عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

شفاء داود - سورية

النور الجميل


لمْ أخرج خروجا طبيعيا واحدا في حياتي قط. جميعها كانت أشبه بولادات قيصريّة اقتضت مساندة فريق طبّي كامل يعي أنّ العمليّات الدّقيقة المعقّدة لا تكفيها مهارةُ قابلة قانونيّة معروفة واحدة. كلّ خروج كان يُهيّئُني لنضج يستدعي خروجا أكبر من بعده.

كلّ عتمة كنت أحسبها الأخيرة كانت تتبعها غياهبُ ودُجى وظُلمات. أمضيتُ العمر بحثا حثيثا عن نور جميل، فما رأيته جليّا، وما وجدته بهيّا سنيّا كما كان يبرق فجر كلّ ليلة أخيرة تسبق طلعة نهار الخروج العظيم.

حين تخرّجتُ من الجامعة، كنت أحلم كما يحلم الحالمون. أحلم بهجرة، بحياة تشبه بعض الشيء ما أسمعه عن الحياة، يزيّنها قبس من الاستقرار المادّي والجسديّ والروحيّ والفكريّ، وهناء وكفاء وراحةُ بال. لم أخرج من هناك خروجا إراديّا اعتياديا آنذاك، ولم أصلْ إلى هنا كما تُسردُ الأساطير أيضا.

عشْتُ أُحارب مخاوفي كلّ لحظة. اللحظةُ التي تصرعُ فيها الخوف، هي لحظة مواجهة ضيائك وبلوغ قمّة بهائك. يسطعُ نورك من بعدها حتما. هل تأخّر نُوري ودوري كثيرا يا بلسم؟ أم أنّني هكذا وحدي أظنّ؟

كنت أملك أنوارا مختلفة، ولكنّ عينيّ غضّتا الطرف عن كلّ نور دون النّور الذي أرنو إليه وإلى مناكبه أسعى، ولمثله أطمحُ وأحاولُ وأُريد.

نشأتُ ذا عزم. أوتيتُ من كلّ شيء. كانت ثرثرتهم تزيدني همّة إلى همّتي. فرقة يستنكرون ويستكبرون، وجماعة يدعون لي بفتوح العارفين ويستكثرون. ذو حظّ ووُسْع عظيم. تأتيني المصائب جماعات وشتّى تباعا من فوقي ومن تحتي وعن يميني وشمالي، فأقولُ عمت أهلا وطبت سهلا، وأفتح لها ذراعيّ ما استطعتُ، وأبتسمُ بطيب خاطر، فيا مرحبا بقدر يذكّرني بين حين وآخر أنّني جدير بمواجهة معتركات الدنى ومطبّات الحياة، وأنّ عليّ أن أحيا، وأنّني يحيى، وأنّه لا بدّ لي من أخذ كتابي بما أوتيت من قوّة، وأنّ كلّ نفس لا تكلّف إلا وسعها.

كلُّ نفس لا تكلّف إلا ممّا أُوتيت. ويبدو أنّي أوتيت خيرا وفيرا. وتمام الخير الصّبر على أذى الغير وتلك زكاته. وما أطهر الزكاة!

* * *

عن مدينة صغيرة انقطعت، وإلى مدينة عملاقة وصلت. كلّ نعيم عند النظرة والتجربة الأولى والشعور الأول بدا مختلفا، بدا ممتعا، بدا مبهرا، ومدهشا. وكم بدا لي ساحرا فتّانا أخّاذا متألّقا متأنّقا كاملا مهيبا فريدا مجيدا وجميلا.

يثرثر المغتربون عن غربتهم ثرثرة تبدو في بعض الأحيان مبتذلة مكرّرة ومملّة. لم تبدُ لي موحشة وكئيبة مثل ذلك.

