مختارات: نادرة بركات الحفار - سورية
أفكار انتهت مدة صلاحيتها
بعينين زائغتين، ووجه متبرّم متورّم، نفث دخان سيكارته، زمّ شفتيه، قطب حاجبيه، ألقى جسده على المقعد، وشرد بأفكاره، حزيناً، يائساً، تعساً.
هي ذي تاسع مقالة يرفضون نشرها في صحيفة الحقيقة المرّة يعيدونها إليه مرفقة بالشكر، وبتعليق كاريكاتوري، يحطّ من شأن قلمه، وقدر كتابته، وقمة إبداعه.
لماذا؟ لماذا تُلقى مقالاته في سلّة المهملات، وتحظى مقالات غيره بالنشر؟ لماذا يتجاهلون آراءه وأفكاره، وهو الذي يكتب من ينبوع لا ينضب، وبحر لا يجفّ، بأسلوب رقيق أنيق، ولغة معبّرة، وألفاظ جزلة، وأهداف سامية لا يعكّر سموّها شائبة.
في أول مقالة قدّمها إلى صحيفة الحقيقة المرّة تناول الوضع السياسي بحماسة، وجرأة، وصدق، واندفاع، قام بتشريح جسد الأمة بمبضع الحقيقة العارية من كل زيف أو نفاق، مندفعاً بحب الوطن، وعشق الأرض، والانتماء للأمة.
جاءه الردّ بالرفض، لعلّة عدم الاختصاص، طالبوه بعدم التدّخل فيما لا يعنيه، للسياسة أهلها، وناسها، كتّابها، أصولها، وفروعها وأسرارها، بإمكانك طرق كلّ الأبواب، باستثناء الباب السياسي المغلق دوماً على صفحات الحقيقة المرّة.
لا بأس، سوف يقلب دفّة الأفكار ويتناول في مقالته الثانية الوضع الاجتماعي، والقضايا الاجتماعية التي لا تقل أهميتها عن أهميّة السياسة.
تحت عنوان نبذ العادات التي انتهت مدّة صلاحيتها، طرق أبواب هؤلاء الذين يقولون ما لا يفعلون، والذين يفعلون ما لا يدركون، أشار إلى هؤلاء الذين يجمعون الثروات، يعبثون بالمقدّرات، يوقّعون الصفقات، يرتكبون الأخطاء والهفوات، تحت شعار الازدهار المدني، والارتقاء الفكري، والإصلاح الاقتصادي والنفساني، والاكتفاء الذاتي الحاضر والآتي.
صفّق لنفسه راضياً، مطمئناً، خيّل إليه أن مقالته ستنال تقديرهم واستحسانهم، لكن آماله سرعان ما خابت بكتاب الرفض المغلّف بالغضب والامتعاض.
إن إشارتك الخفية إلى هؤلاء الذين ينعمون في بروجهم العاجية، سوف تنتهي بك إلى ليالٍ سرمدية، لأنهم سوف يدركون أن أصابع الاتهام تعنيهم، وقد يفهم من يفهم منهم، أنها تقصده شخصياً، فتقع الواقعة، وتليها الصاعقة، وتغلق الصحيفة بالشمع الأحمر، وتتشرّد أكثر من عشرين عائلة، لذا تعتذر الهيئة المكلّفة عن نشر مقالكم، راجية منكم ضبط أحلامكم.
موهبته تقتل علناً، هناك من يثقب صفحة خياله، برصاص الخوف والهزيمة، يطالبونه علناً بهجر القلم، وتمزيق الأوراق دون مبالاة بأفكاره التي تغلي في رأسه، تثور في دماغه، توشك أن تنفجر على الورق من تلقاء نفسها.
ربما كانوا على حق، لماذا لا يدع الحاضر يرمّم نفسه، ويبحر في التاريخ، لماذا لا يسافر عبر العصور، إلى مدن وعوالم اقتحمها أجدادنا، وبسطوا سيطرتهم عليها، في أزمان ذهبيّة خلت.
