د. نادية هناوي - العراق
إدواردو غاليانو وعابرية القصة القصيرة
.
ادواردو غاليانو (Eduardo Galeano): صحفي وكاتب وروائي من دولة أوراغوي في أميركا الجنوبية. من أشهر إصداراته كتاب "الشرايين المفتوحة لأميركا اللاتينية: خمسة قرون من نهب قارة".
.
.
تُقدم القصة القصيرة العالم المتسارع، أكثر من أي وقت مضى، مصوَرا في لحظاته التي فيها يختصر تاريخ وقائعه وأسئلته وأسمائه وصوره وموجوداته، حتى لا شيء في العالم إلا هو قابل لأن يكون قصة قصيرة. وهذه الغلبة الجمالية للقصة القصيرة تجعلها الجنس السردي الأكثر عبورا على غيره من الأجناس والأنواع الشعرية والسردية معا. ومن تجليات هذه الغلبة أن الكتّاب المغرمين بالتاريخ صاروا يجدون فيها ما يعيد لهم كتابة التاريخ أو يصنع لهم تاريخا جديدا ليس خاصا بهم لكنه ملكهم.
وتعد الذاكرة الميدان الذي منه تمتح القصة القصيرة تأريخيتها، وكلما بدا الكاتب متمتعا بذاكرة مليئة بالذكريات والصور والمعلومات وعارفا كيف ينظمها ويرتبها، كان أكثر استعدادا وقابلية على تأليف تأريخ هو عبارة عن سرد روزنامي.
وليس السرد الروزنامي سوى عملية انثيال ذاكراتية صغرى ترافقها عملية تحبيك شكلية تماثلها في الصغر. وتتبعهما عمليتا دمج ومنتجة على التوالي تسفران عن قصة قصيرة. وبتكرار هذه العمليات يكون المتحصل تقويما سنويا أو توثيقا عدديا مبوّب الذاكرة ومهندس الإطار ليكون تأريخا لا يعتري وقائعه أي تذبذب ولا يطاله أي تشكيك أو تكذيب.
ويكون السارد هو المؤرخ الضمني عن كاتب حقيقي والسارد العليم الذي يختفي وراءه حكّاء يجلس على منبر ويتواصل مشافهة مع سامعيه مساويا بينهم وبين أبطاله، يروي الحوادث بالتسلسل وفقا للزمن الذي جرت فيه، فيصبح زمن القصة هو زمن اختصار الوقت الذي استغرقته الحادثة أو الواقعة الذاكراتية.
وهذا هو الطباق الزمني الذي يشكل لب السرد الروزنامي، ومعه لا تكون هناك أي استحالة في أن يتصادف انثيال الذاكرة مع انطلاق المخيلة، ومن ثم يكون لكل شيء تأريخ ماض، وحتى ذاك الذي ليس له في التاريخ أي ذكر، واستعاد المتخيل التاريخي ذكره في "رواية التاريخ"[1] والقصة الميتاتاريخية مثلا ، فإن السرد الروزنامي لا يرى في استعادة ما ليس له أصل بالصائب أو المصيب، وإنما هو حفر في غير التاريخ، أي داخل الذاكرة الجمعية بحثا عما لا أصل له من أشخاص وأسماء ووقائع ومغامرات كي يؤسس السرد الروزنامي عليها تأريخا سيكون قابلا للاستعادة من لدن المتخيل التاريخي.
وليست الرواية عاجزة عن أن تكون تأريخا فيه تُحقق الذاكرة وظيفتها في الانثيال والتوثيق، ولكن الرواية تبقى غير روزنامية من ناحية أن التصنيف ليس في صالح تماسك حبكتها ولا يصب في تمتين وحدة بنيتها الشكلية، التي تحتاج دوما مزيدا من التفصيل والتدقيق والتعميق كي تعطي للشخصية أبعادها كلها وعلى مختلف مستويات معايشتها الواقع الموضوعي.
وبالكتابة التأريخية تكون القصة القصيرة الجنس السردي المتمكن على المستوى المضمون من تحقيق متطلبات التأرخة، وفي مقدمتها التقويم الروزنامي للحدوثات المحتم حصولها في الماضي. أما على مستوى الشكل فيكون نسيجها القصير ملائما للمضمونية الروزنامية، ومن خلاله تنفرد القصة القصيرة الواحدة كتأريخ يومي للواقع المعيش حتى إن كان ماضيا. وتكون في مجموعها هي التأريخ الذي من خلاله نرى الواقع ماضيا يتجدد في الحاضر ويتطلع لاستشراف المستقبل.
