شفاء داود - سورية
شاي الزنجبيل
"لا تبدئي موضوع التعبير بحرف، أيا كان الحرف". هكذا قالت معلّمة التعبير في الصف الرابع الابتدائي. ومنذ ذلك التنبيه والنهي وحتى اليوم لا تفلح أن تبدأ مقالاتي إلا بحروف.
النص الذي يبدأ بحرف جر يجرّ من بعده أسراب إلهام وحكايا. والنص الذي يبدأ بحرف نفي أو نهي ينفي استبداد كليهما خلال سطوره وينسف سيطرة فكر الآمر والناهي معا ويقول بدهاء: إنّا ها هنا كاتبون ولا سلطان على الحرف يا ولدي.
لو أنّ معلّمتي أدركت حينها معنى أنّ كلّ ممنوع مرغوب لما نهتنا عن مثل ذلك. لو أنّها تمكّنت من إيحاء لا مباشر تغرس لنا به الفكرة في عقولنا الغضة لقلنا لها سمعا وطاعة ورحبنا بما علّمتنا في كتابات عمرنا القادمة كلّ ترحيب.
كانت رزان معلّمة لطيفة، لاق بها تدريس اللغة العربية كثيرا وليس بالكلّ يليق. كانت تحبّنا وكأنّنا بنيّاتها. لا أفهمُ بعد كيف تستطيع الأنثى أن تهب الحنان المتدفّق وعاطفة الأمومة قبل أن تجرّبها. الذي لا أنساه أنّ معلمتنا تلك كانت أوّل إنسانة في حياتي أسمع من الطالبات اللاتي تكبرننا في ساحة المدرسة عنها أنّها لا تنجب.
هذا قدرٌ مكتوبٌ لا اعتراض عليه، ولكنّه كسرة القلب التي لا نستطيع تجاهها تصرّفا مثل الرضا بأنّ ما عند الله خيرٌ وأبقى. قدرٌ يستوجب إيمانا ثابتا بِـ: "وَلسوف يعطيك ربّك فترضى" (سورة الضحى. الآية 5)، ويقينا تاما بـ "إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ " (سورة التغابن. الآية 14). وكذلك أن ربّ الكون يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء. حين اختار لنا هذا الصرف، اختاره ليصرف عنّا شرّ القضاء جلّ شأنه في علاه.
كانت ليّنة، تدخل الصف كنسمة، تغمرنا بالحب ببسمة، عطوفةٌ متفهّمة، تدرك أنّنا نعيش ربيعنا العاشر ليس أكثر، وأنّ الحياة كلّ الحياة ما زالت أمامنا كي نتعلّم ونتقن ما يصعب علينا إتقانه الآن.
حين ينتهي الفصل الدراسي، كانت تستأذن من بعضنا أن تحتفظ بدفاتر تعبيرهنّ للذكرى، لعلّها كانت ترى بين سطور اللغة ومفرداتها أبناء لها، لعلّها كانت بذلك لا تنسانا، ولعلّها قررت بينها وبين الرضا أنّ كلّ هؤلاء البنيّات بنيّاتي. ربّما، ربّما.
فرّقت جمعنا الأيام وحال بيننا الزمان دون أن نعرف سرّ حبّ جمع دفاتر التعبير ذاك.
ستكبر وأكبر. الجميع يكبر.
حين تكبر، إن كبرت في بيئة معطاءة محبّة للخير سويّة، ستتمنّى لو أنّك تستطيع مساعدة كلّ محتاج بما ملكت يمينك وما استطعت إليه سبيلا، جُبِلَ الإنسان على حبّ الخير. الطبيعي في الحياة أن تمدّ يد الإحسان، أن يعمّ الخير أينما مررت في هذا العمر لأنّ نشره أصل الوجود وسرّ الخلود وقلّ من يدري.
في الصف الأوّل ثانوي، التقيت معلّمة ثانية لا تنجب أيضا، كان ذلك ثقيلا على قلبي، وكان مخيفا بعض الشيء. لنقل الصدق: كان يخيفني خوفا بليغا أكثر من أي شيء.
