عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

شفاء داود - سورية

للأمنيات سعيٌ يُذكر


.

ابتداء من المرحلة التمهيدية في التعليم، وحتى ختام الصف الثالث من المرحلة الثانوية، اعتاد المعلمون والمعلمات سؤال التلاميذ عما يتمنون أن يكونوا حين يصبحون كبارا. عاما بعد عام يرى الطفل نفسه في حلم أكبر، أو يكبر حلمه معه في وجدانه أكثر فأكثر.

هل يبدو الكبار كبارا في نظر أنفسهم كما هم في نظر الصغار؟ من يدري؟ هل كبرنا حقا؟ لماذا؟ متى؟ كيف؟ ما هو العمر الذي يكبر فيه البشر؟ هل تمثل التواريخ المطبوعة على شهادات الميلاد شيئا من ذلك؟ هل من أحد يريد معرفة الجواب يُذكر؟ ربما.

الحصة المدرسية التي يُطلب فيها من الطلبة التعبير بالرسم أو بكتابة الكلمات عن أمنياتهم المستقبلية حصة ذات مشاعر فياضة تبتسم فيها بسمة تسع السماوات السبع أو تدمع دمعة أشد ملوحة من البحر الميت بجبروته.

هل للدمع جدوى تُذكر؟ ربما.

لم يكن عمران تلميذا عاديا ولا سلطان. كتبت المعلمة على شهادة نهاية العام الدراسي لثانيهما: "لن أنساك. حين تكبر ابحث عني وستجدني. من يبحث عن معلمه يجده".

كانت تريد أن ترى ماذا سيصير. كان يريد أن يصير طيارا. كان باسما وسيما لاقت به الوسامة كما لم تلق بصبي في الصفوف مثله. كان يفاجئ معلمته كل صباح بحضن أدفأ من حضن الصباح الذي سبقه وأطيب. رغم أنها لم تكن تحب المفاجآت، لكنها مع الأيام استثنت الأحضان الصباحية لما تنثره من بهجه، رغم أن ثمن الحضن كان باهظا بعض الشيء. هل للأحضان أثمان تذكر؟ ربما.

يندفع التلميذ عند باب الفصل نحو المعلمة معانقا، فيندفع بعده، أو بوصف أدق معه عشرون تلميذا أو أكثر، فلا تستطيع إعادتهم بسرعة معقولة إلى مقاعد الدراسة مهما حاولت لبدأ الدرس على موعده. يمر العمر رويدا رويدا وتدرك فيما بعد أن بعض الأحضان لا تعوض، وأن علاقة الأستاذ بتلاميذه نعمة لذيذة حلوة تمشي على قدمين.

= هل ثمة نِعَم تمشي يا معلمتي؟

= نعم يا صغيري، تحبو وتمشي وتهرول وتقفز وتطير، وبعضها يحلّق بنا ومعنا عاليا أيضا. بها نشرق ونتألق ونزهر ونفوح شذا فتّانا.

بعض النعم في حياتنا نراها وبعضها هي من ترانا في حين لا نستطيع أن نرى. تحفنا النعم كيفما التفتنا، ولكننا لا نعي ذلك إلا متأخرا، متأخرا جدا، وأحيانا بعد فوات الأوان للأسف. هل للأسف جدوى تذكر؟ ربما.

كان عمران أتعس طفل يبلغ من العمر خمس سنوات درسته المعلمة على مر السنين. طفل عصبي جدا. يصفع باب الصف كأنه يريد أن يعبر عن شيء ما يؤلمه لا نعلمه. غاضب على الدوام غضبة رجل طالما أضاع مفتاح سيارته ولطالما لم يتحسس جيبه. تم نقله بين عدة صفوف على أمل أن يتغير مع التغيير دون جدوى. كل معلمة لا ترغب بالمحاولة معه ثانية.

كان وراءه حكاية ليست ككل الحكايات، وليس الجميع بما خلف كواليس العين مغرم. طفل يحيا حياة لا تشبه الحياة مع زوجة والده رغما عن والدته التي لا يراها، وعن طفولته التي لم تره وعن الإنسانية جمعاء. حياة لا تتمناها والدة لأبنائها. حياة يفترض أنها أهدأ من ذلك. حياة كان يرجو فيها بعض الإحسان لا أكثر.

= "هل تذكر تعريف الإحسان؟"

= "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".

صباحا بعد صباح، يدخل الرجل الصغير إلى الصف غاضبا. يفتح الحقيبة، يخرج منها شطيرة منزلية الصنع ويرميها في سلة المهملات، ويعود أدراجه إلى درجه وكرسيه، ويتحاشى النظر في عيني المعلمة التي كان يحتضنها خلسة بين التلاميذ مع سلطان، ظنا منه أنها لن تشعر، وأنه لن يشعر باندفاعه معهم منهم أحد.

تسأله المعلمة:

= "لماذا يا عمران؟ هذه نعمة الله والنعم لا تُرمى. النعمة تقبّل وترفع فوق الكفوف والرؤوس ونحمده عليها كي يحفظها لنا".

= "ولكني لا أشتهي أن آكل طعاما أعدته لي عاملة منزلية".

يسود الصمت في الصف الصاخب للحظات بسبب تعبير الصغير الخطير. يقولها بصوت متهدج دون أن تلتقي العين بالعين فيفضح ما في العين دمع العين. كان كله يبكي كل يوم دون أن يبكي. يفرغ مقلمة أقلامه على الطاولة كيفما اتفق على عجل. يفتعل الفوضى بشتى الوسائل كي ينهي الحديث، وكي يبدأ رسم الحروف والأرقام على السبورة، وكي يُطلب منه تسميع السورة، وكي ينسى أنه يفتقد، وكي يتناسى أن شعور الفقد يجر معه انكسارا لا يطيق له حملا أو مجابهة.

