عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

شفاء داود - سورية

ورق الغار


من كان يعلم بأن ذلك اليوم يومنا الموعود؟ وأن تلك الساعة هي التي كُتب لنا فيها ذاك اللقاء المتألّق الحييّ البهيّ من بعد تسليمٍ وشوق. ثلاثون عاما بالتمام والكمال مرّت منذ استلام تلك الرسالة المفاجئة الأولى والأخيرة. كنت أملك حينها بضعة أسئلة وبعض عبرات أو ربما العكس. ارتأيت أن أحتفظ بها لنفسي وأن أصمت للأبد. أظنني خشيت الكلام وسحر الكلمات، وربما خفت من البدايات التي لا تنتهي، ومن قدرة المُريد ألا يعترف بالأبد إن أراد.

أحيانا نحتاج أن يمسك راحتينا في الحياة أحد. أن يُريحها ويُريحنا ويقول: "لا تتوقف. لا تتعجّل. أنت لم تتأخّر فلا تخف. أنا معك حتى النهاية، حتى وإن لم أكن معك". ألّا يُريد منّا شيئا أكثر من أن نكون بخير. ألّا يُلزمنا بشيء، وألّا نلتزم معه بشيء أكثر من أن نكون كذلك. أن يدعو لنا صبحا وعشيةً بالسلام والاطمئنان وراحة البال. أن يتذكّرنا كلّ فرحٍ وكلّ ألقٍ وكلّ سعادة. أن يذكّر الغير بنا، وأن يحكي عنّا الحكايات التي لا نستطيع أن نحكيها نحن عن أنفسنا بأنفسنا.

أستطيع أن أقول لك إنّ الحب سرٌّ خطيرٌ يأتيك متى ما أتيت الحياة، ولا يرحل عنك حتى بعد الرحيل عنها. أحدهم سينبض كلّ إشراقة شمسٍ بحبّك، ويشتاق دوما لقربك، ويمنّي النفس أن الملتقى حتما هناك. في السماء خلودٌ لا فراق بعده.

الحب سرٌّ لن تبرع في فهمه مهما كنت بارعا. ليس بالضرورة أنّك ستحِب في هذه الرحلة ولا أن تُحَب أيضا. ولكنّك بلا شك ستحظى بفرصة أن تشاهد قصص الحب على الطريق، وأن تبصر ببصيرتك إن كان هذا المحب شمسا في درب تبّانة الحب أم قمرا. أيصدّر هذا المحبوب الرضا والبهجة للآخرين كالضوء لا يخطئه أحدٌ، أم أنه لا إراديّا يعكس من ظلمة وحدته نورا لطيفا شفيفا يسرّ الناظرين لا أكثر؟

في ذلك الصباح الطاهر، الطاهر جدا، وصلت الرسالة الأولى، ولا تسلني عن معنى طهر الصباحات. لم أكن أعي قبلها معنى أن يبعث الغريب رسالة إلى غريب على غير ميعاد. استغرق الأمر ساعاتٍ وساعاتٍ إلى أن رددتُ عليها. أقصد الرسالة.

ولكن مهلا: من قال إنّي مُطالبٌ بالردّ؟ من قال إنّ المرسِل على الدوام سيتوقّع تلقّي الإجابة؟ لماذا جُبلنا على أن ننتظر؟ من قال للقلب أن يخفق مثل تلك الخفقات السماوية حال قراءة الوجدان وجدانا كُتب إليه دونا عن العالمين؟

كيف على المتلقّي أن ينسجم مع حقيقة أنّ مجهولا في الواقع الافتراضيّ، معلوما على أرض الحقيقة، اختار بعد فجر ليلة من الليالي أن يبوح له عن بعض ما به بين جناحي رسالة.

ما معنى رسالة؟ كم رسالة من غريبٍ حظيت بها في الحياة؟ ما وقع تلك الكلمات عليك؟ هل انتظرت منه ثانية؟ أخبرني بربك: ألم تكن سعيدا وأنت تستنشق عبق شيءٍ ما بين السطور؟ إنه شيءٌ كالحب، ليس بالحب كُتب. شيءٌ لا يشبه الأشياء ولا تشبهه. شيءٌ يقال عنه "إنسانية". شيءٌ يدفعك برغبة الحياة، بإرادة أن تتحوّل من كونك المنتظِرُ دوما إلى صيرورة أنّك المنتَظر إلى أجَلٍ مسمّىً فحسب.

