عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

مختارات: هشام البستاني

السفينة


القصة أدناه منشورة في مجموعة قصصية للكاتب عنوانها "شهيقٌ طويلٌ قبل أن ينتهي كلّ شيء". الناشر: الكتب خان، مصر، 2018.

.

إلى فيصل درّاج، مُبحرًا في هذا العالم، مُتقيّئًا عليه؛

وإلى جبرا إبراهيم جبرا، صاحب السّفينة الأولى التي لا تُشبه هذه.

.

هشام البستانيعندما قالوا لنا إنّنا سنركب البحر إلى الإسكندرية، لم أتصوّر أن الأمر سيكون بهذا السوء، ولا تصوّره رجال ونساء كثر جاؤوا مُتأنقين ببذلات وفساتين رسميّة إلى المناسبة.
حال وصولي تبيّن الاختلال الأوّل، إذ كانت السّفينة من النوع المخصّص لنقل المواشي، ولم أكن لأحتج كثيرًا، فالتّذكرة التي ابتعتها كانت بتراب النّقود وأنا هاربٌ من مذبحة. العام هو 1976، والمذبحة هي تلّ الزّعتر، والميناء حيث ترسو وسيلة نقلنا: بيروت.

ما استغربته حقًا هو موافقة أولئك البيارتة -المدروزين على آخر طَرْز- على الصعود والاحتشاد واحدًا إثر آخر على ما صار مساحة مكتظّة ببشرٍ ملوّنين لا يكفّون عن الحديث الذي تحوّل إلى صراخٍ فزعيقٍ عندما تحرّك السطح العائم. ربّما كانوا يظنّون أن ثمّة غُرفًا لهم في الأسفل، ربّما كانوا يظنّون أنّها ستكون رحلةً قصيرة وأن وسيلة نقلهم هي بلكونة عائمة يستمتعون فوقها بالشمس والبحر والهواء الطلق، لا أدري. لكنّهم صعدوا كالقطيع، وكان ما كان.

الضغط لا يُطاق، والضجيج لا يُطاق، وما توقّعته غرفة يشاركني بها أربعة أشخاصٍ أو خمسة، تبيّن أنه ساحة تلتصق بها عشرات الأجساد دون فسحة للتّنفس. لا أدري ما الذي دفعني للنّظر إلى أعلى لأجد (حتى هناك..) ولدًا متشعلقًا فوق عمود إنارة له في وسطه ما يشبه المسطبة الحديديّة تكفي مؤخرة واحدة هي مؤخرّته. أشّرت له بكفيَّ مفتوحتين فهزّ رأسه. حرّكت كفيّ مرّتين فهزّ رأسه. ثلاثًا، أربعًا، لا فائدة. أما عندما حرّكتهما خمس مرّات، وضيّقت عينيّ، وعبستُ، نزل بسرعةٍ فناولته خمسين ليرةً هي قيمة الاتفاق وصعدت أنا، ولم أنزل إلا بعد يومين تاهت فيهما السّفينة في البحر بعد أن ثمل الرّبان.

يختلف منظورك للعالم حين تكون معلّقًا فوق نقطة صغيرة ومحدّدة، تمتدّ حولك صحراء زرقاء لا نهائية، ويحتشد تحت قدميك عدد كبير من البشر. أما حين يحلّ اللّيل على تلك النّقطة، لا يبقى من المنظور سوى المساحة التي تُضيئها لمبة العمود من صفحات رواية كنت أحضرتها معي للقراءة، ومساحة شبيهة تصنعها همهمات أشخاص تحتي لا أراهم جيّدًا، والرائحة النفّاذة لقيءٍ كان بدأ منذ تحرّكت السّفينة وما يزال مستمرًا وإن بتواتر أقلّ.

كانت تلك أول مرّة لي أركب فيها البحر. وبحذر المرّات الأولى واحتياطاتها، كنتُ سألتُ من توسّمت بهم المعرفة لإعانتي على طرد منغّصات الرحلة ومشاكلها التي لطالما قرأت عنها أو شاهدتها في الأفلام.

"خذ معك أقلّ القليل من المتاع الضروريّ، واصعد بمعدةٍ فارغة"، قالوا لي، "وليكن قوتك القليل المتقشّف. هكذا تظل خفيفًا سريع الحركة، ولن يضربك الغثيان الشّهير".

وفعلت، وكنت محظوظًا، فما أن بدأ المركب يتمايل في عرض البحر والنّاس في الأسفل تميل معه، حتى تقيّأت إحداهنّ (وكانت للحقّ جميلة وأنيقة) في المساحة المتاحة بين قدميها. ولك أن تتخيّل –لضيق المساحة المذكورة- أن قيئها قد انفلش على قدميها هي نفسها وعلى أقدام المجاورين. كان مثل هذا يحدث مرارًا في المساحة التي أستطيع رصدها أسفل منّي، وخمنّتُ استنادًا إلى حركة بعض الأجساد البعيدة التي كانت رؤوسها تختفي لبعض الوقت، أن الأمر يحدث أيضًا في الأماكن الأبعد.

لحظاتٌ ثقيلة مرّت عندما تقيّأَ رجل كُباريٌّ فجأةً على آخر لا يقلّ عنه مهابة يقف إلى جانبه. نفض هذا الأخير محرمته القماشيّة ليمسح ما تيسّر، ثم ما لبث أن أفرغ ما بجوفه على الرّجل الأوّل؛ نوعٌ من تسديد الحساب الذي حدسته متعمّدًا مقصودًا.

