د. علي بوفلجاوي - الجزائر
من صناعة العربية إلى ملكتها في الفكر الخلدوني
تعدّ معرفة العربيّة كلغة بين اللّغات، من العلوم الرّاقية الّتي لها أثر في تشكيل وتكوين سلوكات الفرد الظّاهرة منها والباطنة؛ لارتباط تعلّمها بالمعجزة الخالدة من جهة، ولارتباطها بمختلف العلوم من جهة أخرى. لذا كان اهتمام العلماء الأوائل في تعلّم العربيّة من أولى انطلاقاتهم في تحقيق سنن العلوم الأخرى، من بيّنهم العلّامة عبد الرّحمن أبو زيد وليّ الدّين المعروف بابن خلدون الذي يعتبر ما توصل إليه لا يقل أهمية عما توصلت إليه النظريات اللسانية الحديثة، بل إنه مادة علمية تربوية صالحة للاستثمار في سبيل تطوير آليات تعليم اللغة.
ولعل الهدف من هذه الدراسة يكمن في تبيان ماهية صناعة اللغة العربية بامتلاك قوانينها وسننها، ثم تجسيدها من أجل اكتساب الملكة اللسانية.
وللوقوف على ماهية وحقيقة تعليم اللغة العربية وتحقيق الملكة اللسانية لدى مستخدميها، حري بنا أن نجعلها تتمحور حول إشكالية أساسية، تتضمن أسئلة تأسيسية يحاول هذا المقال الإجابة عنها وهي: ما المقصود بالصناعة والملكة اللسانية في الفكر الخلدوني؟ وما حضورهما في تعلم اللغة العربية؟ وما العوامل المؤثرة في تحقيق جودة الملكة اللسانية؟
التعريف بالعلامة عبد الرحمان بن محمد بن خلدون
عبد الرَّحمن بن مُحَمَّد بن خَلْدُون أبو زَيْد وَلْي الدِّين الْحَضْرَمِيّ الإَشبيلي المعروف بابن خَلْدُون (1332م - 1406م). ولد في تونس وشبَّ وترعرع فيها وتخرّج من جامعة الزيتونة، وليَ الكتابة والوساطة بين الملوك في بلاد المغرب والأندلس ثم انتقل إلى مصر حيث قلده السلطان برقوق قضاء المالكية. ثم استقال من منصبه وانقطع إلى التدريس والتصنيف فكانت مصنفاته من مصادر الفكر العالمي، ومن أشهرها كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في معرفة أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر.
ابن خلدون مؤرخ من شمال أفريقيا، تونسي المولد أندلسي حضرمي الأصل. عاش بعد تخرجه من جامعة الزيتونة في مختلف مدن شمال أفريقيا، حيث رحل إلى بسكرة وغرناطة وبجاية وتلمسان وفاس، كما تَوَجَّه إلى مصر، حيث أكرمه سلطانها الظاهر برقوق، ووَلِيَ فيها قضاء المالكية، وظلَّ بها ما يناهز ربع قرن (784-808 هـ)، حيث تُوُفِّيَ عام 1406 عن عمر بلغ ثلاث وسبعين عامًا ودُفِنَ قرب باب النصر بشمال القاهرة تاركاً تراثاً ما زال تأثيره ممتداً حتى اليوم ويعتبر ابنُ خَلدون مؤسسَ علم الاجتماع الحديث ومن علماء التاريخ والاقتصاد (ابن خلدون، 2001، ص 3).
مكانة اللغة العربية في المنظور الخلدوني
زعم ابن خلدون أن العربية اختصت بالإعراب وحروف المعاني وهو ما أورثها الوجازة في التعبير، يقول: "وكانت الملكة الحاصلة للعرب من ذلك أحسن الملكات وأوضحها إبانة عن المقاصد، لدلالة غير الكلمات فيها على كثير من المعاني، مثل الحركات التي تعين الفاعل من المفعول من المجرور (أعني المضاف) ومثل الحروف التي تفضي بالأفعال إلى الذوات من غير تكلف ألفاظ أخرى، وليس يوجد ذلك إلا في لغة العرب. وأما غيرها من اللغات فكل معنى أو حال لابد له من ألفاظ تخصه بالدلالة، ولذلك نجد كلام العجم في مخاطباتهم أطول مما نقدره بكلام العرب (ابن خلدون، 2006، ص 545).
