هشام البستاني - الأردن
أزمة النفوذ المزمنة، والتقويض الفعّال، في المنطقة العربيّة: بحثٌ نظريّ لممارسة سياسيّة ممكنة
الموضوع أدناه الجزء الأول من ورقة قدمها الكاتب في مؤتمر أقيم في جامعة لندن للاقتصاد (LSE) تحت عنوان "جرامشي في الشرق الأوسط" يومي الاثنين والثلاثاء، 10-11 أيار (مايو) 2022. جرامشي هو المفكر الإيطالي، أنطونيو جرامشي، الذي ناهض الفاشية في إيطاليا بزعامة موسيليني، وقد سجن وتوفي في السجن، حيث كتب مساهماتهم الفكرية. ستنشر "عود الند" الجزء الثاني والأخير من الورقة في العدد القادم (26: خريف 2022). للمزيد من المعلومات عن المؤتمر انظر/ي الرابط في ختام الجزء الأول من الورقة.
في مقدّمته لمقالة "الأمير الحديث" الواردة ضمن أوّل ترجمة موسّعة لمختاراتٍ من أعمال أنطونيو جرامشي إلى الإنجليزيّة، يقول المترجم لويس ماركس إنّ جرامشي استخدم في الدّفاتر التي كتبها طوال فترة سجنه التي امتدّت لأكثر من عشر سنوات، وأدّت إلى قتله البطيء، مُصطلح: "فلسفة التّفعيل"( Philosophy of Praxis)، ليشير بشكل مُبطّن إلى الماركسيّة، فلا يفهمها الرّقباء والسجّانون، وآثر المترجم، من ثمّ، أن يُعيد المصطلح إلى أصله داخل النصّ الإنجليزيّ(1).
لم يتّفق كوينتِن هور وجيفري نويل سمِث مع هذا الرّأي في تقديمهما لترجمةٍ لاحقةٍ لمختاراتٍ أوسع من أعمال جرامشي، فهما يقولان: "[مصطلح] ’فلسفة التّفعيل‘ يمثّل شيئين معًا: توريةً عن الماركسيّة؛ ومفهومًا مستقلًّا استخدمه جرامشي ليُعرّف ما رآه الخاصيّة المركزيّة في فلسفة الماركسية: الرّابط الذي تؤسسه بشكلٍ لا يمكن فصله بين النّظريّة والممارسة، بين الفِكر والفِعل"(2).
هذا الفهم الثّاني هو الأقرب إلى ما يمثّله جرامشي كمُفكّرٍ مُمارسٍ ثوريّ، عبّر عمليًّا، وطوال مسيرة حياته القصيرة (توفي وهو في السّادسة والأربعين من العمر(3))، عن إخلاصه لمفهوم الفِعْل كعنصرٍ أساسيٍّ في ثنائيّة لا تنفصم عراها: نظريّة-مُمارسة، معتبرًا إيّاهما شيئًا واحدًا، دون أن يَغفل عن انتقاد مَن ينتقص مِن أهميّة الإطار النّظريّ في سياق المُمارسة، ودون أن يتجاهل دور المُمارسة باعتبارها الإطار التّجريبيّ الاختباريّ للأفكار من جهة، والمختبر الذي تتولّد فيه الأفكار وتتطوّر وتأخذ أهميّة تاريخيّة من جهةٍ أخرى، فالمُمارسة تُغيّر العالم، وتُغيّر المُمارسين أنفسهم، وبالتّالي فإنّ المعرفة هي عمليّة تحوّلٍ مُستمرٍّ مرتبطةٍ بالّتاريخ، عمليّةٌ تاريخيّةٌ لا مكان فيها للتّوقّف والانسحاب إلى الخلف للتّأمّل البطيء، فالموضوع المدروس يتحرّك في اللّحظة التّالية ويصبح —بمعنىً ما— شيئًا مختلفًا.
يكتب جرامشي: "يمكن للمرء أن يتنبّأ بالصرّاع فقط، لا بفصوله الفعليّة، فهذه الأخيرة ستكون مُحصّلةً لقوىً متعارضةٍ في حركةٍ دائمة، يستحيل اختزالها إلى كميّات محدّدة، ففي الحركة يتحوّل الكمّ دائمًا إلى نوع"(4). كان هذا نقده لعلم الاجتماع الذي تستند تنبّؤاته فقط إلى المعلومات والقياسات التي تمثّل لحظةً في التّاريخ، وليس التّاريخ نفسه في تحوّلاته التي لا تتوقّف، هذه التّحوّلات التي لا تُدرَك حقًّا إلا بالممارسة، بالفِعْل؛ يستطرد جرامشي: "يمكن للمرء التّنبُّؤ، بمقدار ما يفعل، وبمقدار ما يقوم به من جهدٍ طوعيٍّ يساهم من خلاله، بشكلٍ جذريّ، بخلق النّتيجة المُتنبّأ بها. يكشف التنبّؤ عن نفسه إذًا لا كممارسةٍ علميّةٍ في إطار المعرفة، بل من خلال التّعبير المجرّد للجهد الذي يقدّمه المرء؛ من خلال الطّريقة العمليّة لخلق إرادةٍ جماعيّة"(5) تقوم بدورها، وفي الواقع، بتغيير النّتيجة المُتنبّأ بها؛ أي: تغيير التّاريخ.
في هذه الملاحظة، يبدو جرامشي، حاله حال مجموعة من المُفكّرين المُمارسين الثّوريّين الآخرين، مثل روزا لوكسمبورج وفرانز فانون، راهنًا، وتبدو ملاحظاته التي سنتناول بعضها أدناه بالإشارة والتّعليق والنّقد، مفيدةً جدًّا في سياق التّحوّلات التي تمرّ بها منطقتنا العربيّة، بشعوبها المسحوقة، وانتفاضاتها المُتتالية، التي تتجسّد فيها "أزمة النّفوذ" التي سنأتي عليها لاحقًا، وشخّصها جرامشي بدقّة: "القديم يحتضر، والجديد لا يمكن له أن يولد؛ في فترة الخلوّ هذه، تظهر أشكال هائلة من الأعراض المرضيّة الفظيعة"(6). استنادًا إلى هذا التشخيص، سأقدّم أيضًا نقاشًا يستشرف المستقبل، ويطرح بدائل ممكنة للتفعيل، والتنظيم، والتحشيد، والهويّة، تهدف إلى تجاوز العناصر التي تعيق التغيير من خلال تقويضها عبر بناء المساحات السياسيّة المحرّرة، خارج تلك التي تسيطر عليها الدّولة/السّلطة، لتشتبك مع هذه الأخيرة من موقعها المستقلّ.
هيمنة السّلطة من خلال مُجتمعين: المجتمع السّياسيّ والمجتمع المدنيّ
تأسيس منظور واضح لمفهوم "الدّولة" هي نقطة بداية مفيدة لفهم الكيفيّة التي وصلنا بها إلى أزمة النفوذ المزمنة في المنطقة العربيّة، والكيفية تستمرّ بها هذه الأزمة. لتحقيق ذلك، سأناقش، وأدمج، فيما يلي من فقرات، معالجة ماكس فيبر وجرامشي لموضوع الدولة.