وعلى الرغم من ملاءمة القصة القصيرة للسرد الروزنامي وعدم ملاءمة الرواية له، فإن العبور الأجناسي هو الذي يؤكد أن توظيف التأريخ في كتابة القصة القصيرة هو الذي يمدها بأسباب الصمود في تنافسها مع جنس الرواية اليوم، وهو الذي سيمكنها من كسب الرهان بعبورها الأجناسي على الرواية التي —مع كل ما في قالبها من خصائص ومميزات— ستنضوي في قالب القصة القصيرة ليكون الفارق حينئذ كبيرا بين التاريخ في الأعمال الروائية والتأريخ في الأعمال القصصية.
ومن ثمّ تكون القصة القصيرة هي الدليل على توافق كتابة الرواية من داخل القصة القصيرة أولا وثانيا على رتق هذا الخرق بين الزمان والواقع من جهة والتاريخ والذاكرة من جهة أخرى، فيكون متاحا للتأريخ أن يتملص من هيمنة التاريخ ويتخلص من طغيانه السردي عليه، إذ ليس كل ما حدث في الماضي مصدره التاريخ.
ومعلوم أن في التاريخ ما هو استثنائي أو غير صالح لان يذكره هذا التاريخ. وهنا يأتي دور التأريخ لا في الاستدراك على التاريخ حسب، بل في فتح مجالات جديدة في التعامل الأدبي معها شعريا وسرديا. وهو ما تتصدى له القصة القصيرة بدرجة كبيرة ممتلكة قالبا يسمح لها بهذا التصدي واكتشاف عوالم من البناءات تصل بين الأجزاء أو تجمعها معا في سرد روزنامي ذي زوايا ثلاث بها تفك التباسات الزمان وهي: التوالي الزمني في التذكر + التفاوت الحدثي في التحبيك + التماسك الفني في التلخيص والتخليص والانتهاء.
قد لا يكون يسيرا سبر أساليب القصة القصيرة في التعامل مع التأريخ، ذلك أن السيرورة التاريخية دائمة التجدد في السرد الذي لا تقف أساليبه عند فعل ماض انقضى، وحال حاضر ومستقبل آت سيصير بدوره ماضيا. وهذه السيرورة في الوقت تمنح التأريخ دورية زمانية فإنها أيضا تجعله مواقتا أو توقيتيا بفعل السرد الذي مصدره الذاكرة المتلاحمة فنيا مع السرد تلاحما لا مجال معه لفصل أحدهما عن الآخر. ولا يفت التلاحم في عضد التاريخ وموثوقيته كما لا يفت في تخييلية السرد والمتخيل التاريخي جزء منه.
ولقد جسد ادواردو غاليانو هذه السيرورة وهو يكتب تاريخ القارة الأميركية في كتابه "الشرايين المفتوحة لأميركا اللاتينية"[2] وكتبه عام 1970، وهو الكتاب الذي منع عند صدوره في اغلب دول أميركا اللاتينية وكان مثار جدل لدى كافة الطبقات السياسية والشبابية. وفيه اختصر تاريخ الزمان الوحش الذي يلتهم البشر والمال والغابات والأنهار.