الملكة اللسانية: مفهوم الملكة
الملكة لغة: ورد في لسان العرب لابن منظور في مادة (م ل ك):" حسن الملكة والملك ... وأقر بالملكة والمملوك أي الملك ويقال فلان حسن الملكة" (منظور، 2005، ص 101).
ويعد لسان العرب معجما موسوعيا وذلك لسعته وغزارة المادة الموجودة فيه، حيث استشهد بكثير من الآيات القرآنية وكلام العرب، فمادة "ملك " في لسان العرب تعكس مظهر من مظاهر حياة اللغة العربية وحياة المجتمع العربي.
وأصل اللفظ وهو جذره المكون من الميم واللام والكاف يدل –كما يقول ابن فارس-على قوة الشيء وصحته يقال: أملك عجينة: قوى عجنه وشده وملكت الشيء: قوّيته، ثم قيل ملك الإنسان الشيء يملكه ملكا، والاسم الملك، لأن يده فيه قوية صحيحة (المراكشي، 2012، ص 52).
وقد وردت مادة "ملك" في المعجم الوسيط على النحو التالي: الملكة صفة راسخة في النفس أو استعداد عقلي خاص لتناول أعمال معينة بحذف ومهارة: مثل الملكة العددية والملكة اللغوية (مجمع اللغة العربية، 2004). وفي المعاجم المعاصرة: الملكة: جمع ملكات: صفة راسخة في النفس، أو استعداد عقلي خاص لتناول أعمال بحذق أو مهارة، موهبة: ملكة لغوية/فنية ملكة الشعر والغناء (عمر، 2008).
ومن خلال التعاريف اللغوية السابقة نستنتج فكرة مفادها أن الملكة صفة راسخة في الذهن وفي النفس ولها صلة بالعديد من المجالات مثل الشعر وغيره بحيث نجد عددا من الأشخاص بارعين في مجال الشعر والرياضيات مثلا، وهذا ملكة.
الملكة اصطلاحا
يعرف الشريف الجرجاني الملكة في قوله: "هي صفة راسخة في النفس، وتحقيقه أنه تحصل للنفس هيئة بسبب فعل من الأفعال، ويقال لتلك الهيئة كيفية نفسانية، وتسمى حالة مادامت سريعة الزوال، فإذا تكررت ومارستها النفس حتى رسخت تلك الكيفية وصارت طبيعة الزوال فتصير ملكة وبالقياس إلى ذلك الفعل عادة وخلقا (الجرجاني، 1427هـ).
وتحدث الفارابي بشأن الملكات واكتسابها فيقول: "والإنسان إذا خلا من أول ما يفطره ينهض ويتحرك نحو الشيء الذي تكون حركته إليه أسهل عليه بالفطرة وعلى النوع ما الذي تكون فيه به حركته أسهل عليه، فتنهض نفسه إلى أن يعلم أو يفكر أو يتصور كل كان استعداده له بالفطرة وبملكة طبيعية لا باعتياد له سابق قبل ذلك ولا بصناعة، وإذا كرر فعل شيء عن نوع واحد مرارا وكثيرة حدثت له ملكية اعتيادية ما خلقية أو صناعية (الفارابي، 1982، ص 122).
فالفارابي هنا قسم هذه الملكة إلى قسمين هما: ملكة خلقية وملكة صناعية. وعليه فإن الفارابي ركز على الفطرة أو الجانب الفطري للإنسان في الاكتساب.
عبّر فاخر عاقل عن مفهوم الملكة بالمهارة حيث قال: "وهي حذاقة تنمو بالتعلم وقد تكون حركية كما في ركوب الدراجة، أو كلامية كما في التسميع أو مزيج بين الاثنين كما هو الحال في الضرب على الآلة الكتابية" (عاقل، 1982، ص 102).
