عدلي الهواري
كلمة العدد الفصلي 25: صكوك الغفران: تجارة لم تنقرض
لا فرق بين من يميز ضد المسلمين في دول ذات أغلبية غير مسلمة، وبين من يميز أو يريد التمييز ضد المسيحيين في الدول ذات الأغلبية من المسلمين، واستكثار الترحم على موتاهم، واعتبار التعامل معهم منّة. مهما تم تجميل الأسس التي يبنى عليها هذا الرأي، تظل حقيقة الأمر أنه يروج للتمييز بين أبناء الوطن الواحد وبني البشر عموما. لا توهم نفسك أنه يجوز لك أن تميز في بلدك ضد فئة من الناس لأسباب دينية أو عرقية، ولا يجوز لغيرك في دول أخرى أن يميز ضدك لأسباب مشابهة.
لا تخلو دولة عربية من مسيحيين، ولا تخلو دولة في العالم من بعض المسلمين من السكان الأصليين أو المهاجرين. كيف يجوز أن تنتقد معاملة المسلمين في بلد غير مسلم، وتريد أن تعامل أبناء بلدك غير المسلمين كأنهم أغراب، ولو كان الأمر بيدك لفرضت الجزية عليهم أو العيش في معازل؟ هذه الأفكار الطائفية البغيضة تفقد المسلمين، مثل غيرهم، الثقة في الجماعات والأفراد الذين يروجون فهما ضيقا للدين وطائفية بغيضة.
نحن الآن في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين. ولا يعقل أن يتم تصنيف الناس والتعامل معهم على أساس دينهم، لأن الملتزمين مئة في المئة بدينهم غير موجودين في هذا العالم، حتى وإن ظنوا أنهم كذلك. ولو كان هناك من له نمط حياة يعتبره تطبيقا حرفيا للدين، فهذا اختياره الشخصي. ولا يعقل أن تعتبر فئة نفسها على صواب وكل من لا يشبهها في ضلال، ولا يحق لها ذلك.
ومن الواضح أن المتاجرة بصكوك الغفران لم تنقرض، بل يستغل تجارها الجدد كل فرصة تسنح لهم، فإذا انتقل إلى رحمة الله مسيحي أو مسيحية يخرجون إلى العلن ليروجوا بضاعتهم، ويكون ذلك بقولهم إنه لا يجوز الترحم على غير المسلمين أو الاستغفار لهم.
ونسمع أقوالا كهذه في فترات احتفالات المسيحيين بعيد ميلاد السيد المسيح عليه السلام. وفي هذا السياق، تأخذ المتاجرة شكل النهي عن تهنئة المسيحيين بأعيادهم.
وعندما يتعلق الأمر بصفة شهيد، يستسهل المتاجرون بصكوك الغفران القول إن المسيحي لا يمكن اعتباره شهيدا. لكن هذه النقطة لا تقتصر على المسيحيين، بل هي أوسع، وليست أمرا جديدا، فأثناء ذروة المقاومة الفلسطينية في السبعينيات، كان هناك من المسلمين من لا يعتبر المقاتلين الذين يضحون بحياتهم شهداء. وهذا الأمر لم يختف بعد، ففي حال مقتل جنود جيش عربي، يظهر من يصفهم بالشهداء، ومن يعتبر أنهم ليسوا كذلك.
عندما اغتالت إسرائيل ثلاثة من قادة المقاومة الفلسطينية في لبنان عام 1974، وهم كمال ناصر وكمال عدوان ومحمد يوسف النجار، من كان سيحترم حركة المقاومة وينتمي إليها لو اعتبرت النجار وعدوان شهيدين وكمال ناصر ليس شهيدا؟ وعندما يكون في جيش بلد ما جنود مسلمون وآخرون مسيحيون، ويخوض هؤلاء معركة ويقتلون فيها، لا يعقل أن تعتبر الدولة القتيل المسلم شهيدا، والمسيحي غير شهيد.
لا يجوز في عصرنا هذا أن يكون التعامل بين الناس على أساس الدين الذي ينتمون إليه، علما بأن هذا الانتماء قد يكون قويا وقد يكون اسميا فقط. فإذا كان جارك مسيحيا، التصرف الطبيعي هو أن يهنئك بعيدك وتهنئه بعيده، وأن يعزيك ويواسيك إذا فقدت عزيزا، والعكس صحيح.
وفيما يتعلق بالاستشهاد، وبالنظر إلى أن مسلما يمكن أن يخرج ليعلن أن مسلما آخر ليس شهيدا، يبدو جليا أن البعض يريد أن يختص بإصدار صكوك الاستشهاد والغفران، وتشجيع الناس على عدم التصرف وفق اللائق إنسانيا، والمنسجم مع كون بني البشر متساوين.
في حالة فلسطين تحديدا، هذه الطائفية الكريهة لا مكان لها، لأن فلسطين قضية كل أصحاب الضمائر الحية، الذين يرفضون الاحتلال وإخضاع الشعوب للتطهير العرقي والتنكيل والتفرقة العنصرية. كل من يضحي بحياته من أجل فلسطين فهو شهيد. المجد لكل من استشهد من أجلها في الماضي، ولكل من سيستشهد في الحاضر والمستقبل.
◄ عدلي الهواري
▼ موضوعاتي
- ● كلمة العدد الفصلي 35: التاريخ يكرر نفسه
- ● كلمة العدد الفصلي 34: أعذار التهرب من المسؤوليات السياسية والأخلاقية
- ● كلمة العدد الفصلي 33: تنوير أم تمويه؟
- ● كلمة العدد الفصلي 32: حكّم/ي عقلك وأصدر/ي حكمك
- ● كلمة العدد الفصلي 31: قيم لا قيمة لها
- ● كلمة العدد الفصلي 30: النقد والمجاملات
- ● كلمة العدد الفصلي 29: عن الذكاء الصناعي (والغباء الطبيعي)
- [...]
1 مشاركة منتدى
كلمة العدد الفصلي 25: صكوك الغفران: تجارة لم تنقرض, عفاف/مصر | 31 أيار (مايو) 2022 - 21:27 1
تناول هذه الإزدواجية يزيد التوعية بالذي يوسع الشقة بين أبناء الوطن الواحد، ويترتب عليه عدم المساواة بينهم، وتختفي المواساة الحقيقية بين الناس التي من غيرها لتحولنا تدريجيا لوحوش آدمية.