عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

د. فراس ميهوب - سورية

عندما اشتعل الحريق


فراس ميهوبعندما اشتعل الحريق في غرفة أرشيف الإذاعة الوطنية، وصل فريق الإطفاء بسرعة، نصف ساعة كانت كافية للسيطرة الكاملة، الخسائر مع ذلك كانت فادحة، آلاف من الأفلام النادرة والتحقيقات المهمة صارت رمادا، نسخة أصلية وحيدة من مسلسل قديم اختفت إلى الأبد.

لا أحد يعلم كيف اندلعت النار، أغلب الظن أن سيجارة منسية أضرمت الشرارة الأولى، التدخين ممنوع بتاتا، لكن المخالفة طبع إنساني أصيل، قيل إن مخرجا مشهورا دخل للبحث عن شريط لبرنامجه ونسيها على أحد الرفوف.

نظرية المؤامرة تقول إن مخربا هو من تعمد وضع النار، البحث جار عنه، قد يكون عاملا في المكان، أو تسرب إليه إهمالا، أو بمساعدة موظف ضعيف النفس.
بعد الكارثة، حان وقت إحصاء الأضرار، فتح دفتر كبير، وبرنامج على الحاسوب، ألف وسبع أشرطة، واحد وستون ملفا ورقيا، سبع كراسي خشبية، طاولتان، ثلاثة أقلام زرق واثنان أحمران، قلم أسود واحد.

الجرد استمر، كل شيء تم إحصاءه، والخسائر مهولة ماديا ومعنويا، جزء هام من ثقافة وفن الشعب استحال إلى رماد.

استعاد المذيع المشهور رباطة جأشه، خرج في نشرة الثامنة ونصف مساء:

= لا خسائر بشرية تذكر، الحمد لله، المخرج الكبير شامل العواينة بخير، ولا صحة للأخبار التي تتحدث عن وفاته محترقا، إصبع يده اليمنى الوسطى أصيبت بحرق بسيط.

المذيعة سناء الشاعر لم تصب، هي الأخرى، إلا بحرق طفيف.

المتضرر الثالث، رئيس قسم الأرشيف، اسودَّ رأس أنفه من الدخان فحسب.

في هذه الأثناء، تحاول أم عماد الاتصال بجوال زوجها دون جدوى، الرجل ساع قديم في أرشيف الوزارة، ويقترب بهدوء من سن التقاعد.

بعد يأسها، توجهت إلى مقر الإذاعة، كان الطوق الأمني قد ضرب حول المكان، رجت حارسا أن يسمح لها بالدخول، رق قلبه لها.

في قاعة الاستقبال الكبرى، كان مدير الإذاعة يدلي بتصريحات صحفية تحت أنظار الكاميرات:

= تمكنَّا من إطفاء الحريق،...

تجاهلته المرأة المذعورة، وذهبت إلى مكتب الأرشيف، صادفت نبيل الأشتر زميل زوجها:

= أين إسكندر، لا يرد على اتصالاتي؟

= آه، لم أره منذ الصباح، دقائق قليلة قبل اندلاع الحريق.

أحسّ الرجل بخطورة الموقف، فأبو عماد لا يغادر مطلقا إلا مع نهاية الدوام.

مع أم عماد، دفع الباب المودي إلى الغرفة الكبيرة التي صارت خرابا، الدخان كثيف وخانق.

أضاء بهاتفه المحمول زرا صغيرا، لفَّتْ أم عماد على فمها طرف حجابها الأبيض، سلكٌ رفيعٌ من النور تخلل المكان المظلم، خشب متفحم ملتصق ببقايا بلاستيكية مصهورة، رماد ما كان أوراقا غطى الركام المختلط على بلاط بلا ملامح.

= لا بدَّ أنّه خرج، لم نسمع عن أي ضحية.

استعجل نبيل بالاستنتاج قبل أن يسمع مع أم عماد صوت استنجاد مبحوح.

من الزاوية البعيدة، وتحت عشرات الأشرطة المتكومة، بدا شبح إنسان بلا لون.

أزاحا بالأيدي العارية القطع المشوية، ووصلا إلى ما يشبه جسد إنسان، ومن ناحيته أتى ما يشبه بثا مشوشا:

= كدتُ أفقدُ الأمل.

D 1 حزيران (يونيو) 2022     A فراس ميهوب     C 0 تعليقات