الدّولة عند جرامشي هي إطار هيمنة، تفرض السّلطة فيه سيادتها من خلال "مُجتمعين": المجتمع السّياسيّ، وتتمثّل فيه القوّة الإكراهيّة العُنفيّة المباشرة مثل الجيش، والشّرطة، والقانون، والقضاء، والنّظام التّعليميّ الرّسمي؛ والمجتمع المدنيّ (وهو غير المصطلح المعروف اليوم الذي يشير حصرًا إلى عالم "المنظّمات غير الحكوميّة") ويشمل الأحزاب، والنّقابات، والصّحافة، والجمعيّات، والمؤسسات الدينيّة، ومجمل الأنشطة "الخاصّة" (private) النّاشئة عن المبادرات الذّاتيّة أو شبه الذّاتيّة، والمستقلّة نسبيًّا عن السّلطة، ويتمثّل فيها شكلٌ أعمق تأثيرًا وأكثر ديمومةً حين يتعلّق الأمر بإخضاع المجتمعات وإبقائها في حالة من "الاستقرار"، يأخذ حالة الاقتناع بالسّلطة وبفائدتها، ويعمل على نسج روابط ضمنيّةٍ وعميقة، تتحوّل من خلالها السّلطة إلى مصلحةٍ وضرورةٍ لبقاء المجتمع الذي تتسلّط عليه.
هناك العديد من الأمثلّة الدالّة على تلك الروابط الإخضاعيّة، لكنّي سأقدّم مثالًا تطبيقيًّا محدّدًا، هو الاشتراط القانونيّ على أي مجموعةٍ اجتماعيّةٍ تريد أن تشارك أو تُساهم في العمل السّياسيّ الطّلب من الدّولة، أو إشعارها، للسّماح لها بممارسة أنشطتها، ووضع نفسها تحت إشراف الدولة ورقابتها، والتّقيّد بتعليماتها المدوّنة في الدّستور والقانون، واشتقاق شرعيّة وجودها منها؛ ومن خلال مِنَح تمويل الدّولة للأحزاب المشروعة، ومشاركتها في الانتخابات البرلمانيّة (لأنّها مشروعة، إذ يحظر القانون مشاركة الأحزاب غير المرخّصة/غير المشروعة)، ونجاحها في الحصول على مقاعد، تتحوّل الأحزاب إلى عناصر في الدّولة، ويصير بقاؤها ونفوذها وإمكانيّات توسّعها معتمدةً على الدّولة، فيصير الحزب مُدافعًا عن بقاء الدّولة/السّلطة بعد أن وقع فعليًّا، وبآليّاتٍ ضمنيّة، تحت هيمنتها، وكذلك الأمر في كلّ قطاعات المجتمع المدنيّ، إذ تتحوّل هذه الأخيرة إلى أدواتٍ لتعميق هيمنة السّلطة، وإلى تحصيناتٍ قويّة لها، ويمكننا هكذا أن نفهم ملاحظة جرامشي التّالية: "بعض الأحزاب السّياسيّة تؤدّي وظيفة شُرَطيَّة"(7)؛ وأن نفهم ملاحظاته حول النّسق الذي تعمل بواسطته النّقابات العمّاليّة داخل إطار الرّأسماليّة، إذ "تُنظّم العمّال لا باعتبارهم مُنتجين، بل باعتبارهم مأجورين، أي بكونهم نتاج التّنظيم الرّأسماليّ للملكيّة الخاصة، وباعةً لعملهم الخاصّ"(8)، واضعةً إيّاهم داخل إطار الهيمنة الرّأسماليّة، لا خارجه، مثلما تضع الأحزاب نفسها داخل إطار هيمنة الدّولة-السُّلطة، لا خارجه.
بهذا الأمر تحديدًا: اتّساع الهيمنة من خلال المجتمع المدنيّ، يُفسّر جرامشي فشل الثّورات في أوروبّا الغربيّة بداية القرن العشرين، رغم أنّها مهد الصّناعة والرّأسماليّة والطّبقة العاملة الصّناعيّة، ونجاحها في روسيا (المتأخّرة عن ركب التّحوّلات الرّأسماليّة)، "ففي روسيا، كانت الدّولة [المجتمع السّياسيّ] هي كلّ شيء، وكان المجتمع المدنيّ بدائيًّا وهُلاميًّا. في الغرب، كانت هناك علاقات تامّة بين الدّولة والمجتمع المدنيّ، وعندما اهتزّت الدّولة، فإن أساسًا متينًا من المجتمع المدنيّ ظهر في الحال. كانت الدّولة مجرّد خندقٍ أماميّ، يتموضع خلفه نظامٌ قويٌّ من الحصون والمتاريس"(9).
واضحٌ من تعليق جرامشي أنّ الهيمنة النّاتجة عن نشاط المجتمع المدني، وارتباطه الضّمنيّ والعميق بالسّلطة، أهمّ بكثيرٍ من القوّة الإكراهيّة التي لا يمكن لها أن تحمي الجبهة الدّاخليّة، بل العكس: تخلق التّوتّرات والاستقطابات، في حين تعمل الهيمنة النّاتجة عن نشاط المجتمع المدنيّ على خلق استتبابٍ ذاتيّ للأمر، وتمسّكٍ بالدّولة، ينبع ظاهريًّا وبديهيًّا من داخل المجتمع، لصالح السُّلطة.
تنشأ "أزمة النفوذ" عند جرامشي (والتي يسميّها أحيانًا: "أزمة الهيمنة") عندما لا يعود الجمهور مقتنعًا بأهميّة وشرعيّة سلطة الدولة، ليظهر شرخ "أيديولوجيّ" بين الاثنين فاتحًا إمكانيّات التغيير.
بالنسبة لماكس فيبر، تتعرّف الدولة من باب احتكارها لممارسة العنف أو القوّة الإكراهية، ضمن حدود نطاق سياسيّ معيّن، وقدرتها على ادّعاء، وتحقيق، شرعيّة قانونيّة لذلك الاحتكار وتلك الممارسة.
رغم أن مفاهيم جرامشي وفيبر المتعلّقة بالدولة مفيدة، إلا أنها تقصّر عن عالمنا المعاصر، ورأسماليّته المعولمة، إذ تتحرّك فيه القوى الدوليّة، وتفعل، وتتحدّد فيه علاقات القوّة، على المستوى العالميّ لا المحليّ فقط. من ذلك المنظور، يمكننا ملاحظة أن بعض الدول تمارس العنف، سواءً سياسيًّا أو اقتصاديًّا أو عسكريًّا، على "دول" أخرى، الأمر الذي يقوّض من سيادة واستقلال هذه الأخيرة بدرجاتٍ متفاوتة. عند توسيع المفهوم الفيبريّ حول احتكار ممارسة العنف ليشمل المستوى الدولي، سنجد أن الدول ليست متساوية بهذا المعنى.