ما نفعُ أن تتقوقع في زنزانة فكرة رثّة أكل عليها الدّهر وشرب، وتضيّق على نفسك الخناق، وتحشر أنفاسك في بوتقة وهْم الانتماء لشعار سوقيّ مهترئ فضفاض لتندم في اللحظة الأخيرة من حياتك لأنّك تقوّلت أقوال الآخرين، وتقلّدت قضاياهم لتتخطّفك أيّامُ العمر مُستهلكا غير منتج، مُتأثّرا لا مُؤثّرا، مصفوفا لا صافّا، مصفّقا للفاعلين، مفعولا به دون أن تحظى بشرف محاولة أن تكون مثلهم أو معهم أو تتفوّق عليهم، فتسبق مجدهم وتسابق جدّهم وتصير معطاء منهم أو أجْدر بالتّمكين وأخْيَر؟

حين أُهاجر، لن أنتمي إلى شعور لطيم يؤرّق القلب حنينا إلى حضن لم يكن يوما حضنا، ويخدشُ الأفراح واللّيالي الملاح شوقا لاحتواء لم يشبه ليلة ممّا مضى الاحتواء.

سأنتمي لعطر الخير وصوت العقل لا غير. ابن قويّ فعّال يدير التزامات العائلة الأمّ عن بُعد، خير من ابن ضعيف قوّال كلّ، لا يتحمّل مسؤولية انقطاع الكهرباء أو صيانة صنابير دورات المياه لقلّة ذات اليدّ والحيلة التي حبس ذاته إراديا في سراديبها حين خدّرها تخديرا كاملا بوهْم عُقدة الرّضا السّلبيّ المقيت، وسوء فهم عقيدة الانتماء لبقعة من الأرض لا يخفى على ذي عقل أنّها طيّبة مباركة، ولكنّها لا تعرفُ ولا تُعرفُ ولا تعترفُ يوما بالمسوّفين والاتّكاليين والسّوداويين المثبّطين المحبَطين المحبِطين المتشائمين الجليديّين المرتاحين إلى السّبات الأبديّ منذ سنين ولا ترحّب بهم ولن.

* * *

الأرض معلّمة حكيمة أيضا. ترسم القُبلة بين عيْني المثابر عرفانا وامتنانا وإكراما، ولا تلصقُ النّجمة الذّهبية البتّة على خدّ عابر مجّانا بلا مُقابل. بلا جدّ بلا جهد. بلا محاولة. بلا إصرار. بلا استمرار. بلا استماتة. بلا تحدّ وجلد، وبذل وتضحية وعزيمة، وتفان وتعب.

تمّت نعمتي في نقمتي، وحفظتُ صلاتي بصلاتي. وكان وعيي في سعيي. ورُزقتُ شفائي بدعائي. وأوتيتُ امتلائي باكتفائي. التقيتُ نجمتي في هجرتي، فرسمتْ لي نجمتي وراحت في الشّتات تبصّرني بقبْلتي، وكافأتني بقُبلتي، وكانت ملاذي الآمن السريّ الدافئ البعيد السعيد، وسلوتي ومسرتي ومجرّتي.

الانتماءُ كرامة. نور وعزّ واستقامة. الانتماء شعور بالأمن والأمان والاستقرار والسّلم والطمأنينة والهدوء والسعادة والسّلام. الانتماءُ ريّ وضيّ وشبع ودفء وقدرة على التفكير والعطاء والبذل والإنتاج. الانتماء حبّ والحبُّ انتماء. أنت لن تحبّ من لست إليه تنتمي، وأنا لا أنتمي لمن لست له أحبّ.

تلك معادلة سرّية سحريّة يدركها العاشقون وبعض الفيزيائيّين، نصّت على ما يؤكّدها قوانين الكيمياء والفيزياء حين أثبتتا قانون حفظ المادة وبقاءها: عند حدوث أي تفاعل كيميائي فإنّ كُتل المواد المتفاعلة تساوي كُتل المواد الناتجة.

تلك قاعدة لا بدّ لكلّ متردّد بالهجرة مُحتار في اتخاذ القرار من تأمّلها مليّا لفهم أسباب النتائج التي نحصل عليها إثر تحرّكاتنا، والتي تعتمد كلّيا شئنا أم أبينا على ترتيبنا لأولويّاتنا من القيم المرجوّة المتبنّاة: الأهمّ ثمّ المهم في حيواتنا، وليس بالمزايدة فحسب على ما بين أيدينا من مُعطيات ومكرمات.