فهنا يرى فاخر عاقل أن الملكة مهارة أو حذاقة مقسمة إلى ثلاثة أقسام: مهارة حركية: ومثل ذلك ركوب الدراجة. ومهارة كلامية: مثل التسميع كحفظ كلام الله تعالى. ومهارة حركية وكلامية: ممزوجة في آن واحد مثل الكتابة أو القراءة ومتابعة إيقاعها حركيا.
الملكة عند اللغويين العرب القدامى
لعل ورود الملكة بصيغ عدّة وصلت إلى حد التباين، فكان لكل لغوي فهمه الخاص لها ومصلحته التي ارتضاها. وبداية سنتطرق في هذا الباب إلى أئمة اللغة من العرب القدامى.
عند سيبويه (ت181ه)
يقول سيبويه في كتابه "الكتاب": "فمنه مستقيم حسن، ومحال، ومستقيم فيرح، وما هو محال كذب فأما المستقيم الحسن فقولك: آتيتك أمس وسآتيك أمس". ويقول أيضا:" وأما المستقيم الكذب فقولك:" حملت الجبل، وشبت ماء البحر، ونحوه "وأما المستقيم القبيح فأن تضع اللفظ في غير موضعه نحو قولك: قد زيدا رأيت، وكي زيد يأتيك، وأشباه هذا. أما المحال الكذب فأن تقول: سوف أشرب ماء البحر أمس (عثمان، ص 52).
من خلال مقولة سيبويه نستفيد ونستنتج بأن الاستقامة شرط في تقويم العبارة وموافقتهما للصحيح من الكلام فهو يقدم لنا درسا في ضرورة السلامة اللغوية والوظيفية والتواصلية التي يؤديها وذلك من خلال الملكة التي اكتسبها من استقامة الكلام وسلامته.
عند ابن جني (ت392)
جاءت نظرته للملكة مبنية على مفهومه للنحو قائلا عنها: "انتحاء سمت كلام العرب في تصرفه من إعراب وغيره، كالتثنية والجمع والتحقير والتكسير والإضافة والنسب والتركيب وغير ذلك، ليلحق من ليس من أهل اللغة العربية بأهلها في الفصاحة فينطق بها وإن لم يكن منهم، وإن شد بعضهم عنها ردا به إليها" (ابن جني، 1912، ص 42).
بمعنى أن تحصيل الملكة يكون من خلال تتبع كلام العرب ونحوهم وصرفهم وحتى وإن لم يكن ينتمي لتلك البيئة العربية، وهذا لا يكون في نظر ابن جني إلا عن طريق السماع الذي اعتبره من أهم الوسائل التي تعمل على اكتساب المتكلم للملكة.
وهو أساس القياس (السيوطي، 2002، ص 29) حيث يقول في هذا الصدد: "ومعاذ الله أن ندعي أن جميع اللغة تستدرك بالأدلة قياسا، لكن من أمكن ذلك قلنا به، ونبهنا عليه ممن نحن له متبعون وعلى مثله وأوضاحه حاذون" (السيوطي، 2002، ص 42).
إن نظرة العرب القدامى للملكة لا يوجد فيها اختلاف كبير ولاسيما من حيث التسمية ف سيبويه ينظر للملكة من باب استقامة الكلام والسلامة اللغوية، أما ابن جني فقد ربط مفهوم الملكة بالنحو، وكذا تتبع كلام العرب عن طريق السماع والقياس.
ونستنتج مما سبق ذكره أن كل من سيبويه وابن جني اشتركوا في ربط النحو والدلالة في اكتساب الملكة، والقدرة على التحكم في السلامة اللغوية والوظيفية التي تؤديها هذه الملكة وهي تحقيق التواصل.
الملكة عند اللغويين العرب المحدثين
لقد تناول الباحثون اللغويون العرب الملكة بأنها ذلك الرصيد اللغوي الذي يكتسبه الإنسان في أدنى مراحل تعلمه، وينميه فيما بعد حتى يصبح مهارة مكتسبة ثابتة وصحيحة يستعملها فيما بعد فيما يحتاج في عملياته التواصلية مع الغير بصورة سليمة وعفوية.