كانت كل كي مما سبق تكوي نفسه كيّا، ولكن بعض الآلام ما من كيها مهرب.

كان الطفل مصرا على موقفه طيلة العام. يرمي الشطيرة ومن ثم ترفعها المعلمة مصرة أيضا. في الفسحة المدرسية يخرج من جيبه مبلغا من المال لا ينبغي أن يُعطى مثله لمن هم بمثل سنه. يشتري ويشتري ومن ثم يأكل ويأكل فلا يشبع.

لم يفهم أحد مدى صعوبة أن تحضر له امرأة أبيه شطيرة بيديها ولو مرة، مرة واحدة فحسب، المرة تفي بالغرض في كثير من الأحيان، لكن بعض القلوب في الحياة لا تعرف الرحمة: أشح من أن تجود بمرة أو بشق تمرة.

وصل الأمر به أخيرا أن يسأل أصحابه يوما إن كان بينهم من يبيعه شطيرته مقابل أوراقه النقدية العشرة. تم البيع. باع من باع واشترى من اشترى. لم يعلم أحد إن شبع الجياع حقا أم أنهم تظاهروا بذلك، فما كل مأكول من بعد جوع مشبع، وتلك عبارة تشرحها الأيام شرحا كافيا وافيا لكل عابر سبيل حمل المسك على عاتقه في هذا العمر الجميل.

يكنز المعلم مئات العبر عبر سنوات التربية والتعليم. له في كل يوم وموقف ومحطة ذكرى. وله مع كل طفل ومعلم وعامل وإداري حكاية. المدرسة صرح حكمة عظيم لنا فيها ذكريات ترافقنا مدى الحياة مرافقة طيبة وتنعش فينا مشاعر مختلفة بين حين وآخر رغم تغير الزمان. ولكن إحدى الأمنيات التي لازمت أمنيات الطفولة عند التلميذات تلك التي كانت ولا زالت وستبقى الأجمل: "أريد أن أصبح أما".

يبتسم البعض ابتسامات خفيفة مخيفة صامتة لأسباب مختلفة بعد سماع الأمنية لأول وهلة. ولكن أحدا لا يدرك حينها أنها أجل الأماني وعيا لا أسهلها سعيا.

كانت ميادة تنظر بطرف عينها نظرة مروعة حادة جادة لكل من تنطق بتلك الأمنية أو تجرؤ على النطق بها حتى ولم يدر أحد لماذا، وكانت تريد أن تعمل في شركة والدها.

لينة ترغب في أن تصبح عارضة أزياء. زينب ورانيا تعدان الأيام عدا كي تصيرا معلمات.

وحدها سارة التي عبرت عن رغبتها بأن تصبح والدة في حين حسبت أن أحدا في الصف لم يلق لأمنيتها بالا. وحدها التي نطقت أمنية الجميع الأولى والأخيرة بلا استثناء، الأمنية التي نطقت بها العيون في حين لم تنبس بها الشفاه، وحدها لم تحبس مشاعرها، ولربما وحدها كانت الأشجع.

هل تحتاج أمنياتنا منا أحيانا بعض شجاعة تذكر؟ ربما.

رغم أن السؤال تكرر طيلة خمسة عشر عاما، لا أذكر عن أمنيات الطفولة شيئا يذكر. في عمر من أعمار حياتك، يفقد ما مضى وانقضى أهميته، ويصبح المهم العظيم هو ما تفعله الآن تحديدا، أي ما بين يديك اللحظة والساعة لأنه مصنع العمر الآتي ومنجم الذهب العزيز.

هل يحيا بعض البشر حياة لا معنى لها ولا قيمة؟ حياة بلا أمنيات؟ حياة لا تقدر قيمة الحياة ولا تشكر الرحمن قولا وعملا أيا كانت الهمة والمهمة وأيا كانت الهموم الممتحنة بها الأكتاف. أيعقل ذلك؟

كيف يتوسد وسادته آخر اليوم من ليس لديه حلم سامٍ أو طموح نبيل يصونه ما استطاع عن عيون الآخرين إلى أن يتحقق بعون الله؟

كيف يحس بقيمة الحياة من لا أمنية له فيها ولا هدف؟ كيف يسعد من يهمّش أمنيات الآخرين وأمنياته مقدسة يحرم مساسها على أحد؟

كيف تنام عين بهناء تحت ذات السقف مع عيون دامعة لم يكن مناها أكثر من شطيرة صغيرة ميزتها بين شطائر الصباح أنها صنعت بِيَدَيْ أُم؟ أليست العاملة المنزلية أما أيضا؟ هل يعني ختم: "صنع بكل الحب" أنه مصنوع بأيدي الأمهات بطريقة ما ولكننا لا نفقه من الحب شيئا؟

هل ما زلنا نحتفظ بأمنيات حميمة بين حنانينا تحفظ على ملامحنا سر الحنين وأسرار اليقين سعيا منا إليها محاولة تلو محاولة؟ هل سنبشر بتحقيقها يوما من الأيام؟ هل للأمنيات سعيٌ يُذكر؟ نعم بالتأكيد وليس ربما.

= كيف نبحث عن أمنيات لنا حلقت بعيدا عنا منذ زمن؟

= بالسعي نعيدها ونملكها من جديد.

= هل يكفي السعي؟

= السعي أوله جِنّة وأوسطه جُنّة وختامه جَنّة. السعي للصالحين كفاف. والسعي للمصلحين عفاف.

تبارك الودود حين وعد وبشّر: "وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ * وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ * وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ" (سورة النجم 39-43).

D 1 أيلول (سبتمبر) 2022     A شفاء داود     C 0 تعليقات