فراس حج محمد - فلسطين
شيء من اللغة العربية وقواعدها
أحوال الاسم بين المصروف والممنوع من الصرف والمبني
الصرف في هذا الباب يعني التنوين والجر بالكسرة، أو أنه يعني التنوين وحسب كما سيأتي لاحقاً، وهو الحالة الطبيعية الإعرابية للاسم في اللغة العربية، فالأصل أن يكون الاسم معربا مصروفا، وكل ما جاء على أصله لا يُعلل، على العكس من الاسم "غير المصروف" و"غير المعرب"؛ إذ تحتاج إلى تبرير وحجة وسبب، لأنها خرجت عن الأصل، ومهما تشعبت تلك الأسماء فهي قليلة بالقياس إلى الأسماء المصروفة.
يقع الاسم الممنوع من الصرف في منزلة وسطى بين المعرب المصروف الذي ينون ويجر بالكسرة وبين الاسم المبني، واشتبه الممنوع من الصرف بالمبني لأنه قُيّد في حركته، وجرت عليه العلة التي انتقصت من تمكنه الأمكن الذي يوصف به عادة الاسم المصروف. وعلى ذلك فالأسماء ثلاثة: متمكن أمكن وهو المعرب المصروف، والمتمكن غير الأمكن وهو الممنوع من الصرف، والمبني الذي يلزم حركة واحدة، فكأنه جامد عليها وواقف عندها، وكأنه يعاني من علتين معا، جعلته يفارق المصروف بخطوتين.
هذا الربط بين الأنواع الثلاثة من الاسم، يجعل تلك الأسماء تتداخل فيما بينها في حالات معينة، فالاسم — في أي حالة من تلك الحالات— قد يتغير وضعه، فالممنوع قد يصرف، والمصروف قد يمنع من الصرف، والمبنيّ قد يعرب، والمعرب قد يبنى، وفيما يلي بيانٌ لهذه الحالات.
ماذا يعني أولا صرف الممنوع من الصرف؟ إنه يعني إرجاع الاسم إلى حالته الأصلية، مصروفا، رفعا ونصبا وجرا بالعلامات الأصلية، أو قبوله التنوين وما يقابله، أو إعرابه بالحروف فقط من بين العلامات الإعرابية الفرعية، ولهذا الإرجاع حالات، ولا يقال لها أسباب، إذ "السبب" خاص بتعليل حالة الخروج عن الأصل، أما الحالة فهي توصيف لما أصبح عليه الاسم، معافى في الاعتبار اللغوي واقعيا أو ذهنيا توهميّاً.
لقد اتفق النحاة على أن الاسم الممنوع من الصرف يعود مصروفا في حالتين مؤطرتين قواعديا، وهما إن عرّف الاسم بالإضافة أو تحلّى بأل التعريف، فهو مصروف عند ذلك مطلقاً، فتلحق به الكسرة في حالة الجر، مع امتناع أن يلحق به التنوين، لأنه لا يجتمع التنوين مع كل اسم مضاف أو معرّف بأل التعريف، ولا يجوز اعتبار الاسم ممنوعا من الصرف، إذ يفارق حالته ويعود إلى أصله كبقية الأسماء.
لم يبحث النحاة عن حالات أخرى يكون الاسم الممنوع من الصرف فيها مصروفا غير هاتين الحالتين، سوى "الضرورة الشعرية" التي تندرج في المقولة الأكبر "يحقّ للشاعر ما لا يحق لغيره"، وبناء على هذه الإمكانية الفضفاضة منع الشاعر ألفاظا وأسماء من الصرف كلما دعته الأوزان والقافية إلى ذلك، فصرف أو منع حسب مقتضيات الحالة الشعرية، وهي كثيرة، خصص لها ابن عصفور كتابه "الضرورات الشعرية".
يبدو من خلال ما كتبه النحاة في هذا الجانب أن رد الممنوع من الصرف إلى حظيرة المصروف في الشعر أمر طبيعي، ولا يوقف عنده، وهو مشهور ولا يعد عيبا لدى النحاة ولا لدى النقاد، ولا ينقص من قدر الشاعر وقدرته، ووجد عند فحول الشعراء. أما الاستقباح فجَعْل المصروف ممنوعا من الصرف لغير علة. وفي ذلك أقوال كثيرة وتعليلات طريفة.
يندرج مفهوم "الضرورة الشعرية" ضمن مفهوم أكبر وهو "الضرورة" العامة ومنها "الضرورة الشرعية"، فقد قال الفقهاء: "الضرورات تبيح المحظورات". استفاد الشعراء من هذه القاعدة فانتهكوا بعض القواعد لصالح الشعر ليستقيم ويحسن في السمع والترتيل، وربما وجد النحاة عذرا لهم في قوله تعالى: "إن تسألوا عن أشياءَ إنْ تبدوُ لكم تسؤكم" (المائدة، 101)، فتم منع أشياء من الصرف، لا لأي علة، سوى التخلص من توالي المقاطع المتتالية المتشابهة في النطق، فيختل إيقاع الآية لو قال: "عن أشياءٍ إنْ"، فآخر مقطعين هما: (ئنْ، ئنْ)، فمنعا لهذا التوالي المقطعي اللفظي المتشابه منعت أشياء من الصرف.