ويبدأ غاليانو سرده الروزنامي بأميركا اللاتينية وهي تولد: "بالشارة منذ أن وصل أوربيو عصر النهضة عبر البحر وغرسوا أنيابهم في حنجرتها، تمارس دور الخادمة. إنها أميركا اللاتينية الإقليم ذو الشرايين المفتوحة، فمنذ اكتشافها وحتى أيامنا هذه ظل كل شيء يتحول على الدوام إلى رأسمال أوروبي ثم رأسمال أميركي شمالي. تخلف وبؤس أميركا اللاتينية ليسا سوى نتيجة فشلها. نحن خسرنا وكسب آخرون. وسكان أميركا اللاتينية يتزايدون أكثر من غيرهم". [3]
وينتهي سرده بأميركا اللاتينية وهي تغرق: "هناك حمل ثقيل من العفونة لا بد من طمره في قعر البحر أثناء إعادة بناء أميركا اللاتينية، والمهمة منوطة بالمحرومين والمجانين والملعونين، فالقضية الأميركية اللاتينية هي قضية اجتماعية بالدرجة الأولى. لكي تولد أميركا اللاتينية من جديد فيجب البدء بالإطاحة بسادتها، بلدا بلدا. إننا ندخل أزمنة جديدة من التمرد والتغيير، وهناك من يعتقدون أن المصير يتكئ على ركب الآلهة، لكن الحقيقة هي أن المصير هو التحدي المتقد في ضمائر البشر".[4]
وما بين الولادة والغرق "حمى الذهب، حمى الفضة" الطويلة الأمد التي أنهكت الإنسان وهو حامل شارة الصليب وهو قابض على السيوف. أرخ غاليانو لها بشخص كرستوفر كولومبوس الذي جاء من إسبانيا منتصرا، وقد عاصر مرحلة تاريخية مهمة تتمثل في إجلاء العرب من إسبانيا التي استعادت في سبع سنوات ما خسرته في نحو ثمانية قرون، لينتصر مرة أخرى باكتشافه أميركا اللاتينية عام 1492، وفتحت مناطقها بحروب يصفها غاليانو بالحملات الصليبية في العصر الوسيط (1492-1942)، مضفيا طابع القداسة على غزو الأراضي المجهولة فكانت
"أميركا هي إمبراطورية الشيطان الشاسعة. لقد أبيد الهنود تماما في مصافي الذهب. إن عدم التكافؤ في تطور كلا العالمين يفسر السهولة النسبية التي خضعت بها الحضارات المحلية. الخيول والجمال ادخلها العرب إلى أوروبا فقدمت منفعة عسكرية واقتصادية، وعادت للظهور في أميركا من خلال الغزو، وأسهمت في إضفاء قوة سحرية للغزاة على مرأى من عيون الهنود المذهولة. وجاء الغزاة بالبكتريا والفيروسات. صار الهنود يموتون مثل الذباب ولم تكن أجسادهم تمتلك الدفاعات الكافية ضد الأمراض الجديدة. كان الإسبان مسرورين. كانوا متلهفين إلى الذهب مثل خنازير متضورة".[5]
ولقد طوّع غاليانو القصة القصيرة لتكون عابرة على أنواع سردية مختلفة مثل الومضة والقصة القصيرة جدا والخاطرة والقصة الطويلة وعابرة على الرواية بأنواعها ومنها القصيرة/النوفيلا، وعابرة على البحث التاريخي والفلسفي والاجتماعي والنقدي والاقتصادي.
القصة القصيرة عند غاليانو عبارة عن أطروحة يكتبها قاص شامل، فهو باحث ومؤرخ وخبير وروائي وشاعر ومسرحي ومفكر ووصاف ومهندس، فتحدث عن قضايا زراعية وتجارية لها علاقة بالذهب والسكر والمعادن مثل النفط والحديد والنحاس والنترات والقصدير، وناقش امتلاك الأراضي وعمل الفلاحين في مزارع الكاكاو والبن، ومساهمة القروض والسكك الحديدية في تشويه اقتصاد أميركا اللاتينية. كما تحدث عن قضايا سياسية ودولية لها صلة بالمنافع الدفينة للسلطة، مشبها حاجة أميركا الشمالية الاقتصادية إلى معادن أميركا اللاتينية كحاجة الرئتين إلى الهواء.[6]
وهذا كله يطرحه تحت عنوانات ذات دلالات أدبية مثل "أسنان من الحديد في جسد البرازيل"؛ و"بحيرة ماراكايبو بين مخالب الطيور الجارحة للمعادن"؛ و" التنمية عبارة عن رحلة، الغارقون فيها أكثر من المبحرين"؛ و"البوارج البريطانية تحيي الاستقلال من مواقعها"؛ و"أية راية ترفرف فوق الماكينات"؛ و"بنية النهب المعاصرة: تعويذة مجردة من القوة" وبدأها غاليانو بالقول:
"عندما كتب لينين كتاب" الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية" في ربيع 1916 كانت نسبة مجموع الاستثمارات الخاصة الأميركية الشمالية المباشرة في أميركا اللاتينية تقل عن خُمس الاستثمارات الخاصة القادمة من الخارج لتصبح ثلاثة أرباع الاستثمارات أميركية شمالية في عام 1970. إن الإمبريالية التي عرفها لينين هي ضراوة المراكز الصناعية الساعية إلى أسواق عالمية لسلعها، أدت إلى فرض السيطرة على المناطق الخاضعة للهيمنة".[7]
والأكثر من ذلك تطويع غاليانو للقصة القصيرة كي تحوي في داخلها الخطاب السياسي وتعبر عليه موجهة انتقاداتها اللاذعة لدكتاتوريات أميركا وغزوات البنوك وعسكرة الاقتصاد وغرابة التطابق بين الاحتكارات والشركات متعددة القوميات.