من جانب آخر، يمثّل تحقيق الهيمنة ركنًا مهمًّا من أركان الدولة، والهيمنة تستلزم وجود وفعاليّة المجتمعين، السياسيّ والمدنيّ. كما ورد معنا، يعتبر جرامشي أن المجتمع المدنيّ المكتمل النمو يساهم بشكل أكبر في هيمنة الدولة وتماسكها، وبشكل أكبر من الدور الذي يلعبه المجتمع السياسيّ في السياق نفسه. ولكن في بعض "الدول"، خصوصًا تلك التي خلّفها الاستعمار جنوب العالم، يعاني المجتمع المدنيّ من ضعف شديد أو أنه —عمليًّا— غير موجود، إذ أنه يُهاجم بشكل مستمرّ من قبل المجموعات الحاكمة لأنها ترى فيه منبعًا لمن قد يهدّد احتكارها للسّلطة. في مثل هذه "الدّول"، سنجد وجودًا قويًّا وشبه حصريّ للمجتمع السياسيّ، القوّة الإكراهيّة، فيما تغيب القوّة الإقناعيّة، أو هي ضعيفة تمامًا، فتسيطر الأولى بالعنف، ولا تتحقّق الهيمنة التي تكتمل بالإقناع.
مفهوم "الكيانات الوظيفيّة": مقدّمة مكثّفة
في كتابي الكيانات الوظيفيّة: حدود الممارسة السياسيّة في المنطقة العربيّة ما بعد الاستعمار(10)، يتم التفريق بين الدولة الفيبريّة المُهيمنة، وبين ما أسميّه: الكيان الوظيفيّ، واللذان يشكّلان طرفي مروحة واسعة من الحالات البينيّة التي هي الكيانات السياسيّة في عالمنا المعاصر. تقول أطروحتي الرئيسيّة إنه في عالمٍ مُعَولم، لا يمكن فهم الهيمنة أو احتكار ممارسة العنف وشرعيته من خلال منظور محليّ. يوضّح الكتاب كيف أنّ بمقدور الدولة الفيبريّة المهيمنة في عالمنا المعاصر، وإلى حدّ كبير، ردع التدخّل السياسيّ-الاقتصاديّ في شؤونها، و/أو التدخّل في شؤون كيانات سياسيّة أخرى، بينما لا يقدر الكيان الوظيفيّ على مثل هذه الأمور التي غالبًا ما تُمارس عليه.
في ذات السياق، وبسببٍ من مجتمعها المدنيّ القويّ، تتمكن الدولة الفيبريّة المهيمنة من تحقيق الهيمنة داخليًّا، ومدّ هيمنتها خارجيًّا بواسطة برامج المساعدات والهيئات المانحة وأذرع سياسيّة شبيهة أخرى. على العكس من ذلك، ولكون مجتمعاتها المدنيّة ضعيفة جدًّا، أو غير موجودة عمليًّا، فإن الكيانات الوظيفيّة هشّة بالمعنيين المحليّ والعالميّ، خصوصًا فيما يتعلّق بالوظائف أو الأدوار التي تقوم بها، والمرتبطة بتوازنات القوى الدوليّة والإقليميّة. الكيان الوظيفيّ هو هيكل سياسيّ تستخدمه مجموعته الحاكمة لتعزيز بقائها، وإضعاف، واحتواء، وتفكيك المجتمع المدنيّ باستخدام وسائل مثل التشظية الاجتماعيّة والهويّاتيّة، من أجل منع صعود أية منافسين محتملين. النتيجة هي حالة مزمنة من الأزمة، وضعف الجبهة الداخليّة، وإمكانيّة التدخّل الخارجيّ، والتكيّف المستمرّ مع الوظائف والأدوار المطلوبة إقليميًّا ودوليًّا، وكلّها تساهم بتكريس دائرة التبعيّة والوظيفيّة وتعميقها.
تعتمد استمراريّة الكيانيّة الوظيفيّة على الإبقاء على حالة من التوازن المتوتّر بين وظائف خارجيّة وأخرى داخليّة كثيرًا ما تكون متناقضة. تمثّل المجموعة الحاكمة في الأردن مثالًا على ذلك، إذ يعتمد بقاؤها على توازن دقيق بين وظيفة خارجيّة تتعلّق بكونها جزءًا من المحور الأميركيّ-الإسرائيليّ وبسعيها للبرلة اقتصاد البلاد (ضارّ لها داخليًّا) ووظيفة داخليّة تتعلّق بتعميقها للزبائنيّة لضمان شكل من أشكال الدعم والشرعيّة الداخليّين لها (تتعارض مع وظيفتها الخارجيّة).
ثمّة أمور أخرى إضافيّة بالطبع، تضاف إلى هذا المخطّط العام، تفرّق بين الدول الفيبرية المهيمنة والكيانات الوظيفيّة، وهذه تتضمّن: الدور المحوريّ للقوى الاستعماريّة (الخارجيّة) في إنشاء الكيانات الوظيفيّة وهويّاتها، على النقيض من مجموعة العوامل الداخليّة (الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة) التي أدّت إلى نشوء الدول الفيبرية المهيمنة؛ وجود مؤسسات الحكم وسيادة القانون في هذه الأخيرة بينما لا نجد في الأولى إلا هياكل خاوية ديكوريّة الطابع بدلًا من "المؤسسات"، بينما لا تحظى القوانين والدساتير بمكانة عليا.
ثمّة فاعليّة محليّة مفقودة إلى حدٍّ كبير في نشوء الحدود السّياسيّة للكيانات الوظيفيّة ومجموعاتها الحاكمة، مقابل فاعليّة داخليّة كبيرة تتجادل مع الفواعل الخارجيّة في حالة نشوء الدّول الفيبرية المهيمنة، تجعل هذه الأخيرة مرتبطةً بفواعلها الدّاخليّة بشكل أكبر، فتعمل على تنضيد الفواعل الخارجيّة بما يتّسق ومصالح فواعلها الداخليّة، بينما ترتبط الكيانات الوظيفيّة بمجموعاتها الحاكمة، المرتبطة بدورها بالفواعل الخارجيّة بشكل أكبر، فتُدار الفواعل الداخليّة بما يؤمّن تنضيدها مع مصالح الفواعل الخارجيّة.
