عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

مختارات: مبارك الخليجي - الجزائر

المسبلون


الموضوع أدناه مقتطف من مقالة منشورة في مجلة «الأصالة» الجزائرية. العدد 2: 1 أيار (مايو) 1971. ص ص 41-43.

.
.
.
عندما دخل الفرنسيون بلدنا [الجزائر] في جوان 1830 انهار الحكم المركزي في مدينه الجزائر بسرعة مدهشة. ولكن شعبنا لم يرض بهذا الانهيار ولم يرضخ للاستعمار، بل إنه قاوم الغزاة المعتدين عشرات السنين. دامت مقاومته ما يقرب من نصف قرن. وفي هذه الحقبة الطويلة من الكفاح بشتى أنواعه ورجاله، برهن أجدادنا على تفانيهم في حب الوطن، وقدموا آلاف الشهداء قرابين على مذبح الحرية.

وإن أصدق صورة لهذا التفاني وأكثرها عبرة في تقديري لهي ظاهره «المسبلين» التي لم أعثر على مثلها في التاريخ إلا عند اليابانيين في صورة «الكاميكازي» أو عند الفيتناميين في أيامنا هذه.

فكلمه «المسبلين» نفسها من حيث مدلولها —إن كانت من ماده «سبل»— فمعناها في الاصطلاح عندنا هو: كل متطوع مستميت للجهاد يعمل بشعار: النصر أو الاستشهاد، فهو غير الجندي العادي الذي قد يضطر أحيانا إلى الاستسلام أو إلى التصالح المؤقت مع العدو.

تراتيب الاستبسال أو كيف كان يتم هذا التطوع؟

عندما يحدق الخطر بالوطن، يشرع أهل الرأي في تنظيم الدفاع عن عشائرهم، ولهذا كانوا يبعثون مناديا ينادي بالجهاد في المداشر والأسواق، فيؤجج العزائم، ويعلن في الملأ أن الدفاع لا يكتفي بالمجاهدين العاديين فقط، بل يحتاج إلى المسبلين.

وفي اليوم الموعود، يحشد هؤلاء الأبطال، فيجتمع الناس من جميع القرى. وبمحضر أئمة العشيرة كلها، وأحيائها، يسجل الضرب من الجهاد، وينتسب أمام الملأ، وبمسمع ذويه ورضاهم.

الشروط

قد تتلى عليهم شروط «الاستبسال» (إن صح التعبير) وتعطى لهم تعليمات الجهاد، فيتناقشون الخطة التي ينبغي اتخاذها أثناء المعركة، ويعين لكل واحد منهم مركزه الذي يجب أن يحتله فيها، ونوع السلاح الذي يستعمله، ومسافتا الكر والفر عند الحاجة.

ويطلعون كذلك عما لا يجوز لهم إتيانه أثناء المعارك، كالاختلاط بالمجاهدين الآخرين، أو رفع جثمان شهيد منهم، بل وحتى إبعاد الجرحى منهم لا يتم إلا بأمر من رئيسهم الذي يعينوه بأنفسهم، إلى غير ذلك من التراتيب الدقيقة التي تضم أسماءهم.

ثم يؤدون إثر ذلك يمين الشرف على المصحف الكريم. ويختتم هذا الحفل بشيء رهيب: صلاه الجنازة على المتطوعين، وهم واقفون واجمون.

في انتظار المعركة

وبعد هذه التلاوة، وهذه الصلاة الغريبة، وفي انتظار الحرب، يعيش «المسبل» في كفاله أهل القرية الذين يقدمون له أطيب طعام، وأفخر لباس، وأمضى سلاح، فالكل ينظر إليه بإكبار وتقدير، كأنه شهيد بعث من جديد.

بعد المعركة

والمسبلون الذين يستشهدون أثناء هذه الحروب يدفنون في مقابر خاصة يقصدها الناس جيلا بعد جيل زائرين، خاشعين للترحم على أرواحهم، أو للتبرك والاقتداء بهم.

أما أراملهم وأعقابهم فإنهم يصيرون في كفالة جماعة المواطنين الذين يقومون بالنفقة عليهم ويحترمونهم أيما احترام.

وكذلك الأبطال الذين لا يستشهدون، إما لأن النصر كان حليفهم، وإما لأنهم أبِلوا من جراحهم، فإنهم يعيشون أعزاء مبجلين، ولهم الصدارة في قومهم الذين يعولون العجزة منهم والمعطوبين.

أما «المسبلون» الفارون من القتال — وكان هذا لا يقع إلا نادرا — فإنهم يصيرون منبوذين، لا ينطق باسمهم أحد، كأنهم غير موجودين، بل لا يكلمهم أحد ولا يصاهرهم ولا يتعامل معهم ولو كان من عشيرته الأقربين.

متى وأين ظهروا؟

إن «المسبلين» قاموا في ثوره سنة 1871 بدور نستطيع أن نعتبره بحق مثالا للتضحية والفداء، فبالرغم من أن هذا المقال ليس مجالا للحديث عن دعائم الثورة، فإني أجدني مضطرا إلى أن أؤكد هنا أن الطريق «الرحمانية» هي التي ساهمت بالحظ الأوفر في تحريك الهمم، وإيقاظ الشعور الوطني ضد الغزاة الدخلاء. ولهذا فجل «المقدمين» الرحمانيين كانوا بمثابة أئمة حرب في كثير من الأنحاء الثائرة.

= = =

https://archive.alsharekh.org/Articles/350/22139/504375

D 1 آذار (مارس) 2024     A عود الند: مختارات     C 0 تعليقات