وعلى الرغم من كل هذه المضامين السياسية فإن القصة القصيرة تظل محافظة شكليا على بنيتها السردية. ولو كانت تجنيسية الكتاب روائية لما كان للنصوص القصيرة أن تعطي الفحوى محبوكة لوحدها حبكا اختزاليا يجعلها قصصا على انفرادها وعلى تجمعها معا، كهذا النص المختزل الذي أرخ البطالة بتهكم: "تخرج الجامعات الأميركية اللاتينية رياضيين ومهندسين ومنظمي برامج على نطاق صغير لا يمكنهم العثور على عمل إلا في المنفى".[8].
لقد أدرك غاليانو أن الذاكرة هي محور التأريخ الذي هو محور المادة التاريخية التي عليها يبنى السرد التاريخي ليكون لصيق الثلاثة "الذاكرة والتأريخ والتاريخ" منطلقاً ومنحدراً ومبتدأً ومنتهى. وإذا كان التأريخ هو التوالي المبني على الدورية، فإن القصة القصيرة هي الجنس الأكثر تلاؤما مع التوالي والدورية، ومن ثم لا تعارض بين التأريخ كفعل زماني محدد بحركة الكون في سعته وامتداده وبين الذاكرة كفعل بشري به يواجه الإنسان المحو والنسيان، وبين التاريخ كفعل تسجيلي غير منضبط بحسب الزمان.
ومع ذلك تظل الطبيعة العامة قائمة على مواجهة النسيان، لأسباب موضوعية تتعلق بأساليب الحفظ والأرشفة وطرائق توثيق ما هو دوري وحولي، والتي مهما تطورت فإن الأسباب الذاتية أو العوامل غير التاريخية تظل مؤثرة في مدى دقة التاريخ الموضوعية كسجل شامل لكل ما وقع أو ما يمكن أن يقع.
ومن يتمعن في كتابات غاليانو ستتأكد له الكيفية التي بها انعكست رؤيته للتأريخ على إبداعاته القصصية، فكانت الذاكرة مصدرا فلسفيا أساسيا في تدوينات سروده، وكان التاريخ محورا سرديا تدور حوله أساليب السرد وتقاناته برمتها.
كيف وظف غاليانو التأريخ في قصصه ورواياته ؟ وأي أشكال التأريخ جذبته أكثر؟ أ هو التحقيب أم الأرشفة أم التقاويم؟ وأي الأجناس السردية أفاد منها غاليانو في مشروعه في التجريب السردي؟ ولماذا كانت القصة القصيرة هي الأكثر تأدية للتجريب من الرواية؟ وما علاقة التجريب التأريخي بالسرد الواقعي وأيهما تفوق فيه غاليانو فاظهر إزاءه اهتماما وأعطاه أهمية أكثر؟
قبل الشروع في الإجابة عن هذه الأسئلة وما يتعلق بها من تفاصيل الانعكاس الفلسفي على رؤية غاليانو للتأريخ في كتابته للقصة القصيرة، علينا أولا إن نقف وقفة متأنية عند وجهة نظر غاليانو للتلازم الإبداعي بين التذكر والتخييل وعلاقتهما بالزمان والتزامن، متفكرين في الأسباب التي دعته إلى ذلك التلازم، والغايات التي من أجلها أبدى اهتماما كبيرا وبوعي عال بهذه الثلاثية، أي " الذاكرة ـ التخييل ـ الزمان" متفوقا في كتابة "السرد الروزنامي" ( Calendared Narrative) وموجها مغامراته التجريبية نحو القصة القصيرة، كاشفا من خلاله عن إمكانيات جديدة في قالب هذه القصة، مؤكدا ما في أجناسيتها من قابلية العبور على الرواية وغيرها من أجناس السرد والشعر وبكل أنواعهما وأشكالهما، وهو ما ميّز مشروعه القصصي، وأعانه من ثم على تنفيذ تطلعاته الإبداعية.