اضطررت أن أترك جذوري هناك، فؤادي بين جناحيْ فؤاد والدتي. روحي تغدو وتروح على راحتيْ والدي كلّما ارتفعتا بالدّعاء. عينايّ جمدتا عند نظرة وداع أخواتي المريرة. صوت وصاياي يزعج آذان إخوتي بلا استثناء. أعرف. الكبير مزعج دوما لكثرة قلقه على الفتية الذين لا يكبرون في عينه وإن غزاهم الشيْب أو صاروا أجدادا.

يريحني أنّ لهم أمنياتهم، ويروّح عنّي أنّ كلّا منهم اختار طريقه الذي شقّه، وطريقته التي نهجها ومعركته التي خاضها عن قناعة وسبب. لا تبرحنا أحلامنا ولا يبرحها تكاثر الفُرص ويُبْرحُها ضربا توقّع المفاجآت ووقوع الاحتمالات ومن تحمّل حمل أحلامه وتحلّى بالعلم وتخلّى بالحلْم ربحْ.

تمنّيت لو أنّي استطعت ترك ألمي برفقة أملي وكتبي وذكرياتي وبداياتي وشجرتي ودُرجي ودرّاجتي ومكتبي ومكتبتي وكرسيّ ومآسيّ وبيت طفولتي وصباي وشبابي ليلة إدراك الظلم السّاري والقهر المتفشّي في أزقّة ضاحيتنا الصّبورة. تجرّعت غصّة كذبة أنّ السعادة ديمومة قُربنا ممّن نحبّ حين تيقّنت ألّا سعادة تكافئ أن نؤمّن لنا ولهم حياة أكرم من هذه، أو أن نساهم في معجزة مثل ذلك. حتّى إن خرجنا عنهم أو أُخرجنا منهم بعيدا، بعيدا جدّا.

* * *

لم أعدْ أحدا بالعودة كما جرت العادة بأن يعد المهاجرون. أدركتُ مبكّرا أنّ خروجي الأوّل هو بلا شكّ الأخير، وأنّ العمر لا يتّسع لعودة، وأنّ هجرة العاقل تكون منه إليه بين جنبيه. نهاجر من تواكل، ونهجرُ اتكاليّة ونعود إلى همّة ونودّعُ بالعزم والتصميم والتحدّي كلّ تقاعس وضبابيّة وانهزاميّة.

تأمّلتُ الغرفة التي درست فيها سنين: رفّين جداريّين وبابيْن؛ نافذتين إحداهما تطلّ على الباحة الدّاخليّة، والثانية صغيرة يطيل النّظر إليّ ويطلّ عبر زجاجها المزخرف الملوّن على سهري وأسراري كلّ من صعد ليلتقط ثيابه المنشورة من على حبل الغسيل فوق العلّيّة المستورة؛ بلاط مكسور زبرجديّ اللّون لم يعجب أحدا. أعجبني واخترته بنفسي لنفسي، لحاجة في نفسي لم تُقض بعد.

سرير أخبرتني جدّتي الرّؤومُ أنّي عليه وُلدتُ بعد جوريّات ثلاث. هرّة معمّرة طوّافة علينا تنام بسلام فوق صندوق عجائب والدتي المزيّن بأحجار عاجيّة مذهلة لطالما أُغرمت بها وفُتنت بحسنها وبديع نقوشها المحفورة بإتقان، كما تُحْفر الأوطانُ والأمّهاتُ ومشاعر الحبّ الأوّلى في الصّدور حفرا لا يخور ولا يبور.

تخبز ربّة القلب والبيت في مطبخ شرقيّ لا أنساه. مطبخ فيه خزانة نعيم يحبّها الأطفال، ويسعى إلى بركتها التي لا تنقطع عدد قرصات الجوع الكبار قبل الصّغار. كان اسمها في سالف الأزمان: نمليّة.

على رفوف رخاميّة عاليّة تصطفّ مرطبانات مونة ككنوز كسرويّة قيصريّة تمتدّ بلا ابتداء. بلا انتهاء. تطوّقها جدران أربعة: جدار للحبوب والبقوليّات والنّواشف والمعلّبات، وآخر للمربّيات والمخلّلات والمكابيس، والثالث لتنكات السّمن والزيتون وزيته. وأنت لا تدري كم نحن أقوام تحترمُ سالفي الذّكر كليهما، وتميّز بين أنواعهما يا صديق.