ليس من أغراض هذا التّفريق المفاهيميّ بين الدّولة الفيبرية المهيمنة والكيان الوظيفيّ، أن يُعلي من شأن الأولى، أو أن يُقلّل من شأن فاعليّة المجموعات الحاكمة في الثّانية؛ فالدّولة الفيبرية المهينة (مثلها مثل الكيان الوظيفيّ) هي إطار للفرض والإكراه، ولإدارة التّمييز، وشرعنة اللّامساواة، وإنتاج الهويّات والتّعارضات، والمجموعات الحاكمة في الكيان الوظيفيّ فاعلة: تتحرّك وتناور وتلعب على التّناقضات، لكن التّمايز يبقى في أنّ المجموعات الحاكمة وكياناتها الوظيفيّة، تشتقّ شرعيّتها الأوّليّة والمركزيّة من العُنف المُمارس عليها، وموقعها من ذلك العنف (البقاء)، لا العنف الذي تُمارسه هي، وموقعها فيه (الهيمنة). كما ليس الغرض من صياغة مفهوم الكيان الوظيفيّ أن أضع فصلًا تعسفيًّا بينه ومفهوم الدّولة الفيبرية المهيمنة، بالعكس، فالمفهومان يقعان على طرفيّ مروحةٍ واسعةٍ من التّباينات قد تتحرّك عليها الكيانات السّياسيّة من طرفٍ إلى آخر، مرورًا بمراحل مختلفة، تجعل من المحور الواصل بين المفهومين طيفًا واسعًا من الحالات البينيّة، مثلًا: يمكن النّظر إلى حالة اليونان بعد انهيارها الاقتصاديّ عام 2015، باعتبارها كيانًا سياسيًّا يتحرّك باتّجاه وضعيّة الكيان الوظيفيّ، إن أخذنا بعين الاعتبار حجم العنف الاقتصاديّ الذي يمارسه عليه الاتحاد الأوروبيّ، وتحديدًا: ألمانيا، بما يجعل من اليونان مساحةً لنفوذ فواعل سياسيّة واقتصاديّة تقع خارجها، وتُدير البلد لصالح هذا الخارج؛ كما يمكن النّظر (بالاتّجاه المعاكس) إلى مصر (في عهد محمد علي)، والسّعوديّة (في عهد المملكتين الأولى والثانية) واليمن الشّمالي (في عهد الإمامة) باعتبارها كيانات سياسيّة كانت تتحرّك باتجاه الدّولة الفيبرية المهيمنة، لولا أن أعاقت هذه الحركة عوامل عدّة ليس هذا مجال بحثها بالتّفصيل، فتقهقرت جميعها إلى وضعيّة الكيان الوظيفيّ؛ كما يمكن النّظر إلى "إسرائيل" باعتبارها كيانًا وظيفيًّا تحرّك بنجاحٍ —إلى حدّ كبير— نحو وضعيّة الدّولة الفيبرية المهيمنة.
ملاحظات جرامشي مُطبّقةً على أحوال المنطقة العربيّة في القرن الحادي والعشرين
على صعيدنا العربيّ المعاصر، تقودنا هذه القراءات الجرامشيّة إلى ملاحظات عدّة:
الأولى: أنّ السّلطة في الكيانات الوظيفيّة التي نشأت في المنطقة العربيّة بعد فترة الاستعمار، وبتدميرها المُمَنهج لنشوء و/أو تطوّر أيّة قوىً مجتمعيّةٍ مُسيّسة (كالأحزاب، والنّقابات، وأطر العمل الأهليّة والشّعبيّة)، وتحجيمها وإلحاقها لما هو قائمٌ منها (الصّحافة، الجوامع، وكلّ العناصر الأخرى للوجود "الخاصّ"، الـ (private)، لم تترك لنفسها إلا خيار القوّة الإكراهيّة في التّعامل مع النّاس، وجرّدت نفسها من إمكانيّات الهيمنة (الأعمق) بالمعنى الجرامشيّ، ومن ثمّ فهي في حالةٍ مستمرّةٍ من "الاهتزاز" الذي يضعها دومًا على الحافّة، تحفر قبرها بيدها، دون وجود قوىً داخليّةٍ فعليّةٍ تدفع بها إلى حتفها، فتظلّ —والحال هكذا— تمارس القمع داخليًّا، مُضيفةً المزيد إلى اهتزازها، بينما تعزّز وضعيّتها —وبالتّزامن— في موقع التّبعيّة (إقليميًّا ودوليًّا)، إذ إنّ اليد الخارجيّة أقوى وأقدر على السّير بوضعيّة الحافّة إلى نهاياتها، وبهذا يمكن القول أن السّلطة (بتدميرها وإلحاقها لعناصر المجتمع المُسيّس، والمساهمة بتعزيز تبعيّتها)، تحفر قبرها بيدها، لكنّها —ومن جهة أخرى— تُضعف وتُعطّل وتفكّك القوى الدّاخليّة التي يمكن أن تدفنها في هذا القبر(11).
الثّانية: أن الجزء الأكثر "استقلاليّة" عن السّلطة في قطاعات المجتمع المدنيّ (بالمعنى الجرامشيّ) في المنطقة العربيّة اليوم، هو قطاع المنظّمات "غير الحكوميّة" التي تتلقّى تمويلها، ودعم وجودها، من مؤسسّات دوليّة مانحة، تتبع مباشرة، أو تتلقى تمويلها من، حكومات دولٍ قويّةٍ ومؤثّرةٍ إقليميًّا أو دوليًّا (يبدو وصف "غير الحكوميّة" هنا مُثيرًا للسّخرية). ترتبط استراتيجيّات عمل هذه المنظّمات "غير الحكوميّة"، وبرامجها، وأنشطتها، بمصالح هذه الدوّل المُتمرّسة في الهيمنة الدّاخليّة والخارجيّة؛ دولٌ تمتلك خطابًا عميقًا وأدواتٍ أكثر منهجيّةً ومرونةً و"مصداقيّةً" وإقناعًا وتأثيرًا وفاعليّة. يؤدّي هذا الارتباط (المباشر أو الضّمنيّ) إلى تحوّل "المجتمع المدنيّ" (بالمعنى المتداول اليوم) إلى امتداد لهيمنة دول المصدر، ليشكّل إضافةً نوعيّةً للوضع المهتزّ للسُّلطة من جهة، ومنافذ لإمكانيّات ولوج النّفوذ والتّدخّل الخارجيّين عند الحاجة، من جهةٍ أخرى. هذا مثال على أنّ الهيمنة (بالمعنى الجرامشيّ)، في سياق الرّأسماليّة المُعولَمة، وفي سياق الكيانات الوظيفيّة وتبعيّتها، صارت —إلى حدّ كبير— خارج نطاق تأثير المجتمع السّياسيّ المحليّ الذي تُرك له جزءٌ من وظيفة الإكراه، وانتقلت لكونها جزءًا من عناصر المراكز الرّأسماليّة نفسها، ويمكن الاستدلال على هذه الهيمنة العالميّة بوضوح من خلال أنماط الاستهلاك العالميّة شبه الموحّدة، والأشكال والتّنظيمات المدينيّة المُستنسخة عن النّموذج الرّأسمالي الأميركيّ المركزيّ في كلّ أنحاء العالم، ونفوذ مؤسّسات النّظام الرّأسماليّ (صندوق النّقد والبنك الدّوليّين) عالميًّا.