لقد كانت لغاليانو تصورات خاصة للتخييل بوصفه عملية تخليق تتمظهر أبعادها الكتابية في النتاجات الإبداعية بكل صنوفها وما في كل صنف من ضروب وأشكال.
وليس التخييل على درجة واحدة من الإنتاج كي نحدد لآلية صنعه محددات أو مقاييس، بل هو أوسع من أن نحدده. وما دام العقل سمة البشر التي تميزهم عن غيرهم من الكائنات الحية، فإن الذاكرة سمة من سمات فاعلية هذا العقل يتمتع بها البشر بدرجات مختلفة.
وللذاكرة داخل عقل كل إنسان وظائف هي بمجموعها تجعلها مرآة للزمان أو صندوقا لخزن فيزيقيات ما رأته عينا الإنسان وسمعته أذناه، وجربته يداه وسعت إليه رجلاه، ونطق به لسانه. وبهذه الأفعال الجسدية الفيزيقية التي منها وعبرها يستمد التخييل فاعليته، فتحضر كتابة التاريخ في شكل مشاهدات وتجارب وأفعال وأقوال، وبصورة غير فيزيقية لأنها متوهمة ومصنوعة من لدن الوعي أو اللاوعي، ومخزونة كي تقاوم ما تم نسيانه أو ما يراد نسيانه وتبديله بغيره.
وبمرور الزمان تتحول تلك المخزونات الفيزيقية الواقعية منها وغير الفيزيقية التخييلية إلى محفوظات تتراكم وتترسخ فتنتقل من بعد ذلك جينالوجيا من جيل إلى جيل في شكل خبرات ومهارات وعادات وتقاليد وفلكلور وتراث وأنظمة وقوانين، إلى آخره.
وأوضح مثال على ما تقدم، كتابة غاليانو تاريخا خاصا من أفعال ومكونات وسمات لعبة كرة القدم، جامعا فيها الخاطرة العابرة بالاستعارة البلاغية والأوصاف المكانية بالدرامية الزمانية، مقاربا المتعة في لعب كرة القدم بالحياة، إذ يرى أن الإنسان مثل اللاعب: " يركض لاهثا على شفير الهاوية في جانب تنتظره سماوات المجد وفي الجانب الآخر هوة الدمار".[9].
واذا كان الحظ مصاحبا الإنسان في الحياة، أصاب منها نصيبا وصار يطلب المزيد حتى يخسر الإحساس بمتعها الجمالية فيظل يلهث وراء المال تماما كاللاعب الذي ما أن يتحول من اللعب في الحي الشعبي إلى اللعب المحترف حتى يشتهر ويظهر اسمه في الصحف والتلفزيون والإذاعات، والنساء يجتهدن من أجله، والأطفال يقلدونه، وتطلبه الاستادات العالية، ورجال الأعمال يشترونه ولا يقبلون منه أي خطأ، فيفقد حينئذ متعة اللعب بكل هذا الذي يلهث وراءه من شهرة ومال ومعسكرات تدريب وتمارين شاقة. والنتيجة أنه يشيخ بسرعة".
وعندئذ تسمع من يشير إليه قائلا:
= "هذا لا يمكنه أن يسجل هدفا حتى في ملعب يميل نزولا".
= "هذا لن يسجل هدفا حتى ولو قيدوا له يدي حارس المرمى".
وتنتهي القصة بالقول: " فالشهرة سيدة محترمة مراوغة لم تترك له حتى رسالة عزاء صغيرة ".[10]
ولأهمية التخييل الذي هو كالتأريخ، نجد غاليانو يحذف مصادره ولا يعتمد أية إحالات، ويتصرف مع المراجع كيفما يشاء وعن ذلك يقول:
"لا يوجد هنا ذكر لمصادر ومراجع ببلوغرافية لم أجد مفرا من حذفها. ستشغل من الصفحات أكثر مما شغلته قرابة ستمئة قصة تشكل هذا الكتاب".[11]
ولم يعط غاليانو كتبه تجنيسات محددة، وبعض كتبه تشبه الرواية لكنها بنصوصها القصصية القصيرة تغدو كلها مجموعة كقصة قصيرة عابرة. أما لماذا وصف كتابه "مرايا ما يشبه تاريخا للعالم" بالمشروع الهذياني؟ فلأن أجزاء الكتاب مشتتة تاريخيا لكنها ملتمة زمانيا كالتمام الروزنامة في شكل تواريخ لا تدون من الزمان إلا أقله والباقي يبقى غائبا أو بعيدا عن التدوين.
