العدد الفصلي 34: أعذار التهرب من المسؤوليات السياسية والأخلاقية
- ● كلمة العدد الفصلي 33: تنوير أم تمويه؟
- ● كلمة العدد الفصلي 32: حكّم/ي عقلك وأصدر/ي حكمك
- ● كلمة العدد الفصلي 31: قيم لا قيمة لها
- ● كلمة العدد الفصلي 30: النقد والمجاملات
- ● كلمة العدد الفصلي 29: عن الذكاء الصناعي (والغباء الطبيعي)
- [...]
2 مشاركة منتدى
كلمة العدد الفصلي 20: عود الند تكمل عامها الخامس عشر, أشواق مليباري من السعودية | 2 آذار (مارس) 2021 - 14:10 1
مجلة راقية بكل المقاييس
احتضنت نصوصي الأولى
وتعلمت من الدكتور عدلي كثير، وأنا مدينة لهذا المعلم الفاضل.
ومازالت نصوصي على صفحاتها أعود إليها كلما أردت إرسالها لأحدهم.
والأجمل هو تعرفي على كوكبة من الأقلام الراقية التي تحولت من زمالة إلى صداقة متينة.
شكرا جزيلا دكتور عدلي، يعطيك العافية ويجزاك عنا خير الجزاء،
ويوفقك لكل خير
كلمة العدد الفصلي 20: عود الند تكمل عامها الخامس عشر, ليلى زخريا | 3 أيار (مايو) 2021 - 14:47 2
دكتور عدلي ما بنقدر نوفي بحقك وبجهدك.
شكرًا من قلوبنا على كل الجهد والاخلاص بالتعليم والتعب بإصدار مجلة من اجل النور والثقافة والأمل والحب والوطن.