عدلي الهواري
كلمة العدد الفصلي 24: الجدل حول الأعمال الفنية
يبدو أن عددا متزايدا من الفنانين العرب يسيل لعابهم عندما يتعلق الأمر بإعداد عمل لمنصة الأفلام والمسلسلات الأميركية، نتفليكس، أو المشاركة فيه. أحد الأسباب اعتبار ذلك خطوة على طريق "العالمية"، وهي مكانة متخيلة تعني في أذهان الساعين إليها أن الفنان "العالمي" هو الذي يصبح على درجة عالية من الشهرة تجعله معروفا في مختلف أنحاء العالم، ويمتلك مقدرة فنية أعلى من الفنان المحلي.
وقد تبع أعمالا بثتها نتفليكس جدلٌ اعتراضا على مشاهد "جريئة" أو أفكار يعتبرها المشاركون في الجدل تسعى إلى هدم قيم المجتمع.
ويبدو في عصر مواقع التواصل اللا-اجتماعي أن إغراء إثارة الجدل والمشاركة فيه أمر لا يقاوم.
الاعتراض على أعمال فنية ليس مقتصرا على العالم العربي، وعادة يكون الاعتراض على فيلم له صلة بالدين.
لكن كل جدل حول عمل فني هو دعاية مجانية له. وكلما كثر الجدل والاعتراض على عمل فني، زاد عدد مشاهديه، وزادت فرص تحقيقه شهرة، وبالتالي نجاحه تجاريا، مما أفرز "حكمة" في هذا الشأن وهي أنه لا يوجد شيء اسمه دعاية سلبية بالنسبة للأعمال الفنية.
من المفيد لمن يهمه متابعة أعمال فنية أن يعي الأمور التالية.
دعك من الحديث عن أن الفن رسالة. الأعمال الفنية مشاريع تجارية تسعى إلى جني المال من خلال ترفيه الناس. نعم أحيانا تكون الأعمال الفنية ذات رسالة، ولكن المنتج الذي يصرف الكثير من المال لا يفعل ذلك بغية توجيه رسالة فقط، بل يود كحد أدنى استرجاع ماله مع بعض الربح.
بعض الأعمال الفنية له رسالة من نوع مختلف، وتحديدا رسالة سياسية تمجد البلد أو جيشه أو عملا عسكريا أو زعيما. يكثف لك الفيلم أحداثا لا يمكن حصرها في ساعتين، ولا في مسلسل من ثلاثين حلقة، ويعطيك نسخة معلّبة من التاريخ، من شبه المؤكد أنها تكون في واد، والحقيقة في واد آخر.
في الماضي كان هناك جمهور يفضل حضور الأفلام الأجنبية، ولا تستهويه الأفلام العربية، ولذلك أسباب منها أن جودة الأفلام من ناحية التصوير كانت أفضل، فالفيلم الأسود والأبيض في العالم العربي كان منتشرا بينما الأفلام الأجنبية كانت ملونة. وفي بعض الأفلام الأجنبية هناك بعض العري الجزئي أو الكامل، إذا لم تحذف الرقابة المشهد/اللقطة، واستخدام شتائم تستبدل عند ترجمتها بـ"تبا".
والجمهور الذي يفضل الأفلام الأجنبية لم ينقرض طبعا، وهو يشمل هذه الأيام الفئة التي تسعى إلى متابعة الأعمال العربية المعروضة عبر نتفليكس، فهذه الأعمال في جوهرها أجنبية، ولذا أنت عندما تختار مشاهدة عمل عبر نتفليكس لست من محبي مشاهدة فيلم عربي معتمد على رواية عربية مثلا.
قررت في عام 2003 عدم متابعة التلفزيون سواء للاطلاع على الأخبار، أو لمتابعة مسلسلات أجنبية أو عربية. وبالنسبة لمشاهدة الأفلام، لم أعد أذهب إلى السينما إلا قليلا. ومنذ اجتاح وباء كورونا العالم لم أدخل دار سينما.
هذا لا يعني أني لا أحب الفن، أو أتفادى الترفيه. لكني وصلت مرحلة قررت فيها ألا أسلم عقلي وأمنح وقتي لمن يتخذون القرارات في وسائل الإعلام أو إنتاج الأفلام. ولذا لست مستعدا مثلا للاشتراك في خدمات الحصول على قنوات تلفزيونية مقابل مبلغ من المال شهريا، ولا في مواقع الصحف أو المجلات التي تريدني أن أشارك في تمويل ما تنشر وأنا أعرف أنه ليس منزها عن الارتباط بالأجندات المعروفة وغير المعروفة.
خلاصة ما أريد قوله هو أن الجدل حول ما يعرض في نتفليكس أو غيرها جهد ضائع، ورسوم اشتراكك فيها مال مهدور. ستكون فعالا أكثر في صيانة القيم بالحرص على وقتك وعلى ما تشاهد. لا تذهب إلى دار سينما لتخرج منها وتبدأ الاعتراض على ما شاهدت. ولا تشاهد عملا على نتفليكس أو غيرها وتفعل الأمر نفسه. الأصح أن تعترف أنك بالمشاهدة شاركت في إنجاح العمل الذي تعترض عليه.
◄ عدلي الهواري
▼ موضوعاتي
- ● كلمة العدد الفصلي 35: التاريخ يكرر نفسه
- ● كلمة العدد الفصلي 34: أعذار التهرب من المسؤوليات السياسية والأخلاقية
- ● كلمة العدد الفصلي 33: تنوير أم تمويه؟
- ● كلمة العدد الفصلي 32: حكّم/ي عقلك وأصدر/ي حكمك
- ● كلمة العدد الفصلي 31: قيم لا قيمة لها
- ● كلمة العدد الفصلي 30: النقد والمجاملات
- ● كلمة العدد الفصلي 29: عن الذكاء الصناعي (والغباء الطبيعي)
- [...]