= عند عبد الرحمان الحاج صالح: يرى أن اكتساب الملكة اللغوية يقتضي اكتساب الملكة اللغوية النحوية والملكة التبليغية في آن واحد فالجمع بين اكتساب الملكتين يسهم بشكل كبير في اكتساب اللغة، ويشير الحاج صالح إلى نوع من التدرج في اكتساب الملكة اللغوية الأساسية أي القدرة على التعبير السليم العفوي، وهذا ما يؤكد عليه الحاج صالح قائلا:" ينبغي أن تكون الظروف التي يقع فيها تعليم اللغة أقرب ما يمكن من الظروف الطبيعية والأحداث العادية التي يعيشها الطفل أو المواطن المغترب عند اكتسابهما للغة محيط بهما".فكلما شعر المتعلم بأنه في جو طبيعي لاكتساب اللغة كلما سرع ذلك لاكتسابه لملكتها (بيناني، 2019، ص 241).
الملكة اللغوية عند الغربيين
= عند فرديناند دي سوسير
اللغة عنده بمثابة الملكة اللغوية التي ربط اكتسابها بالمؤسسة الاجتماعية لدى المتكلم وهذا ما أقر به سوسير في كتابه محاضرات في الألسنية العامة: "اللغة هي مجموعة من الاتفاقات الضرورية التي وضعها الهيكل الاجتماعي ليسمح باختيار أو استخدام ملكة الكلام لدى الأفراد ". فهي إذن مجموعة عناصر وبنى تنتمي إلى مجموعة لسانية توظفها على عكس اللسان، فإن اللغة ليست فطرية وإنما تكتسب وتلقن، فالملكة عند دي سوسير تكتسب من الوسط الاجتماعي، وهذه الملكة تمكن المتكلم من القدرة على الكلام.
الملكة اللسانية من المنظور الخلدوني
تقوم نظرة ابن خلدون اللسانية المتعلقة بمفهوم الملكة على مجالين لتحديدها:
الملكة اللسانية العامة: وهي ملكة متعلقة بالبعد الذهني، ومدى قدرة المتكلم على تكوين هذه الملكة اللسانية باعتبارها جهازا نظريا يهتم بعلاقة الإنسان بالوجود، وبما أن الإنسان "مدنيا بالطبع" إذ لابد له من ملكات يستغلها في معاشه وتعامله مع الآخرين، فهي بمثابة جهاز نظري يزود به الإنسان حتى يتمكن من الوجود والتواصل (الميساوي، 2013، ص 159).
الملكة اللسانية الخاصة: ينبني تكوين الملكة اللسانية الخاصة على ثلاثة مبادئ وهي مبدأ السماع، ومبدأ التكرار ومبدأ الترسيخ.
مبدأ السماع: يعد السماع أبو الملكات في نظر الفكر الخلدوني، ويفضله عن المكتوب ويلتقي في هذه الرؤية مع عديد الدراسات اللسانية الحديثة، إذ بالسمع يتمكن المتكلم من نقل اللغة نقلا مباشرا، ولا يحتاج إلى طرق في فك رموز اللسان، بل يقتصر على الفهم والتأويل، وهما أساس العملية التخاطبية.
وقد استمد ابن خلدون مبدأ السمع من نظره في مفهوم التاريخ، إذ أن التاريخ العربي الإسلامي في جزء كبير منه كان قد بني على المشافهة، وهي أفصح وأصفى بالنسبة إلى اللسان العربي، فيعتبر أن التدوين وليد فساد اللغة، كما ركز ابن خلدون على مبدأ السماع في تكوين الملكة اللسانية، لأن السماع يعبر عن جودة الملكة وصفائها، ويرى أن على قدر جودة المحفوظ والمسموع تكون جودة الاستعمال من بعده، ثم إجادة الملكة من بعدها (ابن خلدون، المقدمة، 2004، ص 542).