في كلّ تصوراتي عن مستقبل حياتي أسمع صخب أطفال، لا أعرف من هم ولا كم عددهم، لكنني بالتأكيد سأكون يوما ما أم. أنا أمٌ قبل أن أكون كذلك، أمٌ حين أدعو لمن أحب في ظهر الغيب، أمٌ حين تدمع عيني وأتمنّى الخير لغيري، أمٌ حين أتمنى أن أفتدي بروحي من لا أمّ له، أمٌ حين أطهو طعاما لذيذا بنظري ويخطر على بالي طالبٌ مغترب يشتاق لرائحة طبخ الأمهات الشهيّة، أمٌ حين أطرّز بالإبرة والخيط، وحين أكتب بالقلم على الورقة، وحين أحضّر حفلة الشاي وأخبز بقربها كعكة التفاح بالجوز والقرفة.
معلمتي الحنون اسمها فاتن، خمسة عشر عاما مضت على زواجها، كلّما وصلت إلى الشهر السادس أجهضت، المدرسة كلّها تدعو لها كلّ حمل أن يثبت ولا ثبات. ولله الأمر من قبل ومن بعد. تخرّجت من الثانوية وبقيت على اتصال ببعض معلّماتي، مرّت عشرٌ من بعدها عشرٌ أُخَر وما زلت أتواصل معهنّ، لِمَ لا وهنّ من قال فيهنّ شوقي قولته البليغة: "كاد المعلّم أن يكون رسولا".
أخيرا أنجبت حبيبتنا فاتن. سبحان المعطي حين يعطي كيف يعطي وأين ومتى! سبحان الرزّاق حين يرزق كيف يرزق وأين ومتى، أنجبت لنا توأما جميلا بنتا وصبيّا.
معلّمة الأحياء أمٌ أيضا، في كلّ المرّات التي كانت تضمّني فيها كنت أشعر أن هذا الدفء دفء أمّ، أنّ الله سيعطيها بلا شك، متى؟ لا أعرف. كيف؟ لا أعرف. ولكنّه سيعطي، أنا متأكدة أنه سيعطي، الله لطيفٌ بعباده، وأنا على يقين بذلك.
الله سيعطينا، ربنا سيمنح، بعض منعه عطاءٌ أيضا، لكننّا غالبا للأسف لا نفهم، ولا نطيق أن نفهم.
في المرحلة الجامعيّة، التقيت المديرة منيرة، كانت شعلة نور ونار، همّةٌ متوقّدةٌ وعطاءٌ لا محدود، كان الصرح المدرسيّ صباحا وعصرا يحتاج استشارتها في الشاردة والواردة، كانت من كلّ علم تنهل وفي كل شيء تفهم، أوتيت من كلّ شيء ولها حظٌ من حبّ عباد الرحمن عظيم.
لم يكن المنع في هذه الذكرى ألا تصير المعنية أمّا فحسب، المنع ألا تكون زوجة أصلا، الحسناء التقية النقية البهية لم يكتب لها من قسمة الزواج حظ، لماذا؟ لا أعلم ولن نعلم. الذي أعلمه أنّ أولئك الذين يرحّبون بمنع الله مثلما يرحّبون بعطاءه يبدون أجمل بكثير ممّن سواهم، على صفحات وجوههم رضا لا يشبهه رضا، يحفّ ملامحهم جمالٌ ليس يشبهه الجمال.
هل كتبتُ جمال؟ يبدو أني فعلت.
جمال أيضا عاش وما زال يعيش مثل المديرة منيرة، تنقّل في البلاد مهجّرا مرّة ومهاجرا مرات ساعيا إلى رزقه. ومضت به الأعوام دون أن يلقى شريكة العمر التي تكمل معه مشوار الحياة، كان له من اسمه نصيب. عينان زرقاوان كأنّهما عمق البحر أو كأنّهما سعة السماء، بسمةٌ فتّانةٌ تخطف دعاء أمهات الريف خطفا لا نظير له، غير أنّها لم تستطع أن تخطف قلبا واحدا وتهرب به وبقلبه إلى المستقبل البعيد.
في كلّ المرات التي كان يمازحنا فيها أنّ الأعوام تمضي عاما تلو عام دون أن يعثر على أميرته، كنت أتساءل بيني وبين نفسي: هل كان يضحك للتوّ فعلا ضحكة حقيقيّة نابعة من قلبه؟ أم أنّه الرضا ثانية وثالثة وعاشرة، الرضا بأنّ لله حكمته التي لا نعلمها وليس بالضرورة أن نعلم، كلّ ما علينا أن نرضى ونثق تماما أنّ من رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط.