الثّالثة: مع أن مفهوم "الدّولة" عند جرامشي غير جليٍّ بشكلٍ كامل، إلا أنّ الواضح أنّه يعتبرها هيكلًا خارجيًّا لفواعل داخليّة يمثّلها (بشكل عامّ) المجتمعين السّياسيّ والمدنيّ، وأن المشروع الثّوريّ لجرامشي يقضي باستبدال منظومة الإكراه/الهيمنة للمجتمع القديم (الرّأسماليّ) بمنظومة هيمنةٍ أخرى (أكثر رفعة، أو "تمدّنًا" بتعبير جرامشي) هي سلطة اتّحاد العمّال (شمال إيطاليا) والفلّاحين (جنوبه) مع الحفاظ النّسبيّ على هذا الهيكل العامّ باعتباره رافعةً اجتماعيّةً وسياسيّةً ضروريّة. فلنتذكّر أنّ "دولة" جرامشي كانت فيها صناعاتٌ ناشئةٌ تحميها الدّولة (على رأسها مصانع "فيات" في تورين حيث تشكّل الوعي السّياسيّ لجرامشي، وفيها تأسّست —بمشاركته وقيادته— مجالس العمّال، وصحيفة النّظام الجديد، والحزب الشّيوعيّ الإيطاليّ)، وطبقةٌ عاملةٌ خاضت نضالاتٍ وإضراباتٍ جذريّة، ووحدةٌ فتيّةٌ نسبيًّا لمجالٍ سياسيّ كان قبلها مُدنًا مُتفكّكة، أي: عناصر دولة سوقٍ موطنيّةٍ واعدةٍ يمكنها أن تسير على طريق التّطوّر الرّأسماليّ نحو الشّيوعيّة(12).
في المنطقة العربيّة اليوم، ليس ثمّة دول من هذا النّوع، ولا إمكانيّة لنشوء مثلها في ظلّ تمدّد المراكز الرّأسماليّة ليشمل نفوذها (وإعاقتها لتطوّر غيرها من البلدان عن السّير على الطّريق نفسه) كامل مساحة العالم. ليس لدينا "دول" في المنطقة العربيّة، بل كيانات وظيفيّة، تعمل مجموعاتها الحاكمة على تدمير إمكانيّات تنميتها، وتعزيز تبعيّتها (فهذه وظيفتها الأساسيّة تجاه المجال الخارجيّ الذي يرعى استمراريّتها). لذا، أرى أنّ "الدّولة" في المنطقة العربيّة؛ إذ تتّخذ صيغة الكيان الوظيفيّ، ليست سوى أداةٍ لتعزيز وظيفيّة المجموعة الحاكمة، وفرض سطوتها، وتعزيز تسلّطها وإعادة إنتاجه، وهي (بحكم وظيفيّتها المرتبطة بالتّقسيمات الاستعماريّة التي أنتجتها) جزءٌ أساسيٌّ من منظومة السّيطرة (الدّاخليّة) والهيمنة (الخارجيّة)، أداةٌ مهمّةٌ لترسيخهما، لا مجرّد مساحةٍ جغرافيّةٍ-سياسيّةٍ محايدةٍ لهما.
في تقديمهما للطّبعة الألمانيّة لعام 1872 من البيان الشيوعيّ، كتب كارل ماركس وفريدريك إنجلز استنتاجًا وصلا إليه بتأثير من التّجربة الفعليّة لسلطة العمّال، المتمثّلة بكُمْيُونَة باريس: "شيءٌ واحدٌ أثبتته الكُمْيُونَة بشكلٍ خاصّ، وهو ’أنّ الطّبقة العاملة لا يمكن لها أن تضع يدها —ببساطة— على جهاز الدّولة المصنوع مسبقًا، وتستخدمه لأغراضها‘."(13). بهذا المعنى، لا يمكن النّظر إلى الدّولة البرجوازيّة نفسها، والتي هي دولةٌ بحقّ، كإطارٍ للعمل التّحرّري؛ إذ تتماسك وتتعاضد أجزاؤها بعلاقات القوّة التي تحكمها، فكيف الأمر ونحن نتحدّث هنا عن كياناتٍ وظيفيّةٍ تتماسك بعلاقات الفساد والتّنفيع والإكراه والتّبعيّة والزّبائنيّة؟
البرلمانات الصّوريّة باعتبارها أسواقًا سياسيّةً سوداء
امتدادًا لمفهوميّ الإكراه والهيمنة، وأشكال "المؤسّسات" الجوفاء التي تُميّز الكيانات الوظيفيّة، يعتبر جرامشي وجود برلمانٍ صوريٍّ مُفرغٍ من مضمونه، ونظامٍ حزبيٍّ شكليّ، أخطر من البرلمانيّة الواضحة، البيّنة، الصّريحة، الفعّالة(14)، فالأوّل يحمل عيوب الثّانية دون إيجابيّاتها، ويلعب دور "الأسواق السّوداء، أو أشكال اليانصيب غير القانونيّ عندما يتم إغلاق الأسواق الرّسميّة وأشكال اليانصيب الشّرعيّ لسبب أو لآخر"(15). هذه المنظومة الدّيكوريّة(16) تلعب دورًا تعويضيًّا نسبيًّا عن غياب المجتمع المدنيّ ودوره في الهيمنة في المنطقة العربيّة، وتشكّل دعاماتٍ خلفيّةً ضعيفة، ولكنّها مركزيّة، لسلطة الإكراه؛ شيءٌ يشبه دور الجمعيّات الخيريّة في سياق الرّأسماليّة: فبينما تُنتج الرّأسماليّة أزماتٍ كبرى تتمثّل في الفقر وانعدام المساواة والعدالة والتفاوت الهائل في الدّخل وتدمير البيئة، تعمل الجمعيّات الخيريّة على التّرقيع الموضعيّ لهذه الأزمات، وتنفيس آثارها قبل أن تصل إلى نقطة انفجار الجياع، ويتمّ ذلك بواسطة جيوب النّاس الخاصّة، وتطوّعهم أحيانًا كثيرة بلا أجر، الأمر الذي يعمل على مساعدة واستدامة النّظام نفسه الذي ينتج هذه الظّواهر من جانب، والتّعمية على دوره في إنتاج الظّلم عبر التّركيز على المسؤولية الفرديّة والشّخصيّة (سواءً فيما يتعلّق بالفقر، أو بالعَطَاء) من جانبٍ آخر.
مارس جرامشي هذه القناعة بشكلٍ حقيقيٍّ أثناء عضويّته في البرلمان الإيطاليّ، وخلال الأيام الأخيرة التي سبقت إحكام الفاشيّة قبضتها على البلاد، واعتقاله، فـ"انضمّ جرامشي والنّواب الشّيوعيّون الآخرون إلى المعارضة البرلمانيّة، لكنّه أصرّ على استحالة العمل بفاعليّةٍ من داخل [إطار ومُحدّدات] الدّستور. اقترح [جرامشي] إعلان إضرابٍ عامٍّ ضدّ الفاشيّة، لكن الأحزاب الأخرى رفضت الاقتراح، وظلّت على عماها تعتقد أنّ القوّة تكمن في البقاء داخل إطار القانون بانتظار تدخّل الملك"(17).