يمثل السمع والحفظ قاعدتين أساسيتين في تكوين الملكة، فهما شرطان أساسيان لقيامها والحفاظ على جودتها، إذ كلما كان السمع والحفظ جيدين استطاع المتكلم أن يتمكن من الحصول على ملكة لسانية جيدة، إذن فالملكة الخاصة صناعة يقوم بها المتكلم حسب مدى قدرته على السماع والحفظ، وهي تختلف من متكلم إلى آخر حسب تكوينه الاجتماعي والعلمي، ولذلك فهي تخص المهارات الفردية للإنسان عكس الملكة العامة التي هي شأن إنساني يتعلق بتركيبة الإنسان الفيزيولوجية، وقدرته الذهنية على تحصيل المعارف.
مبدأ التكرار: يقوم هذا المبدأ على الحفظ، وهو مبدأ تعليمي نابع من الثقافة العربية الإسلامية، ولقد رأى ابن خلدون في إطار نظرة شاملة إلى علم التاريخ أن مبدأ التكرار مفيد في تكوين الملكة اللسانية وبنائها بناء متينا، تقاس عليه جودتها وصمودها، ولذلك اعتبر أن "هذه الملكة كما تقدم إنما تحصل بممارسة كلام العرب وتكرّره على السمع والتفطن لخواص تراكيبه" (ابن خلدون، المقدمة، 2004، ص 529).
وقد اشترط ابن خلدون في هذا المبدأ المخالطة وكثرة الاستعمال والمخاطبة إذ يقول: "وإنما تحصل هذه الملكة بالممارسة وتكرار لكلام العرب" (ابن خلدون، المقدمة، 2004، ص 530)، وهو ما اعتبرته الدراسات اللسانية الحديثة مبدأ مهما في تكوين المعارف الإنسانية المشتركة، فهو أساسي في عملية الإنتاج والفهم والتأويل باعتبارها مصادر أساسية في عملية التواصل الإنساني، فالنسج على منوال مشترك بين المتخاطبين يمكّن المتكلم من بناء ملكة لسانية ثرية بمصادرها الاجتماعية.
مبدأ الترسيخ: يرد مبدأ الترسيخ في تكوين الملكة اللسانية نتيجة لمبدأي السماع والتكرار، ولا يمكن للملكة اللسانية أن تستقر وتؤدي معناها، ولذلك فإن "حصول ملكة اللسان العربي، إنما هو بكثرة الحفظ من كلام العرب حتى يرتسم في خياله (يعني المتكلم) المنوال الذي نسجوا عليه تراكيبهم فينسج هو عليه، ويتنزل بذلك منزلة من نشأ معهم وخالط عباراتهم في كلامهم حتى حصلت له الملكة المستقرة في العبارة عن المقاصد على نحو كلامهم (ابن خلدون، المقدمة، 2004، ص 125).
ويبلغ مبدأ الترسيخ مداه حتى يصل إلى الجبلّة والطبع غير أن ابن خلدون يشترط في ذلك شروطا تبدو منطقية وعلمية يتمثل أبرزها في الحذق التام للمبادئ والقواعد التي قامت عليها الملكة، وذلك " أن الحذق في العلم والتفنين فيه والاستيلاء عليه، إنما هو بحصول ملكة في الإحاطة بمبادئه وقواعده والوقوف على مسائله واستنباط فروعه من أصوله، وما لم تحصل هذه الملكة لم يكن الحذق في ذلك الفن المتناول حاصلا " (ابن خلدون، المقدمة، 2004، ص 396). وعليه فإن مبدأ الترسيخ يتطلب الحذق والمهارة والسبق في حصول الملكة، فالملكة اللسانية مشروطة بقيود اجتماعية، وقيود لسانية تتأسس على السماع والحفظ والتكرار.
