شفاء داود - سورية
سقيفة الحياة
لنكتب ها هنا الحنين. أريد أن تصل رسالتنا لعيني كلّ مشتاقٍ يحنّ إلى ثرثرة الأشواق. رسائل المرسال البنفسجيّ لا تروي قلوب البشر ولا تصل بهم إلى تلاقٍ أو مستقرٍّ إلاّ ما ندر.
لا بأس أن يقرأ النّاس مشاعر بعضهم لأحبتهم أحياناً. لا ضيْرَ أن نرى أنّ أحداً مثلنا في هذا الكون يحسّ بما نحسّ، يعيش كلّ الأحاسيس البشريّة جميعها معنا وليس إحساساً واحداً فحسب.
الذين يبرعون في تقمّص شخصيّة الإحساس الجامد الواحد الذي لا يتغيّر ولا يتجدّد مع الوقت والظروف قد يشكّلون لهواة التّجديد كارثة.
أين تكمن المشكلة؟
المشكلة أنّنا نعود بسببهم مضطرين أحياناً إلى مرحلة الصفر، بل إلى ما قبله. نحتاج توزيعاً مجّانيّاً لمعجمٍ نشرح فيه معنى الأحاسيس، معنى أنّ الإنسان مزيجٌ فريدٌ من مجموعة وجدانيّات تشكّل إنسانيّته الخالصة.
ما زلتُ مستاءةً جداً منذ قراءات. أريد قَوْل أشياء كثيرة. تلك المكالمة المسائيّةُ المغاضبةُ لم تصف ما أشعر به. هل تدرك وجع أن تحتاج لترجمة أحاسيسك فلا تستطيع، وإن استطعت فقلّ من يفهم؟
كنت أستغرب نَقْدَ أحدهم بوصفه بـ "ما عنده دم؛ عديم إحساس". كيف؟ أيعقل؟ هل يستطيع أحدٌ في الكون أن يعيش دون تجربة كلّ المشاعر الفيّاضة قبل أن يرحل؟
شعور الانتظار، الدهشة، الكفاح، الصّبر، الرّضا، الغيظ، العتب، الألم، النّدم، التّحدي، المثابرة، الرّغبة، الخوف، الإيمان، السّعادة، الحزن، الفرح، الشّوق والحبّ.
الحبّ يا صديقي الحبّ. لماذا أجدني بحاجةٍ لشرح معناه للتلاميذ من جديد؟
كان بحراً كبيراً بالجَدَلِ المُزعج العشوائيّ نشّفوه. كان غصن بانٍ بفوضويّة التّصرف من جذوره اقتلعوه. كان فردوساً نضراً عبثاً أحرقوه. كان طُهراً وضّاءً ظُلماً وعدواناً دنّسوه.
هلاّ حكينا لهم بعض الحكايات عن ذكرياتٍ كان فيها للحبّ الحقيقي طعمٌ أخّاذ؟ هل نحكي عن تلك الجدّة التي لم أَرَها يوماً إلا بقلبي؟ عن تلك القسمة التي قسمها الرّحمن لها لتكون زوج الشّهيد ووالدة الأيتام الثلاثة؟ هل نشرح للنّاس من جديد معنى: "ارض بما قَسَمَ الله لك تكن أسعد النّاس"؟
ها أنذا أجرّ كرسيّ الخيزران الهزّاز إلى جانب بِرْكَتنا وبَرَكَتِنا الجميلة، لنسهر معاً حتّى الصباح أنا وأنت وشجون النّاي. سأعدّ الشاي، سأغلي لنا كثيراً منه. أريد أن نذكّرَهُم أنّا كنّا نمتلكُ ابريقاً نحاسيّاً فضّياً ذا صفّارة مزعجة. لماذا نشتاق حين نكبر لإزعاجٍ كثيرٍ من ذلك الذي كان يُزعج طفولتنا؟ لا أفهم.
تأمّلتُ أبناءها طويلاً، كيف يُقسّم الرحمن أرزاقه بين العباد، كيف سيشرح لي ذلك العمّ البهيّ، البهيّ جداً والذي لا أتذكّر اسمه كيف شَعَرَ وبم أحسّ حين أدرك أنّ القسمة العادلة المكتوبة في اللّوح المحفوظ بينه وبين أخيه كانت كالتالي: الأخ الكبير لهُ من الذريّة ثلاثة عشر، والأخ الصّغير بلا ذرّية. الحمد لله أولاً وآخراً على كلّ خيرٍ أعطاه؛ والحمد لله على كلّ شرٍّ صرفه.
