مقتطفات: غالب هلسا
غسان يأبى التصنيم
من يقرأ أعمال غسان بتمعن يلمس أثر فوكنر [1] عليه. قلنا إن "ما تبقى لكم" هي رؤية خاصة، وفي إطار فلسطيني لرواية فوكنر "الصخب والغضب". ولكن أثر فوكنر يمتد في أدب غسان إلى أبعد من هذا. نستطيع أن نتلمس بوضوح تقنيات فوكنر المعقدة في أعمال مثل "العاشق" و"الأعمي والأطرش". إن المونولوجات الداخلية، وتداعي الوعي، يتقاطعان هنا، ويختلطان، وأحيانا يتوحدان، كما في هذا المونولوج الداخلي الذي يشترك فيه اثنان: الأعمى والأطرش.
"إنني أمد يدي أيها الشيخ التقي الميت من قاع هذا الصمت (قاع تلك العتمة) التي لا يسبر غورها، يا حبيب الله، المعاد على هذه الأرض ثمرة متفجرة على الخشب. أخاطبك من وراء ظهر الحواس، التي يخاطب بها الإنسان قدره المكتوب له. مد يدك يا عبد العاطي، يا عاطي، وانتشلني من هذا الصمت (والظلام)".
إن أثر فوكنر في هذه التقنيات بالغ الوضوح.
الأثر الآخر الذي تركه فوكنر على غسان هو البناء الإبيسودي [2]، حيث البناء "الروائي غير متماسك وإبيسودي. كما يغلب عليها الطابع الكوميدي. والأسلوب في غالبيته مكتوب بالعامية المطوعة. ورغم أنها مستمدة من القصص القصيرة التي سبق له كتابتها، فلا شك أنها رواية وليست مجموعة من القصص المنفصلة" [3].
لقد تأثر غسان بهذا البناء الإبيسودي الفوكنري. تلمس هذا في "أم سعد"، وفي "عن الرجال والبنادق". إن البناء في هذين الكتابين يعتمد أسلوب القصة القصيرة، من حيث التركيز، والإضاءة المفاجئة للموقف. كما أن الشخوص لا تنمو روائيا، ولكن تتكشف لنا كتاريخ، كدلالة.
إن تعاقب الأحداث لا يتبع الشكل الروائي من حيث التفاعل بين الأحداث، والسياق المتسلسل للأحداث، ولنمو الشخصيات، بل يتبع شكل تعاقب أحداث منفصلة.
[...]
وغسان يأبى الامتثال للتصنيم لأنه طاقة حيوية بالغة الخصوبة والتنوع. يبدو ذلك في إقباله على الحياة تعرفا ومعايشة ومجازفا أبدا، رافضا الخضوع لمواصفات ضيقة الأفق.
نتبين ذلك من تنوع اهتماماته: ملاحقة الإنتاج الأدبي العالمي؛ متابعة الأحداث السياسية بدقة وتعمق؛ قراء الأدب العربي، وخاصة أدب الأرض المحتلة؛ محاولة التعرف على العدو الصهيوني من خلال فكره وإنتاجه الأدبي؛ البحث عن أساليب جديدة وأشكال جديدة للتعبير؛ إلى آخره. ويبدو ذلك واضحا في إنتاجه القصير العمر، الكبير الحجم والقامة.
لقد كان رائدا في عدة مجالات: أول من كتب عن أدباء الأرض المحتلة وعرّف القارئ العربي بهم، ومن بعده انفجرت أسماؤهم وأصبحت على كل لسان. وهو أول من كتب عن الأدب الصهيوني من العرب، وفتح لنا مجالا جديدا لفهم العدو. وهو أول من التقط التقنية والشكل الفوكنري في الكتابة؛ وأول من وضع تقليدا لم ينتبه إليه أحد: أعني التقليد البرختي في إعادة صياغة أعمال أخرى بوجهة نظر جديدة. وأهم من ذلك كله، أنه أول من جرد الفلسطيني من الفكرة المسبقة وصوره إنسانا حيا.
البطولة هي فعل الإنسان الواقعي، حياته اليومية، وليست أوهاما رومانسية عن إنسان لا وجود له. وخصوبة غسان تبدو في هذا التنوع الكبير لإبداعاته: الرواية، القصة، المسرحية، الدراسة الابتدائية، الكتابة النظرية، الكتابة السياسية، أدب الأطفال.
أن يكون في هذا العمر القصير قد قدم كل هذا الإنتاج، حجما ونوعا، وترك الأثر الباقي كالوشم على القارئ، هو شيء نعجز عن تفسيره. وهو بهذا ظاهرة انتمى إليها القليلون ممن أبدعوا نتاجا متميزا وماتوا قبل سن الأربعين: ابن المقفع، أبو تمام، بوشتر، كريستوفر كورول، رالف فوكس، بوشكين، ومايا كوفسكي.
= = =
مجلة "الثورة الفلسطينية". العدد 66. 10 تموز (يوليو) 1984. ص ص 44-46.
= ===
[1] المقصود بذلك وليام فوكنر (William Faulkner) الروائي الأميركي.
[2] ابيسود [episode]، كلمة إنجليزية تعني حلقة في سياق المسلسلات التلفزيونية.
[3] يذكر غالب هلسا في نهاية مقالته مصدرين هما:
[أ] فوكنر، بقلم مايكل ملجيت (Michael Millgate)، ترجمة غالب هلسا.
[ب] رواية "بيدرو بارامو" (Pedro Paramo) للمكسيكي خوان رولفو (Juan Rulfo). منشورات وزارة الثقافة السورية. ترجمة صالح علماني.
◄ غالب هلسا: مقتطفات
▼ موضوعاتي