د. فراس ميهوب - سورية
قراءة في كتاب حكايات مع الأدباء: رفاق سبقوا
للكاتب السوري ياسين رفاعية
ياسين رفاعية (1934-2016) كاتب سوري مرموق. له عدة مؤلفات قصصية وروائي. عمل في المكتب الصحفي لرئاسة الجمهورية في عهد الوحدة بين سوريا ومصر، وأمضى شطرا طويلا من حياته في بيروت. يستعرض رفاعية في كتابه "حكايات مع الأدباء، رفاق سبقوا" مواقفَ إنسانية وأدبية غزيرة جمعته مع أدباء عرفهم عن قرب، وجمعته بهم علاقات صداقة واحترام، أولهم الشاعر اللبناني أمين نخلة، ثم القاص السوري فؤاد الشايب، فالشاعر الفلسطيني معين بسيسو، والشاعر اللبناني خليل حاوي، والشاعر المصري صلاح عبد الصبور.
أمين نخلة: الكهلُ وصبيَّة اسمها فريال
كان أمين نخلة محبوبا من قبل الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، وأمر باعتباره ضيفا على الجمهورية العربية المتحدة. تعرَّف ياسين رفاعية بحكم عمله في المكتب الصحفي لقصر الرئاسة، رفقة غادة السمان وإسكندر لوقا، على أمين نخلة، ولكن تردد الأخير عليهم زاد عن الحدِّ، فقد وقع في حبِّ فريال، الفتاة الدمشقية العشرينية الموظفة معهم في المكتب.
كان لا بدَّ من كبح جماح عاطفة الشاعر الستينيِّ الملتهبة العاشق لصبية من عائلة محافظة، وأصغر من أبنائه، دبَّر لها ياسين إجازة لإبعادها عن أنظاره، لكنه فوجئ بوجودها في أمسية أدبية في دمشق كان أمين نخلة ضيف الشرف فيها، فأخذ يتراقص أمام الميكروفون وهو يلقي شعرَه، ومنه:
أنا لا أصدق أنَّ هذا = = الأحمر المشقوق فمُ
بل وردة مبتلة = =حمراء من لحم ودم
وقصائد أخرى، منها قصيدة بعنوان "الكحل":
آمنتُ بالتوفيق والضبط = = يا واضع الخط على الخطّ
كحلك، أم سواد الدجى = = تحت التماع الغيث والنقط؟
انتبهَ أمين نخلة بعد ذلك إلى اختفاء الفتاة، فصرَّح له ياسين بأنه صرفها في إجازة حرصا على سمعته، واسمه الشعري، فاقتنع مكرها، وآثر السفر إلى الخليج لزيارة قطر ودبي، وأرسلُ له من هناك رسالة يبثه فيها لواعج شوقه إلى فريال، وروى له قصة طريفة حدثت له عند زيارته لمدرسة، وكانت المصادفة أنَّ التقى فيها مدرِّسا هنديا اسمه فريال.
بعد سنوات، غادر ياسين رفاعية دمشق نهائيا للعيش في بيروت، وعرف بإصابة صديقه أمين نخلة بنزيف في الدماغ، ورغم اضطراب ذاكرته بعد الحادث لكنه حين رآه سأله عن فريال.
كان أمين نخلة يقول عن حبيبته فريال: مررتُ بخبَّاز الضيعة، فوجدتُ ألف رغيف يدخل، وألف رغيف يخرج، أما والله ما وجدتُ رغيفا محترقا كقلبي، ولا رغيفا متوردا كوجنتيك.
* * *
فؤاد الشايب ورواية دون نهاية
ربما لا يعرف الكثيرون اليوم فؤاد الشايب، ولكن مجلة النقاد أجرت استفتاء عام 1954م عن أبرز كتَّاب سوريا فتمَّ اختيار كلَّا من فؤاد الشايب، وعبد السلام العجيلي، وشاكر مصطفى.