كان وسيماً كما لا أنسى ولا يُنسى، كانت عيناه كَوْناً خلاّباً، بل كانتا مجموعة أكوان. كنت أتأمّل بيته الدّمشقيّ القديم الفسيح والقطط تنام متوزّعةً في أرجائه وكأنّها حكايا. أتفكّر كيف يبدو البيتُ لوهلةٍ مُبهراً جداً حين يكون لامعاً برّاقاً هادئاً على الدّوام، لا فوضى ولا إزعاج: "لا سقّ ولا نقّ" ولا حروب طاحنة مندلعة بين الغرف؛ ماما أخذت لي أختي؛ بابا ضيّع لي أخي؛ بابا أنا لن أسامح؛ ماما عاقبي لأجلي. بدا لي قَدَرَاً مهيباً تنادي أشجاره النّاس معترضةً على أنّ الجنّة بلا ناس لا تُداس، لأنّهما بالحبّ والرّضا واليقين جعلاها مزاراً وملآها زُوّاراً، وبحمدِ العدل على ما عَدَلَ وبإذنه عاشا أسعد النّاس.
هذا العمّ الصّابر جعل الله له نوراً كنتُ وما زلتُ أحبّه كثيراً. كانت تُقصّ لنا القصص عنه، لا أعرف لماذا أذكره كلّ سَحَرٍ وأدعو له وكأنّني من ذرّيته، الذّرّية التي لم يرها يوماً ولا بدّ أنها بكرم المنّان تنتظره خلف باب جنّتنا هناك، حيث ننال الجوائز والهدايا ويُكرَمُ حُسن الخُلُقِ والتّأدّب مع ذي الجلال والإكرام. أدعو له دعاء من يجد أنّ عليه واجباً يوميّاً تجاه أحدهم، واجبا لا يَقبلُ ولا يُقبل منه أن ينساه، واجبا تجاه من لم يخطر على باله يوماً أن حفيدةً من أحفاد أخيه الخمسين ستذكره كثير صلاةٍ، وستشتاق ذلك الإيمان الذي أبصرته مرسوماً بالرّضا على شفتيه، ذلك السّلام الذي كانت تقبّله كلّما قبّلت احتراماً بعد اللّقاء وقبل الوداع إحدى يديه. ستتذكّر دوماً أنّ عدل الرحمن لا يُقاس ويُحلّ كما مسائل الحساب والفيزياء، ففي عدل الحكيم سنقول إنّ الثلاثة عشر كانت مساويةً للصفر قولاً فاصلاً سمعاً وطاعةً ولا اعتراض ولا نقاش ولا جدل.
نكبرُ سريعاً هذه الأعوام، يكبر الصّبيُّ وتكبر معه الصّبية، الأوّل يبدو لي يوماً بعد يومٍ رَجلاً عن ألفِ رَجُل. أحتاجُ طاقةً هائلةً للردّ على فيضِ أسئلته الجوهريّة المهولة التي تتفجّر أنهاراً وينابيعَ حتّى أكاد أن أغرق بحثاً لحظيّاً عن أجوبتها اللّازمة؛ والثانيةُ وما أدراك ما الثانية، أرى فيها أيّامي التي مضت وسنواتي التي ولّت، همّة الصبا ورونقُ الحياة ولُطفُ استقبال القَدَر وذكاءُ التّعامل مع المكتوب.
كم سنشكر الله؟ كم علينا أن نشكره؟
سعيدةٌ أنا رغم كلّ ما كان وسيكون، سعيدةٌ لأنّي أعي أنّ كلّ ما مررنا به وسنمرّ بأمره وحكمته على جميع الأصعدة ابتداءً بالشأن الخاصّ وانتهاءً إلى الشؤون العامّة، ولأنّني لطالما وجدت أجوبة الأسئلة المعقّدة على ما يعبر الزّمان في كتابه، ولأنّني لطالما أسلمتُ القلب إلى علياءه وسلّمت شُهُبَ الأمنيات لنجوم سماءه.
السماء: هل تدرك أنّنا نستظل بظلّها نحن ومن نحبّ سويّة؟ هل تدرك أنّ لها ظلاٌّ ظليلاً كما للسّحاب؟ هل تفتنك مثلي تلكم الغيوم التي كانت تستلقي على ظهرها هايدي الجميلة؟ هل كانت هايدي جميلةً بالفعل أم أنّنا نحن من كنّا في طفولتنا كذلك؟
أظنّني أحياناً خائفةً ومرتبكةً جداً. أخشى أن أكبر. يوتّرني ذلك، وفي الوقت ذاته أريد.