ويبدأ التأريخ في روزنامة غاليانو من أول حضارة وجدت على أرض العراق بقصة "أبتاه ارسم لي العالم على جسدي". ثم تعددت من بعد هذا النص التأريخي النصوص كقصص قصيرة هي عبارة عن: مرايا ممتلئة بالناس؛ اللامرئيون يروننا؛ المنسيون يذكروننا؛ عندما نرى أنفسنا نراهم؛ عندما نرى أنفسنا هل يروننا؟"[12] فكان أول تأريخ هو ذاك الذي تأسس مع الطين والكتابة على الطين هو تأريخ بلاد سومر:
" عندما لم يكن العراق قد صار العراق بعد، ولدت هناك أول الكلمات المكتوبة عن السومريين ودجلة وفرات والعودة إلى الطين".[13]
وبهذه الطريقة تشكلت أولى صور التأريخ بمعناه الشفوي. وما أن دون وأُرشف حتى صار هو التاريخ العام كسجل رسمي لكل ذاك الذي به تحولت الذاكرة البشرية من صورتها الشفاهية إلى صورتها التدوينية. وفيما عدا هذا الذي دوّن، يكون الباقي في صور شفاهية تظل على حالها طبيعية وشعبية تتناقل جينالوجيا عبر الأجيال، ولكل شعب من الشعوب تاريخها الشفوي الخاص.
وقد يعتري التاريخ العام الرسمي غياب في الوثائق تجعل بعض الوقائع والأشخاص منسية ومهملة، لكن ما يعتري التاريخ الشفوي أقل من ذلك وهو ما يتجلى في النسيان الذي قد يغير بعض الحقائق أو يحوّرها لكنه لا يغيّبها أو يهملها. وفي كلا الحالين "التدويني والشفاهي" يكون التخييل هو المعين لردم الغياب وتعويض النسيان، فيكون التاريخ الرسمي والتاريخ الشعبي صنيعتي التأريخ الذي هو بدوره وليد الذاكرة بما فيها من وقائع وما يضاف إليها من سرد/تخييل.
ولم يعد التاريخ سجلا لكل ما وقع فعلا، بل هو سرد لما وقع وما تخيله المؤرخ أنه وقع. وهذه السردية في كتابة التاريخ هي التي منها استمد المفكرون المعاصرون نظرياتهم كنظرية الميتاتاريخ لهايدن وايت، ونظرية التاريخ الجديد لجاك لوغوف، والنظرية الاريكولوجية لميشيل فوكو، وغيرها. وكذلك استمد منها الروائيون والقصاصون أعمالهم ما بعد الحداثية، فكتبوا أعمالا لا تستعيد التاريخ بأحداثه وشخصياته كما قصها المؤرخون، وإنما تعيد كتابة أحداثه وشخصياته بأساليب وطرائق تكشف عما أُهمل ونُسي من أحداث وما سكت عنه المؤرخ فغيب كثيرا من شخصياته.
وفي إطار الكتابة السردية للتاريخ بنوعيه الرسمي والشعبي، يكون فعل الذاكرة وفعل الزمان ممهورين إن لم نقل مموهين بالتخييل، فكيف السبيل إذن إلى تاريخ يعود إلى المصدر الأساس الذي هو الذاكرة كمخزون لما كان قد وقع ويستلهم جدلية الحياة مجسدة أو مفلسفة في الزمان كمتوالية فيها الذي وقع ماضيا هو ممكن الوقوع حاضرا وسيقع مستقبلا أيضا ؟
هذا ما تنبه له غاليانو وهو يطوع التاريخ في شكله التأريخي التقويمي الروزنامي مودعا فيه مخزونات الذاكرة كمصدر فينومينولوجية لرؤى موثقة وأخرى متخيلة في شكل سردية تاريخية سمتها القصر التي تضاهي الوقتية التي عليها الزمان وطبيعتها الاختزالية لفظا وفعلا، وقد تضاهي بدورها الذاكرة من زاوية انقطاع تواليها وانفصال متصلاتها أو اتصال منفصلاتها.