الرّفُّ الأخيرُ للسُّكّر والشّاي، وما أدراك ما معنى الشّاي لعائلة تحبّه وتحبّ الحياة وتقدّسُ العائلة ولمّتها مثل عائلتنا. نحن قوم تقوم قيامتهم وتصطلحُ عشائرهم وتزفّ عرائسهم وتبنى أمجادهم وتستثمر أموالهم بعد أوّل رشفة شاي. نسند الظّهر المتعب إلى حائط دارنا الذي لا يتعب ونتنهّدُ مع نفس عميق ونشكر حُمرته ونذوبُ بخُمرته ونقولُ ببهجة غامرة: "الله".

* * *

الشّاي يا صاحبي يسْكُنُ معنا. يُسكّن آلامنا وينعش آمالنا. شراب ملكيّ رهيب كسلاح له سحرُ مشيئة الحبّ المعمّرة وفاعليّة الحرب المدمّرة. بعد سريان عطره وكافينه في الأوردة والشرايين نستطيع أن نركّز. أن نحلّل ونخطّط ونفكّر بفلسفة عميقة: كيف سنستحوذ على ما نريد؟ وكيف لن نسمح بأن يستحوذ على ما لدينا من يريد؟

تنّورنا الذي كنت أخشاه لا تخشاه أمّي. أمّي حسناء. حسناء كما الملائكة التي لم نرها بعد. قويّة. قويّة كما الرّواسي الشامخات، ولعلّها أعطتها بعضا من قوّتها. أُمّ تدير بيتا لا يجوع سكّانه مهما كثروا وتكاثروا بلا شكّ توصف مثل ذلك.

تأمّلت غسّالتنا الفظيعة المريعة. كنّا نملكُ واحدة تمشي بلا استحياء أثناء العصرة الأخيرة، وتُثبت حضورها إلى أرض الدّيار رقصا ودبكا ما استطاعت أن تبتعد عن قابس الكهرباء. تريدُ منّا أن ننتبه لها. أن نلتفت إليها. وأن نخاف منها وعليها. أن نهدّأ من روعها. أن نزيح عنها ثقلها بأن ننشره. وربّما لم تكن تريد منّا غير أن نضحك.

لم نكن نباهي بها الجيران كما يفعل غفير من النّاس بسخف وهشاشة الآن مباهاة بمكانسهم الإلكترونية. ليس لأنّنا متواضعين. لم يكن في ذاك الزمان صفة يتّصف بها أهل القرى التي لا يُذكر لها اسم ولا تشير إلى عنوانها علامة على الخارطة غير ذلك. كلّ ما في الأمر أنّ جميع أهالي القرية كانوا يمتلكون غسّالات تتمشّى عند العصر مثل خاصّتنا، لا أكثر.

يبدو أنّني كبرت كثيرا. ويبدو أنّ تلك الغسّالة الأثريّة الأسطوانيّة علّمتني حكمة للحياة عجيبة: لكلّ منّا محن ومنح لها عصرات ورقصات، تتراقصُ أحوالنا رقصة ملفتة للانتباه عند عصرات مختلفة وليس فحسب عند الأخيرة.

* * *

تمرّ علينا أختي الكبرى كلّ يوم قُبيل ذهاب بنيّتها للمدرسة. سيرا على الأقدام، تأتينا لطيفة كنسمة صباح منعشة تطمئنّ علينا ومن ثمّ تذهب. منذ ذلك الزمن كنت أرى البيوت العامرة منظّمة تقسّمُ فيها المهامّ بين الأمّ والأب بعدل ليثبت البيت صرحا شامخا أمام كلّ زلازل الصّعاب وبراكين الفتن. يسعى زوجها العزيز على رزقه في المزرعة من بعد صلاة الفجر ولا يعود إلى أذان المغرب، وأحيانا حتّى العشاء. تدير شؤون بيتهم ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، وتقوم على متطلباته وتحفظه إلى أن يعود وبعد. هذه رزقتنا المكتوبة.