كانت قصته "ابن الأرملة" قد فازت في مسابقة القصة القصيرة التي نظمها مجلة "الدهور" عام 1935م، وهي تروي قصة معلِّم اسمه إبراهيم نزح من دمشق إلى إحدى القرى المحيطة بها، وأسس مدرسة فيها حوالي أربعين تلميذا، عاملهم بقسوة، ومع ذلك لم يحتج أحد من الآباء، بل أغدقوا على الأستاذ الأعطيات إلَّا أرملة فقيرة، عامل الأستاذ ابنها بقسوة، وضربه بعنف، لكن الصغير لم يبكِ، وطفح به الكيلُ من ظلم المعلِّم، فدبَّر له مع رفاقه خطة عاقبه فيها وأذلَّه، انتهت الحكاية باختفاء حسين، ابن الأرملة، وجنون والدته.
عرفَ ياسين رفاعية فؤاد الشايب عندما عملا معا في مجلة "المعرفة" منذ تأسيسها عام 1962م حتى تسريح ياسين رفاعية من عمله.
يعتبرُ فؤاد الشايب من رواد القصة القصيرة في سوريا رغم قلة إنتاجه، انشغلَ بالوظيفة العامة، وتسلَّم مناصب عدة منها الأمانة العامة لوزارة الإعلام.
من مواقفه المقدَّرة رفضه إذاعة البيان الأول لانقلاب حسني الزعيم من الإذاعة، ودفع ثمنا لذلك، وأودع السجن.
كان مقرَّبا من الرئيس الراحل شكري القوتلي، وعمل مع الرئيس جمال عبد الناصر.
مشكلة فؤاد الشايب هي استنزافه في الوظيفة، وعدم تركيزه على الكتابة حتى أنَّ روايته "أوراق موظف" لم ترَ النور رغم أنه ظلَّ يكتب فيها عشرين عاما.
تولى فؤاد الشايب منصب مدير مكتب الجامعة العربية في عاصمة الأرجنتين، بوينس آيرس، وانتهت حياته هناك بشكل دراماتيكي عندما هاجمت جماعات صهيونية هناك بيته وأحرقوه فضاعت فيما ضاع مسودة روايته، ومات بعد أيام متأثرا بأزمة قلبية حادة.
كان فؤاد الشايب قد ألقى محاضرة تحدَّث فيها عن الصهيونية كحركة عنصرية، وعدد مؤامراتها على الأمِّة العربية، وبقية شعوب العالم، فتعرّض لهجوم الحركة الصهيونية هناك، وتوقف قلبه عن 59 عاما.
تعتبرُ مجموعته القصصية "تاريخ جرح" من أوائل الأعمال الأدبية المؤسسة لفن القصة في سوريا، لكن عمله في القصر الجمهوري، وتوليه كتابة الخطب للرؤساء، والمناصب اللاحقة شغله عن الإبداع، وظلَّ حلم العودة إلى الكتابة الأدبية يراوده حتى آخر أيامه.
من أجمل ما قيل في رثائه قصيدة ألقاها صديقه الشاعر المهجري زكي قنصل فوق نعشه، ومطلعها:
لا تعجبنَّ لدمعتي وناري = = ذهب الردى بالفارس الكرّار
عصفتْ به الأقدار في ريعانه = = يا للخزام يموت في نوّار
وينهيها بأبيات منها:
يا من أضاع العمر يخدم شعبه = = ويقي خطاه مزالق الأخطار
تبكي العروبة فيك صرحا شامخا = = هو قبلة الأسماع والأبصار
***
معين بسيسو: شاعر المقاومة
موتي مناسبة للرصاص
مناسبة لسعاة البريد
مناسبة لهواة التقاط الصور
فوق رأسي قمر
تحت رأسي حجر
يرى ياسين رفاعية في معين بسيسو شاعرا مميزا مختلفا عن شعراء جيله، كان في حياته عفويا وصادقا، كريما، ومن عرفه عن قرب أحس "بطفولته النادرة، طفولة في كل شيء، في معاملته مع الآخرين، وفي مزاحه، وفي جده وهزله" (ص 153).