وكما العدوى تسري في الجمع عندما يتثاءب أحدهم، سرت عدوى القيء في الأسفل: أصواتُ انقلاب المعدة يلحقها لهاثٌ، ثم مشهد الكتل اللّزجة على الأجساد والأرض تلحقها الرائحة.

عندما حلّ الظّلام، استلقت الأجساد ونامت لصق بعضها طافيةً فوق بحرين ثانيهما أكثر لزوجة وكثافة من الأوّل.

كسرة خبز وقطعة جبن ورشفة ويسكي، تلك كانت وليمتي على العشاء، أعدت المتبقّي منها إلى حقيبتي الصّغيرة الوحيدة المعلّقة بجانبي على نتوء يشبه المسمار، وتحوي أيضًا رواية –ذكرناها سابقًا- وكلّ ما أملك من نقود وأوراق رسميّة، وقميصًا وبنطالًا إضافيّين، وعلبة مناديل ورقيّة.

بعد أن همد الجميع واسترسلت في القراءة، دَهَمني إحساسٌ أخذت شدّته بالارتفاع المتدرّج: ذلك الضّغط اللّئيم أسفل البطن. حاولت في البداية أن أتجاهله بالتّشاغل بمحاولة ملاحظة الأجساد وحركتها أسفل مني، لكن مع مرور الوقت صار الأمر أشدّ وطأة وأكثر إلحاحًا، أمّا فكرة النزول من موقعي فمُستحيلة: من يضمن أنّني سأجده خاليًا حين أعود؟

المشكلة أنّني كلّما ازددت بتقليب الأمر والتفكّر فيه، زاد الانحشار، حتى عزمت أمري فوقفت على المسطبة المعدنيّة حيث كنت أجلس، ولففتُ الضوء بالبنطال والقميص الإضافيّين فانطفأ أغلبه ولم أعد أتبيّن أحدًا في الأسفل (الأمر الذي أقنعني بأنهم لا يتبيّنونني في المقابل)، ثم حرّرت الزرّ والسحّاب وأنزلتُ لباسي الداخلي وألصقت فتحة قضيبي بالمعدن الجانبيّ للعمود وأرحتُ الضّغط وارتحت.

سار البول (الذي تخيّلته برتقاليًا عكرًا) كنبعٍ جبليٍّ لطيفٍ شحيحٍ إلى القاع، وكنت أحضّر نفسي لتبريرٍ ما، لاعتذارٍ ما، لكن أحدًا في الأسفل لم يُصدر صوتًا. ربما صار ذاك السائل الدافئ جزءًا من حلم أحدهم.

بعد أن تنفّست عميقًا، ومسحت جوانب العمود ومقعدي المعدنيّ وحذائي بالمناديل الورقيّة التي ألقيتها في الهواء المجاور، وبعد أن فككت قميصي وبنطالي الإضافيّين وأعدتهما إلى الحقيبة؛ جلست للقراءة مرّة أخرى ثم نمت جالسًا فلم يوقظني سوى صراخ رجل أسفل مني، بعد الفجر بقليل، وهو يشتمني بديني ودين أجدادي؛ إذ أصابه الكتاب في رأسه. ووسط محاولات المحيطين تهدئته، صار ينتزع الصّفحات ويرمي بعضها في الهواء، ويعرض بعضها الآخر على من يريد مسح مؤخرته بعد التغوّط في البحر من طرف المركب. هكذا لم يعد لديّ شيء أقرؤه.

فكّرت في كل هذا الآن، بعد أربعين عامًا، ونحن ما زلنا ضائعين في البحر المتوسط ذاته بعد أن خرجنا من منطقة نائية غرب الإسكندرية على سفينة تشبه تلك مع بعض الفروقات: البشر المتراصّون ليس بينهم مُتأنّق واحد، فيهم عدد لا بأس به من الأطفال، والربّان (الذي لم يكن ثملًا على الإطلاق) تبخّر في أثناء الليل ولم نجد له أثرًا في الصباح، المحرّك لم يعد يعمل، والمركب يسير هكذا، بقوّة الموج وفي طريقه.

لم يكن ثمّة عمود إنارة، ولم يبقَ فيّ شبابٌ يُعينني على صعوده إن توفّر. في حقيبتي (وبحسب النّصيحة القديمة) روايةٌ وخبزٌ وجبنٌ وربعيّةُ ويسكي، وكلُّ نقودي وأوراقي، وقميصٌ وبنطالٌ إضافيان، وعلبةُ محارم ورقيّة، هي متاعُ الهارب من المذبحة. العام هو 2016، والمذبحة هي حلب.

بيدي هاتف أقمار صناعيّة مشحون، ورقم أعطاني إيّاه الربّان المفقود ونحن على البرّ. "رقم خفر السّواحل اليونانيّ"، قال لي، "عندما يجيبونكم فأنتم في أمان".

أجابوني قبل ساعات، وتحدّثت معهم بإنجليزيّتي الجيّدة، لكن أحدًا لم يظهر في الأفق أو السماء.

ولم يكن سكون البحر كفيلًا بمنع إحداهنّ من التقيّؤ بين قدميّ أنا بالذات.

= = =

غلاف مجموعة قصصية

D 1 كانون الأول (ديسمبر) 2022     A هشام البستاني     C 0 تعليقات