وهكذا سنشكر الوهّاب على ما أنعم به علينا وتفضّل وأكرم من عفو وعافية. بالشكر نستكثر، وبالحمد نستزيد، وبستر ذي الجلال والإكرام نعيش.

تجدل شعر صغيرتها الطّويل جديلتين خميلتين على عجل قبل أن نسمع جرس طابور الصّباح المدرسيّ المجاور السّعيد. تصنع لها شطيرة صغيرة من جبن قشديّ مستورد لم تسعفني الذاكرة لتذكّر اسمه الذاكرة.

كانت بسمة أختي بهيّة. بسمة ابنتها من بسمتها أبهى. وأبهى من ابتسامة أمّي ما رأيتُ في بسمات العالمين ما عشتُ وما حييت.

لطالما ألحّ عليّ السؤال من خلف النّافذة بينما يخيّل إليهم أنّني أدرس: هل كان مكعّب واحد من تلك الجبنة الفرنسيّة كافيا لسدّ جوع الرّغيف العربيّ أم أنّها النّفْسُ الهنيّة الرّضيّةُ التي تجعلنا نشعرُ بالشبع من نكهة وتكتفي بتذوّق الطعم بكرامة ولا تطلب المزيد وإن وُجد؟

طبيب العائلة الذي عاش ثلاثين عاما في بيت ونور واحد، هاجر منه إلى بيوت وأنوار متعدّدة أربعين سنة.

كانت غرفة جميلة، بناها أبي كما بنى الدّار كاملة. سقفها مرفوع فوق جذوع أشجار إحدى عشر عرضيّة، يتوسّطها الثاني عشر ليزنها ويزيّنها. وتحمل الجذوع كلها فوقها صبّة لبنيّة، تحمي بحمى الرحمن من تحتها رزقا، وعيونا زُرقا وخُضرا وعسليّة وزيتونيّة وبنيّة، وبشرات سُمْر وبيض وحنطيّة، وشعور بعضها شقراء وبعضها كستنائيّة لثلاثة عشر ابن وابنة وسعتهم خمسُ حجرات بينها درجان، وساحة تعلوها مساحة على سطحها أرجوحة عتيقة، وظلّ صفصافة شامخة شموخ اليد العليا، وغرفتان ومطبخ صغير ثان، وكومُ سعادة وأكوام راحة.

* * *

حين وصلتُ إلى الحلم، أدركتُ شيئا فشيئا أنّ أحلامنا يُشْعرُ بها ولا يُحسّ. نشعر بلذّة الوصول لفترة دون أن نستشعر الراحة.

كلّما صعدْت درجة ستكشف لك عن ساقيها درجات. كلّما بلغت مجدا، لوّحت لك من الأفق البعيد تناديك بشوق أمجاد، وتنتظرك على أحرّ من الجمر آفاق.

ستكتشف قُبيل سفر الرّوح الأخير عن الجسد أنّ الدنيا لم تكن أكثر من مجموعة أحلام، وأنّنا تأخّرنا كثيرا في إدراك أنّ الأحلام المحسوسة لم تكن يوما لتتحقّق لنا كاملة هنا، وأنّ كمال مشهدها الأخير بلا نقص سيكون هناك، وأنّ فصول الحياة الأربعة جمعتها لوحة جداريّة لها إطار برونزيّ تتصدّر أبهج غرف المنزل دون أن يفهم رسالة المرسوم الخفيّة بالألوان الزيتيّة عليها أحد.

تلك اللّوحة رافقتني ختام أيّامي ووثّقت مشاهد الخروج الأخير. وما زالت ترقب من عنهم أُخرجت حتّى السّاعة.

كلّما استيقظت فجرا والأحبّة نياما، أمعنت النّظر بها، وتأمّلت حديقة أماميّة مرسومة فنّا بديعا لطالما سحرني وقت السّحر، وأقواسا معماريّة أربعة، تعلوها في الطابق العلويّ أربعة أُخرْ، وكرسيّين لوالدين رُزقا من زينة الحياة الدنيا ذرّية بارّة هنيّة، بينهما طاولة مستديرة، حوافّها لؤلؤيّة، سطحها زجاجيّ، يزيّنها كأس ماء يعطّره فلّ وياسمين وجوريّ وريحان، وفنجانا قهوة، وحلوى فستق وكعك بلديّ بالسمسم، وجريدة، ودفتر قديم دوّنت فيه بعض مذكّرات كهولتي وجُلّ ذكريات صباي.