هل تتغيّر نفسيّة المرء إن غيّر قناعةً واحدة؟ هل تتغيّر الأقدار من حولنا حقا بتغيّر الأفكار والروتين والوجهة؟ نعم.

أزعجني أنّني لم أجرؤ على الرد رغم أنّي كنت أريد. ما أجبن المرء حين لا يقدم على ما يريد! وما أشجعه حين يصرع الإرادة إذا لزم الأمر! أليست الإرادة أمرا محمودا دوما؟ محمودة نعم. على الدوم لا. ليس كل تخلٍّ عنها هزيمة. وليس كلُّ تركٍ لها استسلام.

ماذا لو أنّي رددت؟ ماذا لو أنّنا ابتدأنا رحلة السلام؟ ماذا لو أخبرت كيف صرت هنا؟ من أين جئت وإلى أين راحل؟ ماذا لو أنّ حروفي تحدّثت إلى أن يطلع الصباح؟ هل يُسمح لي بالبكاء؟ أيُستأذن به؟ أنا بحاجة ملحة لأن أبكي أمام غريب لا يعرفني ولا أعرفه. أبكي حتى أنسى ما مرّ علينا في السنين الأخيرة. أريد بعض نورٍ وفيضا من سلام. الرد قد يساعد في تخطّي كل ذلك.

ما معنى العيش؟ لماذا نحاول أن نحيا ما استطعنا رغم التعب؟ كيف لا نسأم التغيير؟ كيف لا نملّ المحاولات؟ من يسقي الأمل رغم أشواك الألم تملأ المكان؟ أتراه ينمو بتيك الدموع المالحة؟ أيعقل؟ من يدري؟ لا أدري. في الحقيقة أستبعد.

كنت أمام خيارين بلا ثالث. ولو شئت لوضعته صويحبا لهما فأنا هاهنا السلطان. وأنا بالتأكيد صانع القرار. هل عليّ أن أردّ وأمارس حقي الإنساني بالرد والاستمتاع بقراءة أحدهم لما كتبت في هذا الكون الفسيح؟ هل بالضرورة أن تلمس كلماتنا وجدان من لمست كلماتهم وجداننا. كنت أرجو ذلك. بل قل كم كنت تتمناه.

الخيار الأول أن أرد، وأن أعيش قلق تغيّر الحال بعد زمن، وأن أخشى رسالةً بعد رسالةٍ أيّ الرسائل منها ستكون بلا سابق إخطارٍ الأخيرة. وذاك خيارٌ لا أقوى على التفكير فيه لكثرة ما فقدت مما أحببت وممن أحببت حتى اليوم.

والخيار الثاني كان أن أرد ولكن بطريقة مختلفة تماما عن الردود المعهودة العادية. إذن لن أكتب. لن أسرد. لن أنتظر. سأكتب على الماء أو الهواء. سأكتب كل الأوجاع التي مررت بها وأعبّر عن كل ما يقلقني حيال مرحلتي الحياتية الحالية. سأقول كم انتظرت وما زلت أنتظر ولا أدري حتام. سأهمس أنّي تعبت بعض الشيء، وبأني بتُّ خائفا من كلّ شيء، وأنّي بحاجة ماسّة إلى سكن. وسأشكر المرسل أنه أتاح لي فرصة الشعور بأني محبوب وسط هذه الزوبعة المريعة من النفاق الاجتماعي الكئيب المريب الذي تعانيه المجرة في زمن العجائب هذا.

لم أدرك إلا بعد عام أنّ كتابة الردّ الأوّل استغرقت منّي طيلة العام. لقد رزقت شقيق روحٍ بسبب رسالة. عجبت للرسائل كيف تصنع بأصحابها مثل ذلك بخفة وبراعة. لقد أضْفَتْ على أيامي رونقا خلابا ذا مسرّةٍ وبهجة. مع مرور الأعوام كنت أشعر بالامتنان للخيارين اللّذَيْن ألزمت نفسي بهما: أن أردّ ولا أضمن الاستمرار أو ألا أردّ وأضمنه. والضمان استقرارٌ وقوة، وأنا أريد أن أكون مستقرا بقية حياتي إن كان في العمر بقية.