والحذف لتوالي الأمثال وارد في قوانين اللغة العربية في أبواب أخرى صرفيّة ونحوية. إذاً فكما جاز في القرآن الكريم المنع من الصرف للاسم المصرف في موضع واحد لاعتبار مقبول جاز في أي موضع في الشعر وفي غير الشعر، لأن القرآن الكريم ليس شعرا، ولا تجري عليه مبادئ "الضرورات الشعرية"، بل هو نظم نثريّ إيقاعيّ سلس. فكلما احتاج الشاعر لشيء من ذلك فلا ضير ويحق له في القصائد عامة، ومنها قصيدة النثر التي تعتمد كثيرا على إيقاع الجمل وتراكيبها وطبيعة الألفاظ أكثر مما يعتمد الشعر الموزون عموماً، إذ اعتبارات الوزن متشكلة في الشعر الموزون من موسيقى التفاعيل وانتظامها ضمن ما يعرف بالبحور الشعرية.
فيما سبق تشريع وتصريح لاستخدام "الضرورة اللغوية" متى احتاج إليها الأديب، شاعرا أو ناثراً، وحتى لا يذهب بيَ الحديث نحو الشعر ومعاييره والكتابة الأدبية، وأبتعد عن الهدف من هذه "الكتابة"، أناقش ما تبقى من مسائل في اشتباه المصروف مع الممنوع من الصرف مع المبني أيضا، فثمة حالات غير تينك الحالتين يصرف فيها الاسم الممنوع من الصرف، وهي مبثوثة في كتب النحو في أبواب متفرقة، أحاول أن ألمّ شتاتها لعلها تشكل مجموعة متصلة من "الحالات" التي يعود فيها الاسم متمكناً أمكن، مصروفاً منوّناً.
أول تلك الحالات التي يعود فيها الاسم إلى وضعه الطبيعي مصروفاً، مجيئه مثنىً، فالتثنية تجعل الاسم مصروفاً، تلحق به النون التي هي بدل من التنوين في الاسم المفرد، والتنوين علامة للمصروف، فالاسم "فاطمة" ممنوع من الصرف، لكنه سيكون مصروفاً عند التثنية، مررت بفاطمتين، فالياء في الاسم المثنى علامة إعراب فرعية (حرف) والنون يقابل التنوين في الاسم المفرد، إذاً لقد قبل الاسم علامة الإعراب التي يشترك فيها مع غيره من الأسماء المثناة التي كانت في مفردها غير ممنوعة من الصرف كما هو في جملة "مررت بمحمدين". وما ينطبق على الاسم المؤنث ينطبق على الاسم المذكر، فإبراهيمان ويوسفان، اسمان غير ممنوعين من الصرف وإن كان مفردهما لا يُصرف.
ومثل التثنية في الاعتبار، الجمع جمعا سالما، فقولك: مررت بفاطماتٍ، كقولك، مررت بمعلماتٍ، فقد وحّد جمع المؤنث السالم بين الاسمين، فزال لذلك المنع من الصرف عن فاطمات، فحالة الجمع وإلحاق المفرد بالألف والتاء، جعل كل الأسماء ذات اعتبار واحد مصروفة. وكذلك الحال عند جمع الأسماء الأعجمية العلمية الممنوعة من الصرف جمع مذكر سالما، من مثل: إبراهيمون، ويوسفون، وغيرها.
والتثنية لا تؤثر في الممنوع وحسب، بل إن لها أثرا في الاسم المبني أيضاً، إذ تُعيد التثنية الاسم المبني إلى حظيرة المعرب، كما في "هذان، واللذان، وهاتان، واللتان"، مع الإقرار بوجود الخلاف بين النحاة في هذه المسألة لكنني أنحاز إلى اعتبارهما أسماء مصروفة ومعربة.
وفي مبحث النسب، أي إلحاق ياء النسبة بالاسم الممنوع من الصرف فإنه يصبح مصروفاً، وذلك لأن النسب خلّصه من علله التي كان بسببها ممنوعا من الصرف، فالنسب إلى فاطمة، فاطميّ، وفاطميّ مصروف مطلقاً، إذ حررت ياء النسب الاسم من العلمية الخاصة المؤنثة، وأطلقته إلى الوصف المذكر العام، فحقّ عندئذٍ اعتبار الاسم مصروفاً. ومثله كذلك: إبراهيميّ، ويوسفيٌّ وأشباه ذلك.
ولأجل هذا، أو قريب منه يصرف العلم الممنوع من الصرف إذا فارق العلمية ليدخل في عموم النكرة، فثمة فارق في المعنى عندما يقول أحدهم: إيتيني بفاطمةَ أو إيتيني بفاطمةٍ، ففي الحالة الأولى علم معروف في الذهن محدد، وفي الثانية نكرة، وكأنها ليست علما، وإنما شخص من سماته أن اسمه فاطمة، فالاسم هنا ليس دليل تعريف وإنما دليل توصيف، وبذلك علل بعض المفسرين تنوين "مصر" في قوله تعالى: "اهبطوا مصراً" (البقرة، 61)، فليس المقصود كما قال بعضهم مصر التي تدل على القطر، علما على البلد، وإنما أراد التنكير، أيْ، اهبطوا أيّ بلدٍ ستجدون ما أردتم من الثوم والبصل والقثاء.