ما أشبه اليوم بالبارحة، فما زالت كثرة من القوى السّياسيّة والمجتمعيّة المختلفة تعتقد —بسذاجة— أنّ "القانون" و"الدّستور" وتفريعاتهما هي أطرٌ كليّةٌ فوقيّةٌ مُحايدة، لا تاريخيّة، تسري على الجميع بحزمٍ متساوٍ، دون أن تدرك أنّها مجرّد تعبيراتٍ سياسيّةٍ عن مصالح السّلطة (الطّبقة المُهيمنة في حالة "الدّولة"، والمجموعة الحاكمة في حالة "الكيان الوظيفيّ")، وقواعدَ لِلُّعبة تضعها للآخرين، وتَنتج أساسًا عن توازنات القوى داخل المجتمعات ذات العلاقة، أو عن التّوازنات الإقليميّة والدّوليّة (كما في حالة المعاهدات والاتفاقيّات)، أو عن سطوة الرّأسماليّة وأدواتها التّدخّليّة (كما في خطط إعادة الهيكلة الاقتصاديّة والخصخصة ورفع الحماية عن المُنتجين المحليّين في الأطراف)، وعندما تتغيّر موازين القوى، أو تتغيّر مصالح السّلطة، أو تحوز القوى الاقتصاديّة العالميّة إمكانيّات تدخّليّة أكبر، يُلقى بما هو غير مناسب من الدّساتير والقوانين في القمامة، مثلما حصل مع جرامشي نفسه (تمّ اعتقاله على الرّغم من حصانته كعضوٍ في البرلمان، ومات في سجنه)، ومثلما يحصل يوميًّا في المنطقة العربيّة من خروقاتٍ واضحةٍ للدّساتير والقوانين من قبل السّلطة التي وضعتها، كمثالٍ يوضّح الطّبيعة الإكراهيّة-العنفيّة المرنة لأطرٍ تبدو خارجيًّا مُحايدة وكليّة وصلبة؛ أمّا التّمنيّات المتعلّقة "بضرورة أن يُطبّق القانون على الجميع،" فهذه لن تتجاوز مربّع الطّوباويّة التّمنيّاتيّة، إن لم تقترن بتغيّرٍ يفرضها في موازين القوى.
التّقويض الفعّال: استنتاجات جرامشيّة مُهمّة لثوريّي القرن الحادي والعشرين
من الواضح اليوم أنّ العمل التّغييريّ من داخل إطار "الدّولة" أو الكيان الوظيفيّ، في وضعٍ تمتلك فيه السّلطة كامل قدرات السّيطرة والعنف، مضافًا إليها إمكانيّات الإغواء والاحتواء في ظلّ عدم وجود تنظيماتٍ حقيقيّةٍ قادرة على استبدالها، هو شكل من أشكال التّفريغ المستمرّ للأزمات والغضب النّاتج عنها، وهو أيضًا آليّةٌ تُساعد المجموعات الحاكمة على اشتقاق إمكانيّاتٍ وظيفيّةٍ أخرى ومستجدّة لنفسها، تطيل بها عمرها، وتؤخّر به دفنها في القبر الذي تحفره لنفسها(18).
يقول جرامشي (وسأقتبسه مطوّلًا للأهميّة): "إن فقدت الطّبقة الحاكمة الإجماع، أي أنّها لم تعد ’تقود‘ بل ’تسيطر‘ وحسب، تمارس القوّة الإكراهيّة فقط، فإنّ هذا يعني أنّ الجموع قد انفصلت عن أيديولوجيّاتها التّقليديّة، ولم تعد تعتقد بما اعتقدت به في السّابق [بخصوص السّلطة]"(19)، وتتشكّل بذلك "أزمة النّفوذ" التي تخلق "مباشرةً أوضاعًا خطيرة، لأنّ الشّرائح المختلفة من المجتمع لا تملك القدرة نفسها على إعادة التّموضع أو إعادة تنظيم نفسها بالوتيرة نفسها. الطّبقة الحاكمة التّقليديّة، والتي تملك موظّفين كثيرين مُدرّبين، تُغيّر البرامج والشّخصيّات، وتعيد مسك زمام التّحكّم الذي كان بدأ بالتملّص منها، بسرعةٍ أكبر من الطّبقات الخاضعة؛ كما تقوم [الطّبقة الحاكمة في هذه الأوضاع] بتقديم التّضحيات، وتعريض نفسها لمستقبلٍ غير مأمون العواقب، بإطلاق وعودٍ ديماغوجيّة، لكنّها تُحافظ على السّلطة، وتقوّيها للفترة الرّاهنة، وتستخدمها لسحق خصومها وتفريق قياداتهم، وهؤلاء لا يمكن أن يكونوا كُثرًا، أو مدرّبين بشكلٍ جيّد"(20).
ربّما يجد القارئ في الفقرة أعلاه، ما يحيله مباشرة إلى مصير الانتفاضات المعاصرة في أكثر من بلد عربيّ؛ انتفاضاتٌ انطفأت بتحرّكاتٍ للسّلطة على المسار نفسه الذي أوضحه جرامشي قبل قرنٍ من الزّمان. الحلّ؟ يمكن استنتاجه من جرامشي في سياقٍ آخر شبيه: "الدّرس من السّنتين الحمراوين [في إيطاليا، 1919 و1920 اللّتين حصلت فيهما التّحرّكات الثّوريّة للعمّال، وفشلت] هو أنّه كان على القوّة الثّوريّة أن تكون موجودةً قبل تلك اللّحظة"(21). ينبغي إذًا التّحضير للثّورة مُسبقًا قبل انفجارها، والتّأسيس لها، لا انتظار الانتفاضات الشّعبيّة ليبدأ التّفكير بعدها، وهذا التّحضير، والبناء اللّازم له، يجب أن يتمّ خارج أطر سيطرة السّلطة بالكامل، وضمن ثنائيّة الهدم-إعادة البناء(22) التي يمرّ عليها جرامشي عَرَضًا في كتاباته، وفي إطار ما تسميّه روزا لوكسمبورج "المهمّة التّاريخيّة للبروليتاريا": تصفية الدّولة الموطنيّة المعاصرة باعتبارها "الشّكل السّياسيّ للرّأسماليّة"(23)، وامتدادًا لذلك: تصفية الكيانات الوظيفيّة باعتبارها الإطار الفعّال الذي تعمل من خلاله الرّأسماليّة في الأطراف. من هذه التّصفية/الهدم-إعادة البناء، سأصوغ ملامح أوليّة لما سأسميّه: التّقويض الفعّال.