الملكة الكامنة والملكة الحاصلة في الفكر الخلدوني
ويقصد بالملكة الكامنة تلك الموجودة بالقوة في الذهن، وعلى أنها القوة النظرية في الدماغ، وهي التي تمكّن الإنسان من التعبير عن مقاصده. أما الملكة الحاصلة فيقصد بها تلك القوة التي تخرج إلى الفعل. وبالتالي يكون مفهوم الملكة كمونا بالقوة يولد وجودا بالفعل. ويتجلى تصور ابن خلدون لمفهومي الكمون والحصول من حديثه عن صناعة الشعر، فالملكة الكامنة صورة ذهنية للتراكيب المنتظمة كلية، " وإذا أراد الشاعر تحقيق ملكة الإبداع فإن ذهنه ينتزع من أعيان التراكيب الوافية بمقصود الكلام" (ابن خلدون، المقدمة، 2004، ص 436)، فالملكة الكامنة تراكيب كلية من اللغة، والملكة الحاصلة انتزاع تراكيب تناسب مقاصد المتكلم وتراعي ملكة اللسان العربي.
العوامل المؤثرة في اكتساب الملكة اللسانية
إن الملكة اللسانية كأي صفة إنسانية عرضة لأحداث تؤثر فيها وقد توسع ابن خلدون في حديثه عن التغيير الممكن حصوله في الملكة اللسانية خلال مسار اللغة وحياتها في المجتمع، وقدر سبب هذا الفساد أو التأثر إلى عوامل غير لغوية وإنما ناجمة عن أحد الأمور الآتية:
الاختلاط: وهو عامل من عوامل التطور اللغوي الذي يصيب اللغة وقد عبر عنه بعض الباحثين بمصطلح "تسمم اللغة" (ظاظا، 1990، ص 133). ويبدأ ذلك بسرب رشح من الدخيل من لغات أخرى تحتاج إليه اللغة فتتقبله بل تحسن مع تعاطيها له في البداية بمزيد من الانتعاش والقوة والنشاط يشجعها على تقبل جرعات أكبر فأكبر من هذا الدخيل. وهذا الأمر، حسب ما يرى ابن خلدون، كان سببا واضحا في فساد الفصحى لدى العرب، إذ يقول: " ثم فسدت هذه الملكة لمضر بمخالطتهم الأعاجم وسبب فسادها أن الناشئ من الجيل صار يسمع في العبارة عن المقاصد كيفيات أخرى غير الكيفيات التي كانت للعرب فيعبر بها عن مقصوده لكثرة المخالطين للعرب من غيرهم ويسمع كيفيات العرب أيضا فاختلط عله الأمر وأخذ من هذه وهذه فاستحدث ملكة وكانت ناقصة عن الأولى وهذا معنى فساد اللسان العربي" (ابن خلدون، المقدمة، 2004، ص 633).
من خلال حديث ابن خلدون السابق عن فساد الملكة اللسانية نجده يخص العربية دون غيرها من اللغات بهذا الرأي والذي أعاده في مجمله إلى الاختلاط بالأمم الأخرى، وهذا الاختلاط كان نتيجة حتمية بعد مجيء الإسلام وانتشاره بين الأمم ودخول غير العرب إلى الإسلام ومخالطتهم أدت في النهاية إلى فساد الملكة اللسانية عند العرب.
يقول: "فلما جاء الإسلام وفارقوا الحجاز لطلب الملك، الذي كان في أيدي الأمم والدول وخالطوا العجم تغيرت تلك الملكة بما ألقى إليها السمع من المخالفات التي للمتعربين من العجم والسمع أبو الملكات اللسانية" (ابن خلدون، المقدمة، 2004، ص 624).
وقد أولى ابن خلدون هذا الأمر عناية شديدة في مقدمته ولذلك لم يقص الحديث في موطن واحد منها وإنما تكرر هذا الرأي في غير موطن فيقول:" وإنما وقعت العناية بلسان مضر، ملا فسدت بمخالطتهم الأعاجم حيث استولوا على ممالك العراق والشام ومصر والعرب، وصارت ملكته على غير الصورة التي كانت أولا فانقلبت لغة أخرى" (ابن خلدون، المقدمة، 2004، ص 634).