كانت الفتيات يتغامزن وتتهامسن بلهجتنا فيما بينهنّ: "عريس لقطة، الله يهنّي سعيدة بسعيد، نيّالها اللي حتتصبّح كل يوم بهالعيون الحلوين وتسبّح ربّ العالمين كل ما شافتن صبح ومسا، نيّالها اللي حتسكن هالبيت واللي حتركب معه هالسيارة، نيالها ومية ألف نيالها اللي ربنا بيرزقها واحد شاطر بالطبخ ومزاجه عالي فيه ورايق من قلب وبيحبّ الموسيقى وبيحبّ الورد وبتحبّه الحياة".
مع أنّهن كنّ يساررن بعضهن بذلك، لكن واحدة منهنّ لم تتمنّ أن تكون صاحبة لقب الـ "نيالها" ذاك، ربّما لأنّ صاحب العينين الأخّاذتين لم يكمل تعليمه المدرسي، لم يفلح في ذلك، ملّ المحاولة فاتجه للعمل مباشرة فأفلح، لكنّه زمانٌ لم يعد يؤمن بفلاح لا توثّقه بعض الشهادات. شاب جمال وما شابت روحه، وكم في الكون مثل جمال، لكنّنا أحيانا لا نرى أبعد ممّا تحبسه جدراننا الأربعة.
هل حدّثتكم عن ألمى؟ ألمى ليست مثل جمال ولا فاتن ولا منيرة ولا رزان.
تزوّجت زواجا عجيبا عمّه الرضا أيضا، زواجٌ تطلّب كثيرا من وعي وشجاعة، كانت مخطوبة حين اتصل بها تيم يريد رؤيتها على عجل، وضع رأسه بين كفّيه وأطرق. وساد صمتٌ طويل، ازدرد ريقه وتحشرج الصوت بالألم ثم همس للصبية التي يحب:
"اسمعي يا بنت الأكرمين، اللي عرفته اليوم لازم تعرفيه، ومن بعدها إلك القرار، يا تضلّي، يا إما بيكون ما إلنا نصيب نكفّي سوا المشوار".
لم تستطع ألمى ألا تبدي انزعاجها ودهشتها، كانت متأكدة أنها لم تتصّرف أي تصرّف غير لائق قد يزعجه، فلماذا يقول لها مثل ذلك؟
دمعت عين تيم دمعة كان لها صوت:
"استلمت قبل قليل نتيجة تحليل لم أسمع بمثله من قبل، لكنّ تأخر إنجاب شقيقيّ سنينا أقلقني ودفعني للبحث حول ذلك. يقول الطبيب أنّ حالتنا وراثيةٌ نادرة ولكنّها موجودة، أنا وإخوتي لا ننجب، ولن ننجب، ومن حقّك قبل أن تنتقلي إلى بيتي إن كنت ستنتقلين بعد ما سمعتِ أن تعرفي ذلك".
كثيرا ما نجد أنفسنا في الحياة عند مفترق طرق محيّر لا نعرف أيّ واحد منهم نختار، يحتار القلب والعقل إلى أين نمضي، أنصتت ألمى لصوت قلبها ولم تخبر أحدا من عائلتها بما سمعت قبل الزفاف، لأنّ تيم منذ طلبها خاطبا صار عائلتها الأولى والأخيرة الصغيرة والكبيرة. والله حين كتب ذلك كتبه لحكمة، ويا مرحبا بكلِّ حكمة تصادفنا في العمر من أقدار الله.
إنها الحادية عشر ليلا، اتصل أخي وما عهدته في مثل هذا الوقت أن يتّصل، قبل أن يسأل عن الأحوال قال: افتحي الباب، وصلت.
هل تعرف تلك الدقيقة التي يعصف خلالها ألف سؤال وسؤال في ذهنك عصفة واحدة؟ بالتأكيد تعرف.
جميعها راحت تخنقني بلا استثناء، صوتٌ ما ينادي: خير إن شاء الله، ما دام الطفلان بخير فأنت بخير، ما دامت أمك بخير فأنت بخير، ما دامت عائلتك بخير فأنت بخير. ورحت أتساءل: لماذا؟ لماذا ما زلت خائفة؟
لماذا نخاف من مكالمات الليل الطارئة وطرقات أبوابه المفاجئة؟ لماذا يفزعنا قرع الأجراس الذي يفرحنا نهارا؟ لست أدري، ورحت أهذي بقلق: يا رب ما يقول إنّه في حدا مات، يا رب.
تذكّرت للتوّ جارنا الطيّب كم بدا منهكا صباحا، كبر كثيرا، أحبّ رؤيته وأستبشر بها خيرا، لا أريد أن أسمع خبر رحيل أحد يعزّ عليّ الآن.