نشأ معين بسيسو في غزة، وعاش مشردا بين عدة عواصم عربية، من غزة إلى بغداد، ومن غزة إلى القاهرة، وفيها سجن مع الشيوعيين الآخرين. أثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م، تحولت أناشيده إلى أغاني حماسية تلهب حماس الرجال:
أنا إن سقطتُ فخذ مكاني يا رفيقي
في الكفاح
واحمل سلاحي لا يخفك دمي يسيل
من السلاح.
تساءل الرئيس عبد الناصر عن هذا الشاعر، فقالوا له إنه نزيل زنزانة في السجن الحربي لأنه كان شيوعيا، فأمر بالإفراج عنه فورا.
استقرَّ المقام بمعين بسيسو في دمشق، وعمل في جريدة "الثورة" السورية. عاد إلى القاهرة بعد هزيمة 1967م، وسكن بيروت طوال فترة الحرب الأهلية، وكان المدني الوحيد الذي صعد إلى الباخرة من مرفأ بيروت مع المقاتلين الفلسطينيين، فحطَّ في تونس ثم عاد إلى القاهرة.
من أشعاره قصيدة المسافر:
أسافرُ أو لا أسافرُ
تفرجتُ حتى بصقتُ جميع المناظر
من شرفات المقابر
مشيتُ بكل الجنازات
كانت على قدمي الجرائد
تباعُ، وتشرب أغلى الخمور
وما كان لي ماء غير القصائد
آخر لقاء بين الأديبين معين بسيسو وياسين رفاعية كان في لندن بعد انتقال ياسين للعمل في لندن، في مهرجان شعري جمعه مع محمود درويش وسميح القاسم. وفيه أنشدَ معين بسيسو قصيدته الأخيرة.
كان من المفروض أن يلتقي معين بسيسو وياسين رفاعية من جديد أواخر عام 1984، ولكن قبل اللقاء بليلة واحدة فُجِع ياسين بخبر موت معين بسيسو، إذ وُجِدَ جثة هامدة في أحد فنادق لندن، مع أنه كان قبل ليلة واحدة في ذروة نشاطه (ص 140).
نقلت جثته من لندن إلى القاهرة حيث شيع ودفن هناك، بعد أن رفضت إسرائيل السماح بدفن جثته في بلدته غزة.
يختم ياسين رفاعية عن ظروف وفاة معين بسيسو بقوله: "وما زلت إلى الآن غير مصدق، وتخيلت أنه لو أجري تحقيق في أسباب الوفاة لاكتشفوا أنه مات وقد دست له المخابرات الإسرائيلية سما في طعامه" (ص 141).
* * *
خليل حاوي: الصيَّاد والضحية
تعرَّف عليه ياسين رفاعية على خليل حاوي في عام 1958م في مقهى الهافانا في دمشق مع خليل الخوري، وزكي الأرسوزي ومطاع صفدي.
فرحَ خليل حاوي بالوحدة بين سوريا ومصر، لكن الخيبات توالت بعدها، وأقساها هزيمة حزيران 1967م، واستقالة عبد الناصر بعدها، فقد قيل إنّ خليل حاوي حاول الانتحار وقتها، ولكنه أنقذ في اللحظة الأخيرة.
عاش خليل حاوي في عالم خاص من معاناة عامة من التشرذم العربي، وسوء أحوال الأمة العربية، وكآبة سوداوية ورغبة بالموت.
لم يجد الاستقرار في حياته العاطفية، وقصته مع ديزي الأمير، الكاتبة العراقية التي عرفها أثناء دراسته في كامبردج، وجمعتهما علاقة خطوبة لم تكلل بالزواج، وأنكرت ديزي الأمير بعد ذلك علاقتها به، ورغم أنها نشرت بعد ذلك رسائله إليها لكنها حذفت اسمها منها فتعرضت للنقد الشديد وقتها.
كان لخليل علاقة خطوبة أخرى مع عبلة أبي عبد الله، وهي فتاة من قريته، وفشلت علاقتهما أيضا بسبب عجزه عن تأثيث منزل والقيام على عائلة لأسباب مادية ونفسية أيضا.
جمع خليل حاوي علاقة صداقة روحية وأدبية بعفاف بيضون، لكنها آثرت الابتعاد عنه عندما تطورت علاقته بديزي الأمير.