يمثل "التّقويض" عند جرامشي (وبالمفهوم "الإيطاليّ"، كما يورد) موقعًا طبقيًّا سلبيًّا، وينتجُ عن كون النّاس لا يعون بوضوح أن لديهم "أعداء [طبقيّين]"، فيعرّفونهم بشكلٍ عموميٍّ باعتبارهم "السّادة (signori)"(24)، وهو ما نجده بتناسخٍ آخر اليوم، حين يشير النّاس إلى "الفاسدين"، باعتبارهم كتلةً غير واضحة المعالم، تنهال عليها الشّتائم، ولا يمكن الإمساك بها فعليًّا، وغير مُحدّدةٍ طبقيًّا، في حين تندرج المُمارسات التّقويضيّة مثل: سرقة الكهرباء والماء من الشّبكة العموميّة، وتشغيل السيّارات الخاصّة كسيّارات أجرةٍ للعموم خارج إطار التّرخيص الرّسميّ، وبيع المنتجات بلا فواتير وإبقائها خارج النّظام الضّريبيّ للسُّلطة، وصولًا إلى إلقاء القمامة في الشّوارع، وغيرها من أمور، ضمن أشكال الفِعْل الفرديّة والانتقاميّة المُضرّة نسبيًّا بالسُّلطة، لكنّها لا ولن ترقى إلى التّحوّل إلى قوّة منهجيّةٍ وواعيةٍ وثوريّة.
مقاربة التّقويض الفعّال تتضمّن عنصر البناء المرافق دومًا للهدم، ففي موازاة تعرية عناصر الإكراه والسّيطرة، وتفكيك أشكال البرلمانيّة والحزبيّة الشّكليّتين، ودفع السُّلطة بشكلٍ مستمرٍ إلى نقطة "أزمة النّفوذ"، يُشيَّد بموازاة مساحات السُّلطة، وخارج مناطق نفوذها، مساحاتٌ لـ"الحكم الذّاتيّ"، يرد ذكرها في برنامج صحيفة جرامشي، النّظام الجديد، بخصوص العمّال، لكن يمكن تعميمها على قطاعات المُضطهَدين بشكل أوسع: "فلندرس المصنع الرّأسماليّ، لا باعتباره منظّمةً للإنتاج الماديّ (...) بل كإطارٍ ضروريٍّ للطّبقة العاملة؛ باعتباره كائنًا سياسيًّا حيًّا؛ باعتباره ’المساحة الموطنيّة‘ للحكم الذّاتي للعمّال"(25). تشكّل هذه المساحات مختبرات الممارسة الفعليّة لأشكال المجتمعات المستقبليّة، وتطوير أدواتها، لتكون جاهزةً لحظة صعود الأزمة إلى نقطة الانفجار.
كما تبدأ هذه المساحات من خلال التّثقيف العامّ الواسع كأداةٍ أساسيّة لفلسفة التّفعيل، تُلغي "الوعي المزدوج" أو"المتناقض" للمضطهَد: وعيه العمليّ الذي يحوزه من خلال مساهمته (بواسطة عمله) بتغيير العالم، وتغيير نفسه من خلال هذا التّغيير؛ ووعيه النّظريّ الموروث عن الماضي الطّويل، والذي يقبله هكذا بلا سؤالٍ أو نقد؛ وقد يؤدّي هذا الوعي المتناقض إلى حالة من السّلبيّة السّياسيّة، والانسحاب(26). ويتمّ هذا التّثقيف من خلال فهمٍ حادٍّ لدور المفكّر (Intellectual)، بحثه جرامشي بتوسّع، ولن يُتاح لنا هنا الخوض فيه إذ بحثناه في القسم الخامس من الفصل الثالث من هذا الكتاب [الكيانات الوظيفية]، باستثناء الإشارة إلى قسمٍ منهم يشكّلون "’ضبّاط‘ الطّبقة الحاكمة [الموكول إليهم] القيام بالوظائف التّابعة المتعلّقة بالهيمنة الاجتماعيّة والحكم السّياسيّ"(27)، وتدمير هذا النّسق عبر ما يراه جرامشي من تمكينٍ لأكبر شريحةٍ ممكنةٍ من النّاس من التّفكير النّقديّ (لا الدّعائيّ، فتلك مهمّة المثقّف-الضّابط العامل عند السّلطة)، وتحويل الفلسفة (من خلال التّماسّ مع النّاس) إلى"التّاريخ مُمَارسًا (in action)، إلى الحياة بذاتها"(28)، فيحصل النّاس على وضع مُشخّص، مُعيّن، مقابل وضعهم السّابق غير المتبلور(29)، ويتمكّنون بواسطة أميرهم الحديث (الذي أثبتت التّجارب المتتالية ضرورته): التّنظيم السّياسيّ الثّوريّ، من تغيير التّاريخ.
التّقويضُ الفعّال باعتباره مُفاقمةً لِـ"أزمة النّفوذ"
تحدّثنا سابقًا عن "أزمة النّفوذ" كما يُعرّفها جرامشي، وأشرتُ إلى أنّ السُّلطة في الكيانات الوظيفيّة تقفُ دائمًا على حافّة الهاوية، حافّة قبرها، دون أن تجد يدًا تدفعها إلا إن كانت يدًا خارجيّة، فالأيدي الدّاخليّة شُلّت عبر عقود من التّصحير السّياسيّ. التّقويض الفعّال في حالةٍ كهذه يكمن في إضعاف الحافّة التي تقف عليها المجموعة الحاكمة، وذلك بالانسحاب من أشكال وأدوات إسباغ الشّرعيّة عليها واستدامتها، والانسحاب من المساحات السّياسيّة التي تقع تحت سيطرتها، وهي (على سبيل المثال): الانتخابات، والأحزاب السّياسيّة، ومؤسّسات المشاركة السّياسيّة الدّيكوريّة المُرخّصة؛ وليس المقصود بالانسحابِ هنا الانسحابَ الفرديّ فقط، بل الانسحاب الجماعيّ الممنهج والمنظّم إلى خارج مساحات سيطرة السّلطة، فأيّ شكلٍ سياسيٍّ-اجتماعيٍّ يشتقّ شرعيّته من المجموعة الحاكمة يُقوّيها، ويُخضع نفسه لميزان القوى المختلّ لصالحها، من ثمّ، على أشكال التّجمّع السّياسيّ أن تُبنى خارج إطار سيطرة السّلطة، وأن تشتقّ شرعيّتها من ذاتها، من حقّها في الوجود السّياسيّ، وحقّها في التّغيير، وحقّها في العمل من أجل شكلٍ اقتصاديّ-سياسيّ-اجتماعيّ تتحقّق فيه العدالة والمساواة، من دون اعتبارٍ لمحدِّدات السّلطة وقواعدها.
لا تعتمد السّلطة على الإكراه فقط، على "المجتمع السّياسيّ" وحده، بل على الإغواء والاحتواء الذي يمثّل حصون وقلاع السّلطة داخليًّا، والمتجسّم فيما يسمّيه جرامشي: المجتمع المدنيّ. ينبغي إيلاء جهدٍ خاصٍّ لتفكيك المجتمع المدنيّ باعتباره دائرةً من دوائر نفوذ السّلطة وسيطرتها/هيمنتها، مع الانتباه إلى التّعليم، باعتباره المساحة المركزيّة لترويج دعاية السّلطة، ووسيلتها في صناعة وترسيخ "الهويّة" (أيدولوجيا السّلطة وصورتها) و"الانتماء" (إخضاع الفرد لتلك الأيديولوجيا والصّورة)، وإلى مساحات الثّقافة والتّاريخ باعتبارها حقولًا تستملكها السّلطة لاشتقاق عناصر الهويّة، ووجودها الأزليّ اللّاتاريخيّ، وإلى المثقّف باعتباره أداةً إضافيّة لإخضاع العموم لأيديولوجيا السّلطة، وتحويل الإبداع (الضّروريّ لإنتاج المستقبل الآخر، العالم الآخر، الثّورة) إلى مادّةٍ للتّوسّل والتّسوّل، أو سلعةٍ للتّكسّب.