لا أعرف كيف صنعتُ لنفسي مساحة سرية خاصة بي وبها وبنا معا، ثمّ رددت على تلك الرسالة برسائل بل بعشرات الرسائل. لكنني أعرف أنّني بما تعنيه الكلمة صرت سعيدا. كنت أكتب لذلك الذي لا أعرفه، وأعرف أنه يحبني ويدعو لي ويأمل لقائي ويتمنى لي الخير كلّه.

كانت فتاة. أدركت ذلك أثناء قراءة سطرٍ ما بين سطور تلك الرسالة. حورية تجلّى حسنها أثناء تكرار القراءة شوقا بعد شوق إلى مجهول. حدّثتني بصيغة الإنسان للإنسان دون إشارة لمن هي، وإن كانت منّي شيئا تريد إن كنت أملك شيئا يُراد. انسكبت بين سطورها الكلمات وكأنّنا درسنا الابتدائية معا أو تخرّجنا من نفس الثانوية.

كنت أقرأ بفؤادي لا بعينيْ. حين قررت ألا أرد، كنت أعلم أني كتبت على نفسي ألا أحظى بقراءة ثانية منها لي غير هذه القراءة. وكنت أعلم أني كلّ رسالة سأردّ عليها بها سأعود إلى رسالتها تلك وأتخيّل أنها بها تردّ علي. يا لتعاستي من كاتب. ما أسعدني من مُرسَلٍ إليه. ثمّ ما أتعسني من مُرسِلٍ إلى غيره.

في العام التاسع والعشرين، كنت قد رددت قرابة ثلاث مئة وستين ردا على تلك الرسالة. لديّ علاقة وثيقة مع تلك الردود. أستطيع أن أقول لك إنّها كانت مذكّرات حياتي التي دوّنتها لتلك التي صارت دون أن تصير حياتي. كيف؟ لا أدري؟ لغزٌ ما كان بين حناني ذلك المكتوب.

أكتب لأحدهم يعرفني. لأحد وثق بي ذات رسالة. لأحد يخيّل إليّ أنّي يوما ما سألقاه. كيف ومتى لا أدري. لكن خفقةً في القلب تخفق كلّما كتبت له في مطلع الرسائل: "مرحبا"، تخبرني أنّ لقاءً ما سيتم لا ندري صدفته وميعاده. لقاءٌ حلوٌ على موعدٍ منا قريب. قريب جدا. قرب الجنين في أحشاء أمّه.

تمام الثلاثين. أرسلت لي: أما آن للراعي أن يلتقي رعيّته؟

كنت قد حضّرت وصيّتي بالفعل آنذاك. أخبرت فيها عن رغبتي بنشر تلك الرسائل التي لم تُرسل بعد. تلك الرسائل التي أودعتها كلّ أسراري. الرسائل الممتنة لذلك المعروف الذي وقع على حياتي كورقة غارٍ أضفت عليها نكهةً مميزةً لم أتوقعها يوما. ولكلّ اليقين الذي احتواه الصبر بأنّي قدرا ما سأتعرّف وجها لوجهٍ إلى ملامح كاتبة الرسالة.

D 1 كانون الأول (ديسمبر) 2022     A شفاء داود     C 1 تعليقات

1 مشاركة منتدى

  • ما اكثر الرسائل و الردود عليها...كانت رسائل و ردود بين مي زيادة و جبران خليل جبران و مي زيادة و مصطفى صادق الرافعي و غيرهم و كلها انتهت بالنشر دون أن تكلل تلك الرسائل بالنهايات التي كان أحدهم يتمناها أو يتوقعها و عاشوا غرباء رعاه و رعية جمعتهم رسائل في فضاءات إنسانية .
    سلم قلمك


في العدد نفسه

كلمة العدد الفصلي 27: الموارد الرقمية بين المكتبات والمواقع المفتوحة: مقارنة

إدواردو غاليانو وعابرية القصة القصيرة

الذكاء العاطفي والفضاء الإلكتروني

هَيْلَمان

وتكون غريبا