لماذا لا يستعيد قصص الوغى والمعارك والانتصارات والفتوحات؟ هل بوسعهم التعليق على مثل هذه المقالة؟ هل بإمكانهم إعادتها مع الرفض؟
لقد فعلوا، لعلّة أن أحداث التاريخ تعرّضت للتبديل، والزيادة والنقصان، وأن انتقالها من راوٍ إلى آخر، أوقع بعضها في قفص الخرافات، وأن انفعالاته، وتعليلاته، قابلة للحقيقة والخيال، لأن اسمه لم يدرج في قائمة المؤرخين، واستطرد المعلّق "أما آن لنا أن نتوقف عن التغني بالماضي، وأن نسلّط الضوء على الحاضر، بكل تجلياته وانتصاراته".
شعر بالخيبة والهزيمة، أوشك أن يفقد الأمل في ولادة إبداعه، لولا أن اقتحمت رأسه فكرة جديدة، صعد بها كمظلةٍ إلى السماء.
هذا العالم الأزرق الغامض، ماذا يخفي وراء أقماره ونجومه؟ وتلك الكواكب الناريّة المضيئة، أي أسرار ترقد في أعماقها؟ وذاك الخطر الذي يتهدّد كوكب الأرض، تراه من ثقوب في طبقة الأوزون، أم ثقوب سماويّة، سقطت عليها ذرات الشمس المحرقة؛ إلى أي عالم نمضي؟ وتلك الأطباق الطائرة. ترسل إلينا إشارات خفيّة مجهولة، لتعلن عن وجود بشري، في بقعة ما، أم تراها انعكاسات فضائية، ذات أبعاد خطيرة، ومريبة.
زلزل الردّ كيانه، دمّر أحاسيسه، فقد رُفضت المقالة لعلّة هامة، وهي أنها تثير الذعر في قلوب الناس، فتصبح السماء محور اهتمامهم، والشمس قبلة عيونهم، فترتفع الرؤوس، إلى الأعلى، بحثاً عن الأطباق الطائرة، التي قد تكون مجرّد أجهزة تنصّت وتجسس، تستعين بها بعض الدول العظمى، من قبيل الترصّد والكشف عن الأسرار التي لا تعنينا من قريب أو بعيد.
مزّق كتاب الرفض، وراح يمشي في الطرقات هائماً، يبحث عن فكرة تتلاءم مع عقولهم ومتطلّباتهم، وترضي أمزجتهم وأهواءهم.
صكّ أسنانه حين قدّر لـه المرور أمام الملعب الرياضي، راودته فكرة الرياضة، خيّل إليه أنها موضوع الساعة، وليس أروع من أن يكتب عن ضرورتها وفائدتها، وتأثيرها الإيجابي على الجسد والروح.
الأطباء يدعون مرضاهم إلى ممارسة الرياضة، والناس دون استثناء يعشقون المباريات الرياضية، على الرغم من أنهم يختلفون، يثورون، يتعاركون، وقد يكسرون المقاعد، وتنتهي المباراة بضحايا، قدّر لـهم الموت خنقاً، تحت أقدام المهلّلين والمصفّقين، لم لا؟ وأجهزة الرياضة تباع بأسعار باهظة، يتناولها التلفاز بالدعاية اليوميّة، إضافة إلى إنشاء عشرات المراكز الرياضيّة التي تعني بالتمرينات الإيجابية، والسلبيّة، والقفز، والمساج، وشفط الدهون الثلاثية.
جاءه الجواب بمطرقة على رأسه، حتى مقالة الرياضة رفضوا نشرها، لعلّة أن الكتابة في الرياضة، قد تشير من قريب أو بعيد إلى مناصرة فريق دون آخر، مما يبعد مفهومها الخلقي عن مساره الطبيعي، إضافة إلى أن ممارسة الرياضة ليست ذات قيمة، مقارنة بمعاناة المواطن في السعي وراء لقمة العيش، أما النوادي والأجهزة الرياضية، فليس من شأننا تقديم دعاية مجانية لـها على صفحات الحقيقة المرّة.