كلّما دُعيتُ إلى زفافٍ تأمّلت العروسين مليّاً وتخيّلتهما ولدي وزوجته المستقبليّة. يا إلهي، هل ستتمايل أمامي عشرينيّةٌ يوماً وتقبّل رأسي وتقول: "ادعي لنا يا خالة؟"
خالةُ مَنْ! خالةُ مَنْ؟
كيف سأشرح لها أنّ بعض هذا الجيل لا يرغب ولا يريد وربّما لا يفكّر أن يكبر بأيّ شكلٍ أيّاً كان. كيف سأفَهّمُها أنّه أصيب بجنون التقاط الصّور الشّخصية وفلترتها ونشرها بشغفٍ لا يُفسّر أيضاً.
أريد أن أخبرك بأنّ المرحلة القادمة من أعمارنا مشوّقةٌ جداً ولا تقلّ أهمّيةً عن مرحلة ما قبل البلوغ، تلك المرحلة التي كانت تتراصّ فيها الأسئلة جنباً إلى جنبٍ في عقولنا ترجو تعلُّمَ المزيد والمزيد. لا أحلى من رحلة اكتشاف الذّات والنهل من معين المعرفة.
تتساءل قبل ختام الرّسالة: لماذا أرسلتُها هنا؟
أقول لك إنّي أريد تذكير النّاس بأنّ في الرسائل حياة تتنفّس منها الحياة، وأنّ رسائلنا تشبه الكتب، لا بدّ أن يدلّ العنوانُ والغلافُ إلى تشويقةٍ مّا عن المكتوب. أريد أن أشكر مَلَكَةَ "الكتابة"، الصّديقة الصّدوقة التي ترافقنا بلطفٍ مسيرة الحياة، تعطّر ليالينا والصّباحات، نرتاح إليها ونلقي على أكتافها كثيراً وقليل.
أقول إنّها نعمةٌ من اللّطيف، وما ألطف نعمه! فيها راحةٌ واستراحة. محظوظٌ من سكن إلى حضنها كلّما عصفت به الأفكار.
أريد بوح سرٍ عزيزٍ عليّ. ما زلتُ أذكر ذلك الممرّ السّريّ ذا العتمة الطويل، وستارةً قماشيّةً خفيفةً شفيفةً كانت تفصل بين دكاكين عمل الجدّ على الشارع الرّئيسيّ في الحيّ وبين حجرات بيته في الداخل. تلك الستارةُ الفاصلةُ تجاوزتُها يوماً بكلّ ما كنت أملكه من جرأة الأطفال وكلّ ما أتمتّع به من مشاغبة الصّغار.
صعدتُ ذات عصرٍ إلى السّقيفة هناك والكبار بأشغالهم ساهون. كان الجدّ قد رحل منذ زمنٍ ليس ببعيد، وكنت أشتاقه كما يشتاق الأحفاد للأجداد؛ كانت أنفاسه ما تزال طيّبةً دافئةً تتعشّقُ جدران المكان بأسره.
رأيتُ مكتباً وكرسيّاً عتيقين وأجنداتٍ مرتّبةً وكوماً من غبار. فتحتُ إحداهنّ. أحبّ أن أرى خطّهُ ولو مَرّة، فقرأتُ عبارتين مُعبّرتين رابَطَتا مع كلّ ذكرياتي عنه بعدها على مرّ الأيّام؛ بخطٍّ بسيطٍ كُتبتا على الصّفحة الأولى وعلى أختها الأخيرة. أُولاهما: "على كفِّ القَدَرِ نمشي ولا ندري عن المكتوب". والأخيرة كانت وكأنّها خلاصة حكمة من جرّب الحياة قبلنا فعَرَّفَ كلّ أسرارها وَعرفَ صِدْق وفاء وعودها: "الصّبرُ مفتاحُ الفَرَج".
◄ شفاء داود
▼ موضوعاتي
4 مشاركة منتدى
سقيفة الحياة, علا خيرالله / ايطاليا | 27 تشرين الثاني (نوفمبر) 2021 - 23:26 1
ممتازة وفقك الله لما يحب ويرضى
الذكريات هي الشيء الجميل من الماضي نعود به لطفولتنا وزماننا الماضي الجميل
سقيفة الحياة, مليكة علاوي الجزائر | 2 كانون الأول (ديسمبر) 2021 - 16:49 2
أعجبتني سلاسة اللّغة،والدّفق الهائل السّاريّ لمعين اللّفظ .ممتع ماكتبت.
سقيفة الحياة, شفاء داود | 2 كانون الأول (ديسمبر) 2021 - 22:02 3
أتفق معك علا، الذكريات روح الحياة، جعل الله القادم من أيامنا أجمل، تحياتي.
سقيفة الحياة, شفاء داود | 2 كانون الأول (ديسمبر) 2021 - 22:06 4
اسمك جميل مليكة، سرّني تعليقك، شكراً لك.