تأمّلت كيف مرّ العمر مرور الكرام دون أن يشعر بي، وأنا الذي لطالما كنت به أشعر.

تذكّرت شهري الأول هنا منذ أربعين عاما. تذكّرت تلك الغرفة التي سكنتها مع صديق لم يكن نعم الصديق. تذكّرت أحلامي المتواضعة آنذاك، حين كانت ترضى لمثلنا أن تتواضع الأحلام.

شابّ يتمتمُ في ثلاثينيّته، يتأمّل بداية مهجريّته وغرفة غربته، متسائلا: هل أحتكمُ يوما على خاصّة تشبهها؟ هل أقدر على استئجار مثلها مُستقلا؟ أريدها. أو مثلها. غرفة واسعة بعض الشيء تؤدّي الغرض وتكفي الحاجة، تتوسّطها حصيرة بلاستيكيّة رقيقة. على جدارين من جدرانها، تتكئ مرتبتان إسفنجيّتان رفيعتان خفيفتان، فوقهما أربع وسادات قاسية. ربّما لطّفت قسوتها طواويس بالخيوط اللامعة الصينيّة غير الحريريّة على أوجهها مُطرّزة، وفي الزّاوية طاولة قصيرة تحمل تلفازا قديما حديثا ملوّنا صغير الحجم يبثُّ على شاشته غير المسطّحة وغير الذّكيّة محطّتين، فكأنّي حينها قد حيّزت لي الدنيا بحذافيرها بمساحة مُستأجرة مُشتركة لم تتجاوز مع كافّة منافعها وخدماتها بالكاد خمسة وثلاثين مترا مربّعا، يحاول عبثا أن يلطّف حرارة طقسها مكيّف صحراويّ مزعج، لم يكن صوته المدوّي بالتأكيد بحال من الأحوال لطيف.

نخطئ أحمق أخطائنا، ونزلّ أغبى زلاتنا، حين نغفل عن أنّنا نطلب من مالك مُعْط كريم باسط نافع، عنده خزائن الملك، ووسع ملكوته وكرسيّه السماوات والأرض. أخبرنا بالنّص الواضح: "وَأَن ليْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سعى" (سورة النجم. الآية 39). ووعدنا وطمأننا بالحرف: أنّنا سنُجزى "الجزاء الأوفى". وبين الوعد والإخبار سرّ الرؤية والبشرى التي لا نعرف لها زمانا أو مكانا، أو عنها كيفيّة أو حيثيّة، ولكنّها ستكون قولا فاصلا.

شاء الحكيمُ أن أحيا حياتي بين بيتين رئيسيّين: في كلّ واحد منهما ثلاثة عقود. وما بين الثلاثينين، عشتُ عشرا في بيوت متفرّقة أثناء تأسيس بيتي الثاني والأخير.

* * *

كانت تلك اللّوحة تشبهه وتشبهني كثيرا من الخارج. أمّا داخل كلينا فمستور لا حقّ لعابر سبيل بالاطلاع فضولا عليه، فهو ملْكُ الرّعية ولن يكون ملْكا لأحد سواهم.

ولو استأجره مستأجر جديد عداهم، أو ابتاعه بعدهم أحد، أو هُدّ البناء بما حمل بين أركانه من ذكريات، فالأرض تعرف أنّ هذه البقعة كانت وستبقى لنا وحدنا من بين كلّ العابرين. استر أسرار بيتك ما استطعت يعمر. هكذا علمتنا نوائب الدّهر وخطوبه.

لطالما تناقشنا هنا وحللنا العُقد. كانت هذه اللّوحة تستمتع بأسرار البنات وتستمعُ لهموم الشباب. وكانت تضحك بين فينة وأُخرى حين تسمع وشوشتي لوالدتهم. أحنُّ لأنغام أُنسيُتها وأستذكر أنسام السّهر. على صفحتها كانت تتغيّر يوما بعد يوم الألوان دون أن ينتبه لذلك أحد سواي. ولا يغفل عن التفاصيل إلّا من لم يبد بها اهتماما منذ البداية.