فتحت الباب على وجل، تبسّم ضاحكا صاحب الظلّ الطويل الذي تحلو برؤية بسمته الصباحات: رفع كيسا مليئا بالكرز الأخضر الجارينك الذي يندر أن يصل إلى هنا، وقال: "من مرسين. خالك بعته إلك وبس".
خالي: من مثل خالي؟ تبسّمت. وبدمع الحنين غصصت.
وخفق قلبي واشتاق أن أصير إلى بلاده في لمح البصر، أن أعانقه، أن نضحك ونسهر ونثرثر معا. مضى ثلاثة عشر عاما بالفعل منذ آخر لقاء بيننا. متى سنلتقي يا رب؟ متى؟ متى يا متى؟
لدى كلّ منّا في هذا العمر فقد وتحدّ وصبر وحاجة، تختلف حاجاتنا وتتفاوت درجات صبرنا ولنا في دلالات نهايات بداياتنا في التعامل مع حوادث الزمان عبرة بالغة لمن كان له قلب به يتأمّل تفاصيل رحلة الحياة.
كلّما تعلّمت أكثر، ستظمأ للفهم وطلب العلم أكثر. كلّما صقلت مهارتك، ستحبّ أن تجرّب جديدا وتحاول أكثر.
تجمع المال فتحبّ أن تجمع منه أكثر وأكثر، والفطن منّا من أدرك باكرا أيّ أكثر لا بدّ له من التوقف عندها والاكتفاء، لأنّ درب الأكثر درب شائك طويل لا نهاية له ولا حدّ، يأخذك شيئا فشيئا من دائرة الشغف إلى فراغ الطمع لتجد نفسك مكتئبا من بعد رضا حزينا من غير سبب.
كنت في تلك الدائرة، كان العمل والسعي على الرزق ما به أفكّر، كنت أبذل الأسباب وأذلّل الصعاب أو هكذا كنت أظنّ، كان اليوم ما بين السابعة صباحا وحتى السابعة مساء مليئا بالصّور، كنت أرى نماذج من الحيوات الكثيرة في اليوم الواحد لا تحصى ولا تعدّ، وكانت الكتابة ملاذي الذي أسرّه بعض ما في يومي رأيت.
أرسلت السيدة ياسمين رسالة: سيتأخّر الأطفال ساعة، إذا أحببتِ أن ترتاحي قبل المجيء قليلا فلا بأس، وإذا كنت على وصول فأهلا وسهلا ومرحبا. شاي الزنجبيل بانتظارك كالعادة.
كنت قد وصلت بالفعل، قالت إنّها تعرف أنّي شغوفة بالتصوير، وأحبّت أن تبلّغني أن آخذ وقتي في ذلك مع زهور الحديقة إلى أن يصل الأطفال ونبدأ دروس المتابعة المسائية اليومية. كنت متعبة، والمتعب أحيانا لا يستلذ بهواية ما لم يرتح، نحتاج لذلك الزنجبيل اللاذع أحيانا كي نصحصح، كي نركز، كي ننتعش، كي نعيش.
لم يسبق لي أن جلست وياسمين وحدنا على انفراد، لا تشبهني، ربما أنا لا أشبهها، لا يهم، المهم أنّ علاقتنا رسميّة جدا، علاقة معلّمة بأم تتابع لها دروس أبنائها ليس أكثر. في ذلك العصر كانت تريد أن تتحدّث ياسمين، من حظّها أنّي كنت مستعدّة كي أسمع، فانطلق الحوار بيننا وكأنّنا صديقتان منذ زمن.
بيتها هادئ مرتب متناسق الألوان جميل جدا، يشبهها، يشبه الطفلين، بيت لطيف ألوانه زاهية كما أحب، تحيط به حديقة خارجيّة صغيرة يزيّنها كيفما اتفق الفلّ والريحان، وتميّزها شجرة زيتون، عند مدخل البيت. وفي الصالة الرئيسيّة على يسار درجات الدرج ترى نباتات داخلية من أنواع شتى تتوزع في كلّ الأنحاء فتجعل من المكان حديقة حقيقيّة ذات بهجة.
منذ الزيارة الأولى انتبهت إلى أنّ لوحات المنزل تحمل توقيعا واحدا، هذه الأم تحبّ الفن. هذا شعور لا أخطئه، في بيتها حياة أحبّها، تحيا حياتها الخاصة كأنثى متوازيا مع حياتها كأم وزوجة ومربية. لا ينقص على أهل بيتها من واجباتها شيء، تلك واضحة تُرى بالعين المجرّدة لا يختلف عليها اثنان، البيت الذي يقصّر راعيه في تحمّل مسؤولية رعيّته لا يبدو رائقا مثل ذلك، الأم راع والأب راع، كلّ منّا في الحياة له رعيّته وعليه رعايتها ويا تعس حظ من ضيّع الرعايا ثمّ ندم.