ومثل هذا التفريق حاصل في اللغة العربية، ومعترف به في مبحث اسم الفعل، إذ يفرق النحاة بين "صهْ" و"صهٍ"، لتعني الأولى اسم فعل أمر بمعنى "اسكت"، وهذا السكوت عن كلام محدد، أما إذا نُوّنت فإنها تعني التنكير والتعميم؛ أي السكوت مطلقاً عن أيّ كلام.
قد يدخل الاسم المصروف في حالة عارضة، فيتمّ منعه من الصرف بعد أن كان مصروفاً، كما يحدث عند تصغير الاسم الثلاثي المؤنث ساكن الوسط، كما في الاسم العلم "هِنْد"، فهذا الاسم مصروف، مع جواز اعتباره ممنوعا من الصرف، فيخلص من هذا التأرجح ليصبح ممنوعا من الصرف بعد التصغير، فهنيدةُ مصغر هند، اسم علم على المرأة ممنوع من الصرف، قولا واحدا. وسبب هذا المنع من الصرف اختلاف في حالته بسبب التغير الصرفي، فبطُل أن يكون اسما ثلاثيا ساكن الوسط، ليجوز فيه الاعتباران، وكما يمنع المصرف من الصرف فإنه أيضاَ قد يبنى، ومن ذلك أذكر حالة القطع عن الإضافة في قول القرآن الكريم: "لله الأمر من قبل ومن بعدُ" (الروم، 4)، فكلا الظرفين (قبلُ، وبعدُ) ظرفان مبنيان على الضمّ في محل نصب.
وأما آخر الحالات التي تجعل الاسم الممنوع من الصرف مصروفاً، ويحق للكاتب أو المتحدث تنوينه الاسم المنقوص، وهو الاسم المنتهي بياء مدّ لازمة، ويكون هذا الاسم على صيغة منتهى الجموع على وزن "مفاعِل"، من مثل كلمة: "معاني". إن التعامل مع هذه الكلمة وشبيهاتها مصروفة أو ممنوعة من الصرف يحتاج إلى توضيح كيف صار الاسم مصروفاً وهو على وزن مفاعل، صيغة منتهى الجموع، ممنوعا من الصرف.
يعد الاسم المنقوص الذي على وزن مفاعل، ممنوعا من الصرف لعلة واحدة، كونه على صيغة منتهى الجموع، فلحقته علة أخرى، كونه اسما منقوصاً، وبسبب هذه العلة الصرفية الخالصة غير المعنوية يعود إلى "الصرف"، فاجتماع علتين صرفيتين في الاسم المنقوص تجعله لا يحتمل علة نحوية ثالثة، فجاز أن يكون مصروفاً، وهذا الذي أذهب إليه ما هو إلا نوع من "التوهم" المقبول في التعليل النحوي واللغوي. على ذلك يصح أن تقول: "إن معانياً رائقة أتى بها المتنبي"، فتصرف "معانياً"، فيلحقها التنوين، ويصح أن تقول: "إنّ معانيَ رائقةً أتى بها المتنبي"، فتعرب "معانيَ": اسم إن منصوب وعلامة نصبه الفتح، وفي الحالة الأولى، منصوب وعلامة نصبه تنوين الفتح.
وفي حالتي الرفع والجر يجوز أن تصرف معانيَ ويجوز أن تمنعها من الصرف؛ فتقول مثلا في حالة الرفع: "للمتنبي معاني مبتكرة"، أو "للمتنبي معانٍ مبتكرة"، فإثبات الياء دليل على المنع من الصرف، فتعرب: مبتدأ مرفوع وعلامة رفعه الضمة المقدرة على الياء منع من ظهورها الثقل. وفي الحالة الثانية المصروفة بحذف الياء وتعويض التنوين، إذ ليس هو التنوين الإعرابي المقصود، تعرب معانٍ: مبتدأ مرفوع وعلامة رفعه تنوين الضم المقدر على الياء المحذوفة.
وبهذا أخلص إلى أن الاسم الممنوع من الصرف يصرف في حالات أخرى —غير الحالتين المنصوص عليهما في كتب النحو— وهما: الإضافة والتحلي بالألف واللام، وهذه الحالات هي: التثنية، والجمع، والتنكير، والنسب، والاسم المنقوص، والضرورة الشعرية، كما أن الاسم المصروف يمنع من الصرف في حالات أخرى غير اللتين نصت عليهما القواعد النحوية، وهي: الضرورة الشعرية، والتصغير، والمحافظة على الاختلاف بالابتعاد عن توالي المقاطع المتشابهة، ويعود المبني إلى الإعراب، مصروفا أيضا في حالة التثنية، كما قد يعامل المعرب معاملة المبنيّ في حالات أخرى.
◄ فراس حج محمد
▼ موضوعاتي