حين لاحت نذر الاجتياح الإسرائيلي للبنان، قال خليل لصديقه الناقد السوري محي الدين صبحي إنَّ العرب لن يتحملوا هزيمة أخرى، وهو شخصيا لن يتحمل ذلك.
في السادس من شهر حزيران عام 1982م، كان خليل حاوي يسير وحيدا في الشوارع، التقى صدفة بصديقه وقريبه الشاعر شفيق عطايا، وبدا على خليل اليأس الشديد، فدعاه شفيق إلى منزله، أخذ خليل ينشد قصيدته "في الجنوب":
جولي سبايا الأرض
في أرضي
وصولي واطحني شعبي
جولي وصولي
واطحني صلبي
لن يكتوي قلبي
لن يكتوي قلبي ولن يدمى
تنحلُّ حمَّى النار
في غيبوبة الحمّى
لن يكتوي قلبي ولن يدمى
قلبي الأصم الأبكم الأعمى.
وجد خليل نفسه وحيدا في شقته ليلة السادس من حزيران 1982م، تناول بندقية صيد من نوع سانت اتيان عيار 12 كاليبر، رقمها 18645، وبطلقة واحدة أنهى حياته.
* * *
صلاح عبد الصبور والخطأ القاتل
مثَّل صلاح عبد الصبور حالة من الحزن سماها الناقد الدكتور ناجي نجيب "الصوفية دون تصوف"، ويعترف صلاح نفسه بذلك فيقول في كتابه "حياتي في الشعر": "الحزن ليس حالة عارضة، ولكنه مزاج".
تعرَّف ياسين رفاعية على صلاح عبد الصبور عام 1960م، وعمل ياسين مراسلا لمجلة "الكاتب" التي ترأس تحريرها آنذاك صلاح عبد الصبور.
حدثت وفاة صلاح عبد الصبور فجر يوم 13 آب 1981م. وفي الليلة السابقة لموته جمعته سهرة مع رفاق له منهم الشاعر عبد المعطي حجازي، وأمل دنقل، وجابر عصفور. تعرَّض للاتهام وخصوصا من الرَّسام بهجت عثمان بأنَّه ساير أنور السادات الذي زار القدس، ووقَّع اتفاقيات كامب ديفيد مع "إسرائيل" لكي يحفظ وظيفته، وينعم بمجدها، فقد عُيِّن مساعدا لوزير الثقافة.
قالت زوجته عن هذه الجلسة إنها تحوَّلت إلى ما يشبه المحاكمة المدبَّرة أو المرتجلة التي لم يتحملها الشاعر، بل لم يتحملها قلبه فانهار.
السبب المباشر للُّوم الذي تعرض عبد الصبور هو اشتراك "إسرائيل" في معرض الكتاب الدولي في القاهرة، رغم أنَّ أنه رفض وجود العلم "الإسرائيلي" في المعرض. والحقيقة أنَّ المسؤول عن مشاركة دور نشر محدودة من خلال ناشرين في الغرب هو الرئيس السادات شخصيا، ولكن خطأ صلاح عبد الصبور هو عدم الاستقالة.
من أشعاره قصيدة الحزن:
طلع الصباح فما ابتسمتُ ولم ينر وجهي الصباح
وخرجتُ من جوف المدينة اطلبُ الرزق المتاح
وغمستُ في ماء القناعة خبز أيامي الكفاف
ورجعتُ بعد الظهر في جيبي قروش.
تأرجحَ صلاح عبد الصبور في انشغاله بالحالة الوجودية من التديِّن الشديد إلى الاقتراب من الفلسفة المادية، ولكن بعض الأحداث السياسية في أوروبا الشرقية عام 1956م وبعض القرارات الأخرى، وحملة خروتشوف على الستالينية مع ما صاحبها من كشف فظائعه أسهم في زلزلة كثير من معتقداته في ذلك الوقت.
= = =
الكتاب: "حكايات مع الأدباء، رفاق سبقوا". المؤلف: ياسين رفاعية. الناشر: رياض الريس للكتب والنشر-لندن. تاريخ النشر: 1989م. عدد الصفحات: 308.
◄ فراس ميهوب
▼ موضوعاتي