يقرر ابن خلدون أن الاختلاط سبب في الابتعاد عن الملكة الصحيحة وكذلك هو سبب في نشوء ملكة جديدة حاصلة من امتزاج ملكتين أو أكثر، إذ يقول: "وأما أنها أبعد عن اللسان الأول من لغة هذا الجيل، فلأن البعد عن اللسان إنما هو بمخالطة العجم، فمن خالط العجم أكثر كانت لغته عن ذلك اللسان الأصلي أبعد، لأن الملكة إنما تحصل بالتعلم وهذه الملكة ممتزجة من الملكة الأولى التي كانت للعرب ومن الملكة الثانية التي للعجم" (ابن خلدون، المقدمة، 2004، ص 637).
يقرر ابن خلدون أن اللغة العربية من خلال انتشارها في البلدان التي دخلت تحت الحكم الإسلامي، قد تفاعلت مع اللغات المحلية وقد نشأ عن هذا التفاعل والاختلاط ملكة لسانية أفادت بشكل أو بآخر من اللغات المحلية.
ونشأ كذلك نتيجة هذا الاختلاط تغير بعض أحكام اللغة الصوتية والإعرابية فقد هذا الإعراب بصورة عامة لكن بقيت دلالة الألفاظ على أصلها إذ يقول ابن خلدون في هذا الصدد: "ثم فسد اللسان العربي بمخالطتها في بعض أحكامه وتغير أواخره وإن كان بقي في الدلالة على أصله وسمي لسانا حضريا في جميع أمصار الإسلام" (ابن خلدون، المقدمة، 2004، ص 638)، وما أطلق عليه ابن خلدون مصطلح (اللسان الحضري) الناشئ عن الامتزاج بين اللغات هو ما يسمى عند المحدثين بالعاميات الإقليمية.
العجمة: الأعاجم صنفان: صنف أجنبي تماما عن العرب فيما نسبه لا يعرف العربية فهو لا يفصح، وصنف آخر مولد، وهو أيضا في عداد العجم، عند القدماء وإن أفصح، وقد كان لعلماء اللغة الأقومين رأي في كلتي الفتين السابقتين، حيث ربطوا بين (العنصر واللغة) ربطا قويا فاللغة للعربي صريح النسب، وهي لغة أصلية موثوق بها، أما الأعجمي أو المولد فلغته مصنوعة مختلطة غير أهل للثقة.
وقد نالت هذه المسألة أهمية كبيرة عند ابن خلدون في مقدمته وهي الملكة اللسانية وعوامل فسادها، حيث إن الأعاجم الداخلين في اللسان العربي، كانت لهم لغة أخرى وهم مضطرون للنطق بالعربية استعان بمن يخالطونهم من العرب وهم أيضا في هذه المرحلة المتأخرة لا يملكون ملكة اللسان المطلوبة، فقد ذهبت عنهم وبعدوا عنها، وإذا لجأ هؤلاء الداخون في اللسان العربي إلى تحصيل الملكة بالاستعانة بالقوانين اللغوية (المسطرة في الكتب) فإنهم لا يحصلون على إجادة اللسان بل يحصلون على أحكامه فقط (ابن خلدون، المقدمة، 2004، ص 641).
أما السبب الآخر لقصور ملكة هؤلاء الأعاجم فيتمثل في أن النفس البشرية لا تتسع إلا لملكة واحدة وهي في الغالب لما يسبق إلى النفس من الملكات وإن حصل أكثر من ملكة تبقى ناقصة مخدوشة، ويمثل ابن خلدون على ذلك بشعر بعض الفقهاء والنحاة الذي سبقت إليهم ملكة أخرى غير الشعر، وكيف أن المستحدث من هذه الملكات يبقى دون المستوى المطلوب كما هو حال جميع الملكات الصناعية على الإطلاق، واعتبر مثله في اللغات فإنها ملكات اللسان وهي بمنزلة الصناعة فيقول: " وقد تقدم لنا أن اللغة ملكة في اللسان وكذا الخط صناعة ملكتها في اليد فإذا تقدمت في اللسان ملكة العجمة صار مقصرا في اللغة العربية لما قدمناه من أن الملكة إذا تقدمت في صناعة بمحل فقلّ أن يجيد صاحبها ملكة في صناعة أخرى" (ابن خلدون، المقدمة، 2004، ص 624).