لله ما أقسى قلوبهم؛ ليته يلتقي هؤلاء القراء والنقاد، ليته يدعوهم إلى النقاش والحوار، ليستل حقيقة أفكارهم. لن يستسلم، لن ينكفئ على وجهه، سوف يكتب مقالة تعني بمعاناة المواطن، إن كانت معاناته تعنيهم كما ذكروا. عشرات الأفكار صبّها على الورق، قدّم فيها الظواهر الاجتماعية، والآثار المدمّرة، الناتجة عن الفقر، والبطالة، والمرض، والعجز، والشيخوخة.
الأجور تافهة، الرواتب متدنية، الغلاء فاحش، والكماليات أضحت من الضروريات. كيف يحقق المواطن أمله في شراء بيت متواضع بالملايين؟ وكيف لـه أن يشتري سيارة عتيقة، تضاعف ثمنها بمرور الزمن، لدخولها في مباريات القطع الفريدة والأثرية؟ الفقر يا إخوتي مشكلة العصر، ولو أننا استطعنا مساعدة المواطن على تلبية احتياجاته الضرورية، وتوفير الضمان الصحي لـه، وتوفير متطلّبات شيخوخته، وعجزه، فإننا نكون قد أنجزنا تقدماً ووعياً وحضارة، تحسدنا عليها الدول المتقدّمة كافة.
أصابه كتاب الرفض بنكسة نفسيّة حادّة، خسر المعركة التي جاهد في دخولها، بل إن التعليق على مقالته، أوشك أن يفقده عقله، فقد رأوا أن الفقر نتيجة البطالة، والبطالة نتيجة للكسل، والعمل في أي مجال يكفي حاجة الإنسان، ألم يقل "ابن خلدون" "إن القيمة التي تمثل العمل، هي كميّة المكاسب التي تتناسب طرداً مع كميّة الأعمال"، ويتساءل المعلق فيما بعد، "كيف تسوّل لك نفسك تحريض المواطن. القانع الهانئ، وإزعاجه في المطالبة بزيادة الرواتب والمعاشات، في حين تواجه الدولة عدواً خطيراً، يستلزم التصدّي لـه بكل إمكانياتنا المادية والمعنوية.
أجهشت نفسه أسفاً وحسرة، قرّر التنحّي عن أفكاره، والبحث عن عمل آخر، لا يمت إلى القلم والورقة بصلة، لولا أن مسّت تلافيف عقله فكرة طارئة، وهتف بصيحة، تشبه صيحة أرخميدس "وجدتها، وجدتها".
سوف يكتب عن الحب، منذ أن وجدت الخليقة حتى اللحظة، الحب سيّد الطبيعة والكتابة في الحب لا تثير حفيظة أحد. سوف يكتب عن هموم العشاق، ولواعج قلوبهم، سوف يكتب عن نيران الشوق والفراق، وينابيع الروح في اللقاء، وكل ما تقدّمه لـه ذاكرته في الحب وأحواله، آماله وأتراحه.
تناول الحب في الشعر والنثر والقصيدة، أشار إلى الرائيات والحوليات، والبائيات، تطرّق إلى الغزل الصريح، والغزل المباح، والآخر الخفي، والصوفي، والنرجسي، وتنفّس الصعداء، في انتظار الرّد العاجل الذي سرعان ما بلغه بالرفض المطلق.
وشهق ذاهلاً مدحوراً لعلّة الرفض، وهي أن الحب حالة طيش، تسلب الإنسان قواه وأفكاره، تمتلك عقله وفؤاده، تأسر عواطفه، تستهلك طاقاته، يتضاءل عمله، ويتعاظم أرقه، ويقلّ إنتاجه وتتبخّر أهدافه، يحطّ من شأنه، يقلّل من قدره، يسوق نهايته وبالتالي مصرعه.
الحب لا يجدي نفعاً في زمن الصراع التكنولوجي، والثورة المعلوماتية، والتحدّيات النوّوية والليزرية، ثم يتساءل المعلّق، "كيف نتطوّر على الصعيدين الكمي والنوعي، ونحن لا نزال نستعيد مصارع العشاق، وغزل لبيد وزهير ونزار وجميل وعمر".
جلّل الوجوم وجهه، عجز عن خلق موضوع قابل للنشر، تناول خلطة الأعشاب التي تشفيه من آلام القرحة، واندفعت إلى مخيّلته الفكرة تلو الفكرة.