"باعتبارها تجربةً معيشةً في’المساواة المُمَارسة‘ (equality in action)، كانت الكُمْيُونة في أساسها مجموعةً من الأفعال التّفكيكيّة الموجّهة ضدّ بيروقراطيّة الدّولة، نفّذها رجالٌ ونساءٌ عاديّون (...) كثرةٌ من الأفعال التفكيكيّة هذه كانت موجّهةً —ولا غرابة في ذلك— ضدّ تلك البيروقراطيّة المركزيّة: المدارس"(30)، فحُوِّلت من مؤسّساتٍ لصناعة المواقع الطّبقيّة، والتّحضير لانخراط الأفراد في ديكتاتوريّة الرّأسماليّة وبُناها الاستغلاليّة، إلى مساحاتٍ لاكتساب المعارف والمهارات الإبداعيّة الذّهنيّة واليدويّة معًا فيما سمّي بـ"التّعليم التّكامليّ"(31).
لا يعمل هذا على تقويض الحافّة التي تقف عليها السّلطة فحسب، بل يكتسب فعاليّة مُستقلّة من خلال إكساب التّنظيم التّحرّري "وجوده الشّخصيّ المُستقلّ" بحسب عبارة جرامشي، فمن خلال "فصل عرى الوحدة المبنيّة على الأيديولوجيا التّقليديّة [أيديولوجيا السّلطة]، والتي من دونها لن تتمكّن القوّة الجديدة من اكتساب الوعي بشخصيّتها المستقلّة"(32)، تخرج هذه القوّة الجديدة إلى الوجود بعد أن كانت قبل ذلك غير موجودةٍ، لأنّها كانت جزءًا من السّلطة-المجموعة الحاكمة-الكيان الوظيفيّ.
= = =
الهوامش
(1) Antonio Gramsci, The Modern Prince and Other Writing, translated by Luis Marks, International Publishers, 2016 (1957), p. 57.
(2) Antonio Gramsci, Selections from the Prison Notebooks, edited and translated by Quintin Hoare and Geoffrey Nowell Smith, International Publishers, 2018 (1971), p. xiii.
(3) Antonio Gramsci, Prison Notebooks Vol. I, edited by Joseph A, Buttigieg, translated by Joseph A. Buttugieg and Antonio Collari, Columbia University Press, 1992, p. 1.
(4) The Modern Prince, p. 101.
(5) المرجع السابق نفسه، الصفحة نفسها.
(6) Selections, p. 276.
(7) The Modern Prince, p. 152.
(8) برادراغ غرانيكي، أنطونيو غرامشي ومعنى الاشتراكيّة، في: جاك تكسيه، غرامشي: دراسة ومختارات، ترجمة: ميخائيل إبراهيم مخول، مراجعة: جميل صليبا، دمشق: منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، 1972، ص 237.
(9) Selections, p. 238.
(10) هشام البستاني، الكيانات الوظيفيّة: حدود الممارسة السياسيّة في المنطقة العربيّة ما بعد الاستعمار، بيروت: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر، 2021
(11) نفس المرجع أعلاه، ص ص 439–454.
(12) Vladimir Ilyich Lenin, “The Right of Nations to Self-Determination” in Collected Works (Progress Publishers, 1972 [1914]), Vol. 20, pp. 393–454.
(13) Karl Marx and Friedrich Engels, The Communist Manifesto, Penguin, 2002 (1888), p. 194.
(14) في نقد "البرلمانيّة" وآثارها الاحتوائيّة لصالح الرأسماليّة، انظروا:
Rosa Luxemburg, Social Democracy and Parliamentarism, Rosa Luxemburg Internet Archive (marxists.org), 2000 (1904),
https://www.marxists.org/archive/luxemburg/1904/06/05.htm
(تم الدخول إلى الرابط يوم 2 نيسان 2020).
(15) Selections, p. 255.
(16) عضو مجلس النواب الأردني المخضرم عبد الكريم الدغمي يقول: "نحن مجرّد ديكور"، في: برنامج صوت المملكة، قناة المملكة، 19 تشرين الثاني 2019،
https://youtu.be/zw5ztYHYVBU
(تم الدخول إلى الرابط يوم 2 نيسان 2020).
(17) The Modern Prince, p. 17.
(18) الكيانات الوظيفية، ص ص 371-392.
(19) Selections, pp. 275-276.
(20) The Modern Prince, pp. 174–175.
(21) Chris Bamberg, A Rebel’s Guide to Gramsci, Bookmarks, 2006, p. 55.
(22) Selections, p. 168.
(23) Rosa Luxemburg, The National Question (1909), in: Horace Davis (ed.), The National Question: Selected Writings By Rosa Luxemburg, Monthly Review Press, 1976،
ويمكن الوصول إلى الكتاب من خلال أرشيف الإنترنت الماركسيّ:
https://www.marxists.org/archive/luxemburg/1909/national-question/index.htm
(تم الدخول إلى الرابط بتاريخ 2 نيسان 2020).
(24) Selections, p. 272.
(25) The New Prince, p. 23.
(26) المرجع السابق نفسه، ص ص 66–67.
(27) المرجع نفسه، ص 124.
(28) نفسه، ص 81.
(29) نفسه، ص 73.
(30) Kristin Ross, Communal Luxury: The Political Imaginary of the Paris Commune, Verso, 2016, p. 39.
(31) انظروا حول ذلك المرجع السابق نفسه، ص 42 وما بعدها.
(32) Antonio Gramsci, The Modern Prince and Other Writing, translated by Luis Marks, International Publishers, 2016 (1957), p. 142.
https://www.lse.ac.uk/middle-east-centre/events/2022/Gramsci-MENA-Conference
- غرامشي
◄ هشام البستاني
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ فكر وسياسة
- ◄ فكر وسياسة: مقالات
- ● أزمة النفوذ المزمنة، والتقويض الفعّال، في المنطقة العربيّة: بحثٌ نظريّ لممارسة سياسيّة ممكنة
- ● أزمة النفوذ المزمنة، والتقويض الفعّال، في المنطقة العربيّة: بحثٌ نظريّ لممارسة سياسيّة ممكنة
- ● أنتَ في الهناك، وأنا كذلك
- ● التباس الديمقراطية والثورة وأصابع الحبر الداكن
- ● الكتلة التاريخية: من سقوط النخب إلى صحوة الشباب