سألتني عن حالي، عن أهل بيتي، عن حياتي، تريد أن أحكي لتحكي، ابتدأت الحديث وقالت: اسم والدتي شكيرة، اسمها شكيرة الله، رزقها الله من البنات ثلاثا، ولكلّ منّا قصتها وقسمتها ونصيبها في هذه الحياة الذي به رضيت ومعه تعيش.
كما ترين، أحيا حياة طيبة والحمد لله، يقوم زوجي على أمور البيت. لا ينقص علينا من حاجاتنا شيئا. لكنّ غصّة ترافقني أنّي لطالما تمنّيت أن أعمل بشهادتي كما أرى كثيرا من النساء يعملن. لطالما وجدت نفسي في زاوية حادة حين يحرجني يوسف متسائلا: هل قصّرت يوما بشيء؟ ماذا عن الأولاد؟ أولادنا يحتاجون أمّا رائقة المزاج قويّة البدن حين يرجعون ظهرا من مدارسهم. كيف ستتحمّلين الاستماع لأسئلتهم والصبر على ثرثرتهم وتلبية احتياجاتهم وأنت في نفس موعدهم عائدة معهم من عمل؟
لدينا مساعدة منزلية تساعدني في شؤون المنزل، ولدينا سائق أيضا. بدا لي في كثير من الأحيان محقا حين يسأل: لماذا؟
غدا يكبر الطفلان وأعمل، لن تركض منّي الحياة ولن يفوتني شيء لي، سأستطيع لحاقا بها يوما، الآن لا بدّ لي أن أركّز على مسؤوليّتي الحالية إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.
أتعلمين يا أستاذة؟ أختاي لا تملكان مثل الزوج الذي أملك ولا أملك مثل ما تملكان، وكلّ منّا راضية بنصيبها، فهذه أرزاقنا في الحياة.
أختي الأولى زوجها طيّب محترم ولكنّ حاله الماديّ لا يساعد أن يعيشا دون أن تشاركه بالعمل، فبدلا من أن تطلبه وتلحّ عليه كما أطلب وأُلحّ وجدت نفسها ذات مسؤولية في الحياة مضطرّة أن تعمل مجبرا أخاك لا بطل، عملها لم يكن اختياريا يوما، تمضي الحياة بالرضا يا أستاذة، والله تمضي.
أختي الثانية، الأصغر، فتح الله لها فتوح العارفين، لديها عملها الخاص ودخلها الذي بارك الله لها فيه وأكرم، لكنّ زوجها لا يعمل، بعض الرجال مثل ذلك للأسف. شخص جيّد كإنسان ولكنّه لا يصلح مسؤولا ماديا عن بيت البتة، المفارقة في حكاية أختنا الصغرى أنها كانت تحبّه كما لا تحبّ امرأة زوجها في الكون كلّه، كانت متصالحة مع فكرة أنّ الدنيا أرزاق، وأنّ الله بدلا من أن يصبّ لهما رزقتين صغيرتين منفصلتين ويقسمها بينهما، شاء بحكمته أن يجعلها رزقة كبيرة، كبيرة جدا تُصبّ في يمينها فحسب دفعة واحدة لتستطيع تسيير أمور ذلك البيت بالحكمة والمياسرة.
مثلما رزقها الله المال، رزقه حبها له لا يعدله أي مال، رجل مُعسر الحال مسكين، والدته مريضة وأسرته بالعموم فقيرة، تكفّلت أختي بمساعدتهم الشهريّة وبمتابعاتها الطبيّة بكلّ صدر رحب وفتحت بدلا من البيت بيوتا بالحب والرضا والإيمان، تمضي الحياة بالرضا يا أستاذة، والله تمضي. صدّقيني.
"هل لديكِ أخوات؟" سألتني.
"اثنتان أيضا"، أجبت.
قبل أن تسألني أن أحدّثها عن قسمتنا نحن الثلاثة أيضا وصل الطفلان. ضحكت نباتات الزينة، تبسّمت اللوحات، وانتهى بفيض من الحمد والرضا كوب شاي الزنجبيل.
◄ شفاء داود
▼ موضوعاتي