سوف يكتب عن الغذاء، والتداوي بالأعشاب البريّة، والنباتيّة، استعان بعشرات الكتب، لدراسة الأعشاب التي تطيل الشعر والقامة، وتقوّي جهاز المناعة، وتقضي على الملح والسكر، وتبعث على النشاط والحيوية، تكافح الشيب والتجاعيد، وتقضي على العجز والشيخوخة.
وتحت عنوان "التخلّص من مضار الدواء ضرورة ملحّة" جاءه الجواب بالرفض المرفق بالدهشة والاستنكار، كيف تجرؤ على إقناع الناس بالعودة إلى العصور السالفة، ونحن نفتتح كل يوم معملاً جديداً للأدوية الشافية؟؟ كيف تسمح لنفسك بالتلاعب في الاقتصاد الوطني لمصلحة شلّة، تسعى إلى بيع منتجاتها الزراعية؟ ولو حدث وصحّت مقولتك، لأغلقت مصانع الأدوية العالمية، واكتفى العلماء، بما ينمو في الأرض من أعشاب ونباتات وحشرات.
تصدّعت أفكاره، احتقر ذاته ووجوده، خيّل إليه أن الموت هو أفضل هبة للإنسان، للخلاص من حياة جاحدة قاسية، لا حظ لـه فيها ولا نصيب. نبتت فكرة الموت في مخيلته، الموت بمفهومه المادي والروحي، الموت نهاية طبيعيّة للبشر مهما كبروا، وعظموا، وتطاولوا، وأثروا، وهرموا، وعلوا علواً كبيراً.
لم يكن الجواب بأفضل من سابقه، لعلّة الإغراق في الحزن، والدعوة إلى التشاؤم وفقدان الأمل، والسلبيّة في مواجهة عثرات الحياة، وتابع المعلّق "أضف إلى ذلك أيها الكاتب، أن الناس في كل يوم، يعيشون الموت على أشكاله وألوانه، هل نذكّرهم بآلامهم؟ ونقسو عليهم بما تضيق به صدورهم".
ربما كانوا على حق، وهو وحده المسؤول عن إخفاقه وعثراته، لعلّة قناعته بأهليّة أدبه وقمّة إبداعه، ربما عليه أن يكتب فيما لا يخطر في ذهنه، وما لا يدركه بصره، وما لا يعي هو بالذات مفهومه.
حمل القلم مرهقاً، منغصاً، مكتئباً، وكتب...
"تعمل الفرانكفونية على ضمّ حكومات ما يسمّى بالناطقين بالفرنسية، وفق مذهب البراجماتية، الذي يعتمد على الهدف في تحديد قيمة السلوك، أما الخطر الذي يتهدّد الفرانكفونية، من الناحية الباراسيكولوجية، فهو انتشار الأنكلوسكسونية، وفي محاولة لضبط الملكات الميتابصريّة، وهي العين الثالثة الموجودة في الغدّة الصنوبريّة، يتم الامتزاج بين الجسد، والنفس البشرية، وتشع السكوكينيزيا طاقة ذبذبيّة، قادرة على تحقيق الأشياء بقوة ذهنية، وفق ما قامت به الثورة الإيستومولوجيّة في اليابان، ووفق ما تقوم به الولايات الأمريكية والصهيونية بدوافع الشيزوفرينيا."
لم ينتظر رداً، بالقبول أو بالرفض، فقد استدعوه مباشرة، إلى مقر الصحيفة الحرّة، والحقيقة المرّة. أقاموا على شرف المقالة حفلاً، امتدحوا فيه موهبته الفذة، وعبقريته المدهشة، صفقوا لـه طويلاً، داعين لـه بالتوفيق، والاستمرار في خدمة الأدب والعطاء، حتى وإن انتهت مدّة صلاحيّة الأفكار.
قصة من مجموعة تحمل العنوان نفسه. الناشر: اتحاد الكتاب العرب، سوريا (2005).
http://www.awu-dam.org/book/05/stories05/105-n-h/ind-book05-so001.htm
◄ عود الند: مختارات
▼ موضوعاتي