مختارات: عبد اللطيف الأرناؤوط - سورية
تجربتي في النقد
الحديث عن النقد الأدبي ذو شجون، ذلك أن اتجاهات النقد ومشكلات الفن الأدبي قد بلغت حدا من التضخم يعجز الناقد عن استيعابه، فهو يقف حائرا بين مناهج التفكير النقدي واتجاهاته المتشعبة.
ويواجه النقد الأدبي اليوم أزمة حادة بين التراث النقدي القديم والاتجاهات النقدية المعاصرة، ويتضح من هذه الأزمة ضياع الأهداف النقدية بين الأصالة والحداثة والتيارات المتطرفة التي تنادي بما وراء الحداثة.
والمتتبع لألوان النقد الأدبي في هذه الفترة من حياة الأمة العربية يذهله ضياع واضح في الأسس التي تقوم عليها أنواع النقد الممارس، إذ تتجاذبه تيارات سلفية وأخرى غربية مستوردة دون أن يكون بين هذه الألوان من النقد قاسم مشترك يجمع بينها أو خلفية ثقافية وفكرية توحد عناصرها.
وإلى جانب النقد الأكاديمي الذي يمارسه مختصون في النقد غالبا ما ينتسبون إلى مدارس واتجاهات نقدية معاصرة، ومنهم أنصار النقد الفني أو النفسي أو الاجتماعي، قد يطالعنا في الصحف والمجلات سيل آخر من النقد يمارسه هواة وأنصاف نقاد لا زاد لهم من المعرفة النقدية إلا انطباعهم الذاتي، وبعض الأسس النقدية التي لا تتجاوز دراساتهم المدرسية أو اطلاعهم النقدي العابر والمشتت.
وأرى أن الطرفين عاجزان عن استيعاب الواقع الإبداعي العربي ورعايته وتوجيهه، فهؤلاء الأكاديميون الذين ربطوا أنفسهم بمدارس نقدية غربية يريدون أن يفصّلوا الإبداع الأدبي وفق مقاييسهم النقدية. والإبداع في نظري أعظم من أن تحدده المقاييس النقدية الصارمة أو تحد من انطلاقته، وهو لا يخضع لقوانين حتمية.
فالنقد مهما ارتقى لا يمكن أن يفسر لنا، وعلى وجه الدقة تفسيرا علميا، سبب إعجاب الناس بشعر شاعر كالمتنبي وسيرورته، ولا يستطيع أن يعلل إعجابنا بالإعجاز اللغوي لهذا الشاعر أو بالتصاق أدبه بشخصيته الإنسانية أو بتعبيره عن أهم القضايا التي تشغل الإنسان في أي عصر من العصور، أي نزعته الشمولية الكونية. ولا يمكن أن يرد إعجابنا بأدب بريخت مثلا إلى نزعته التعليمية أو إلى بساطة سرده أو إلى روحه الفكهة.
وهناك لدى شعراء الرومانسيون ما هو أكبر من حرارة المشاعر والقلق المضني ورهافة الحس والثورة على الواقع، كما أن لدى شعراء الغموض ما هو أكبر من الانعطاف على الداخل أو تحطيم اللغة أو تحويل الأدب إلى هلوسات وكوابيس.
وأنا أشعر أن النقد الأدبي، الأكاديمي منه والانطباعي التأثر[ي] الذي يقوم على الملاحظة العابرة وينأى عن التحليل المعمق، عاجزان عن تفسير عملية الإبداع. وكلا النوعين محاولة تجريبية لتفسير العمل الإبداعي لا تعدو أن تكون كمحاولة من يريد أن يمسك بأصابعه خيوط الشمس أو الماء، أو يصف ما يعتمل داخل البركان وهو أعجز عن أن يقترب منه لأن حرارته المتدفقة تصهره.
والناقد ليس أكثر من قارئ مجتهد، والفارق بينهما أن القارئ يتلقى الأثر الأدبي بصمت مكتفيا بالرعشة التي تسري إليه من التيار الأدبي المتدفق، في حين أن الناقد يعبر عن تأثره بمحاولة فلسفة إحساسه، ورد ذلك الإحساس إلى قيم جمالية وفكرية وشعورية ومبادئ في الخلق الفني لا يركن إلى صحتها تماما. وقد يرده إلى اللغة أحيانا. لكن بعض الآثار الأدبية تهبط لغتها إلى مستوى اللغة العامية المتداولة، ومع ذلك فإنها تحتفظ بلون من السحر يعسر تفسيره كالأدب الشعبي. وقد يرده إلى القيم الأخلاقية، ولكن بعض الشعر التهذيبي ذي القيم النبيلة قد يتردى إلى النظم كشعر بعض الفقهاء.
وقد يرد الناقد جمال الشعر إلى الحكمة الإنسانية للشاعر. ولكن بعض الشعراء لا يعدوا شعرهم أن يكون شتائم وسبابا وولولة، وحقدا على العالم دون أن يقولوا شيئا وتعجب مع ذلك بشعرهم.
= = =
عبد اللطيف الأرناؤوط، "تجربتي مع النقد الأدبي"، علامات في النقد الأدبي. العدد 53، المجلد 14 (أيلول/سبتمبر2004 ): ص ص 330-332.
رابط الموضوع في المجلة:
◄ عود الند: مختارات
▼ موضوعاتي