حياتنا تشبه لوحاتنا العزيزة بشكل مّا. لن ترى لوحة عمرك مكتملة مرّة واحدة من نظرة خاطفة. نحن نكتمل على دفعات، ولا ننضجُ وتستوي أحوالنا دفعة واحدة. تُرْسمُ لوحتك بهدوء إنجازا بعد إنجاز وتجاوزا بعد آخر. المشهد المكتمل الأخير للوحاتنا ولوحات الآخرين كاللّؤلؤ المكنون: لا أحد منّا يدركه دون كفاح. وتلك متعة من متع الحياة العجيبة النّادرة التي لا يجرّبها إلا ذو عقل حكيم.

لدينا صفحاتُنا وأطروحاتنا الخّاصة، ومراسم وحوامل وبراويز وألوان غير معدودة، ومسودّات عليها نكتب ونرسم ونصحّح ونتعلّمُ ونجرّب وننقص ونزيد.

قد نتأخّر بالرسم، وقد نعيد كلّ ما رسمنا ذات قرار صائب وآخر متهوّر. ما همّنا لغو وبهتان مبُين، أو غيبة مبطّنة، أو ثرثرة بغرض نميمة، فلكلّ منّا توقيته المناسب ولحظة توهّجه الأنسب.

المعضلة التي تواجهنا عامّة أنّنا نتعجّل الرّزق، فنقارن لوحات لم تكتمل بأُخرى مكتملة. لا نفهم أنّ اللّوحات لا ترسم بطريقة موحّدة بين الرّاسمين. يتباين الإتقان، وتتفاوت السرعة ما بين مبتدئ وموهوب ومحظوظ ومحترف.

نصرّ على عسر الفهم حين لا نطمئنّ تماما إلى أنّ الرّزق قُسّم بإنصاف، ووزّع بحكمة. وكم يختلف البشر على تلك الواضحة، فيتفاوتون في سرعة البديهة التي تقودُ كلّ ذي نعمة إلى إدراك نعمته والاستمتاع بملكيّته واليقين حقّ اليقين بحكمته.

* * *

تقول بكْري إنّها كانت في طفولتها تقف طويلا أمام مرآتنا المستطيلة النّحيلة الطويلة في الممرّ الداخليّ الموزّع للغرف، وتتمنّى لو أنّها تستجمع شجاعة، وتؤتى براعة وتستطيع إليها قفزا، والتمشية في أرجاء بيتنا المنعكس على سطحها وحيدا باردا فارغا لا يسكنه ولا يدفئ وحشته أحد.

حين أصبحت أوّل العنقود أُمّا، أخبرتني أنّها تريد لهذه المرآة وتلك اللّوحة أن تنتظرانا في الجنان. تريد أن تتذكّر أنّني ضممتها وإخوتها إليّ الضمّة الأخيرة أمامها وكأنّنا كنّا نبرم اتفاقا وعهدا سرّيا أنّ هذا الرّسم الجميل سيشبه بيتنا الذي سيستقبلنا بين الرياحين والبساتين والأنهار والأزهار وأسرار الأشجار هناك.

كانت كلّما اشتاقت إليّ تتأمّلها، وكلّما شعرت بأنّ الزبرجد يفتقدها كذلك تفعل. تهمسُ لعقلها الباطن كلّما همّت بخروج جديد في الحياة إلى الحياة من الحياة: إيّاك والانبهار بعد رؤية جزء وحيد من لوحة لم تكتمل ملامحها ولم تتضح معالمها بعد.

يتألّقُ النّور الجميل حين تُحلُّ الأحاجيّ وتجتمع الأجزاء وتبرق الأنوار ويكتمل بهاءُ الصّورة.

لكلّ قمر نور لا يفارقه، وشمس لا تخطئه. ولكلّ شمس قدرْ.

ثمّة نور جميل وسنا جليل أنت على موعد أزليّ معه لن تخلفه، بانتظارك إلى أبد الآبدين يا قمري.

JPEG - 51.1 كيليبايت
لوحة حديقة بيت وأقواس
D 1 آذار (مارس) 2022     A شفاء داود     C 0 تعليقات