خاتمة
يبدو من خلال هذا البحث أن ابن خلدون قد تميز عمّن سبقه، فلم يقتصر دوره على الفهم والتلخيص، بل على توظيف الملكة في كتاب التاريخ وتعليل تغيراته، كما نجد بعض التوافق في تحليل الملكة بينه وبين سابقيه ومعاصريه.
كان للعلماء العرب السبق في التأسيس لمصطلح الملكة اللسانية، ويعد ابن خلدون الرائد الأول لهذا المصطلح. وملكة اللغة هي التي تحدد لسان كل قوم، وهي فطرية تولد مع الإنسان. والملكة تكتسب ولا تنشأ بالطبع. وتحصل الملكة بالسماع. وتتأثر الملكة الأولى بالملكات التي تلحقها، فتؤثر في درجة إجادتها.
الملكة اللسانية إلمام بالقوانين والمبادئ، وهي صفة راسخة في النفس ينبغي أن تكون مستحكمة ومستقرة لكي يتاح للإنسان القيام بالأفعال العائدة إليها وإتقانها. وترتقي الملكة بالمحفوظ الجيد، وتضعف بالعجمة.
إن الأخذ بقاعدة ابن خلدون في تحقيق المَلَكَة اللّسانيّة لدى الفرد؛ وتعلّم العربيّة سيكون لها شأن في تحقيق الرّقي بمنظومة العمليّة التّعليميّة التّعلّميّة، والمساهمة الفعّالة في تعليم اللّغة العربيّة سواءٌ أكان ذلك التّعليم للنّاطقين بها أو للنّاطقين بغيرها.
= = =
قائمة المصادر والمراجع
أبو الفتح عثمان بن جني. (1912). الخصائص. مصر: دار المكتبة المصرفية.
أبو نصر الفارابي. (1982). كتاب الحروف. بيروت: دار المشرق.
أبي بشر عمر بن عثمان. (بلا تاريخ). الكتاب. القاهرة: مكتبة الخزناجي.
أحمد بيناني - مريم بيناني. (2019). دور عبد الرحمان الحاج صالح في تطوير تعليم اللغة العربية. مجلة أفاق علمية، 241.
أحمد مختار عمر. (2008). معجم اللغة العربية المعاصر. القاهرة: عالم الكتب.
البشير عاصم المراكشي. (2012). تكوين الملكة اللغوية. بيروت لبنان: مركز نماء للبحوث والدراسات.
جلال الدين السيوطي. (2002). الاقتراح في أصول النحو. دمشق: دار البيروني.
حسن ظاظا. (1990). اللسان والإنسان. دمشق: دار القلم للطباعة والنشر.
خليفة الميساوي. (2013). المصطلح اللساني وتأسيس المفهوم. الرباط: دار الأمان.
عبد الرحمان ابن خلدون. (2001). مقدمة ابن خلدون. لبنان: دار الفكر للنشر والتوزيع.
عبد الرحمان بن محمد بن خلدون. (2004). المقدمة. بيروت: دار الأرقم للطباعة والنشر.
عبد الرحمان بن محمد بن خلدون. (2006). مقدمة ابن خلدون. صيدا لبنان: المكتبة العصرية.
علي بن محمد السيد الشريف الجرجاني. (1427هـ). معجم التعريفات. دار الفضيلة للنشر والتوزيع.
فاخر عاقل. (1982). معجم علم النفس. بيروت: دار العلم للملايين.
مجمع اللغة العربية. (2004). المعجم الوسيط. القاهرة.
محمد بن مكرم بن منظور. (2005). لسان العرب. بيروت لبنان: دار صادر. العنوان: من صناعة العربية إلى ملكتها في الفكر الخلدوني.
Ferdinand de sousure (1916): course de linguistique général , wade baskins translation, p. 25-419.