والمحصلة أن هذه البنية السردية ستتمظهر للوهلة الأولى كمذكرات. ولكن قالب هذه البنية الأجناسي النهائي يبقى قصيرا وعابرا. ولعل هذا التباين أو الإيهام ما بين المذكرة والقصة القصيرة هو الذي جعل غاليانو يُحجم عن تجنيس كتاباته السردية، فتركها لفعل الزمان الذي به ومنه يتحدد مدى الرسوخ والأصالة فيتجلى الحقيقي والصحيح ويتلاشى غيرهما بما فيه المقلد والطارئ.
ولأن سرديات غاليانو الروزنامية ذات قالب قصصي قصير، ترسخت واستقرت بالعابرية على الرواية والقصيدة والمسرحية وهلم جرا من الأجناس والأنواع التي تظل قابلة ومهيأة لان تنضوي في جنس القصة القصيرة. والرواية جنس عابر على غيرها من الأجناس والأنواع، ولكنها مع نصوص غاليانو تتنازل عن عابريتها لصالح القصة القصيرة وتظل مسألة أيهما أكثر عبورا على الأخرى متروكة للزمان، فهو وحده الفيصل في تأكيد أي القالبين القصصي أم الروائي هو الأكثر مقدرة على العبور رسوخا واستقرارا. وما فعله غاليانو يصب في باب تأكيد أن القصة القصيرة العابرة هي التي لها المستقبل وهي التي بها يستشرف قادم الأجناس السردية كأولوية تتناسب مع طبيعة العالم المتسارع في تكنولوجياته بشكل مذهل.
ومن يتفحص مسارات الابتكار الكتابي عند غاليانو سيجد أن القصة القصيرة مهيأة أكثر من غيرها من الأجناس لاستيعاب الفلسفات والتأثير بها سرديا على غيرها، فتكون للحقيقة الفنية من خلالها أوجه هي نفسها أوجه التأويل لفعل الإدراك الجمالي وكيفيات توظيف الخبرة الجمالية في هذا الوعي، فكانت للحانة ولصلوات المائدة وللجعة ولشهرزاد ولياليها الألف وللملك الذي أراد أن يعيش إلى الأبد ولبغداد تواريخ موجزة شعرا:
"عندما كان العراق بابل، كانت الأيدي الأنثوية تتولى مسؤولية المائدة؛ عندما كان العراق أشور، الجعة جيدة. الطريق هو السيء".[14]. وللمعانقات تأريخ تأسس
"في العراق ولدت أول قصيدة حب في الأدب العالمي قبل آلاف السنين من تدميره:
فلينسج المغني في نشيده:
هذا الذي سأغنيك إياه
النشيد انشد باللغة السومرية
لقاء ربة وراع، أنانا الربة أحبت في تلك الليلة كما لو كانت من البشر الفانين. ودموزي الراعي كان خالدا طيلة تلك الليلة".[15]
وإذا كانت القصة مبنية على صيغة قصيدة التفعيلة فإنها تظل قصة قصيرة لاختزالية ما فيها من عناصر السرد المكثف وقصدية متنها كتأريخ مصدره الذاكرة كما في قصة المرايا:
"المرايا ممتلئة بالناس
اللامرئيون يروننا
المنسيون يتذكروننا
عندما نرى أنفسنا نراهم
عندما نرى أنفسنا هل يروننا؟" [16]
ومن العبور على الأنماط سردية كالأسطورة والخيال العلمي قصة خطر في الليل:
"نائمون ترانا هيلينا. حلمت أننا نصطف في رتل في مطار ما صف طويل: وكل مسافر يحمل تحت إبطه الوسادة التي نام عليها في الليلة السابقة. الوسائد تمر عبر آلة تكشف الأحلام الخطرة على الأمن العام". [17]
وتعبر القصة القصيرة على القص الشعبي كما في قصة "النخلة الملكية":
"في هذه النخلة المتغطرسة يعيش شانغو، الاله الأسود الذي يسمي نفسه القديسة بربارة حين يتنكر بزي امرأة مسيحية. أوراق اقتتها ذراعاه، ومن الأعلى يطلق نيران مدفعيته. شانغو يأكل النار ولا يتعب من التنكيت والحب. ولهذا تكرهه الآلهة وتجني منه الالاهات. تزوج أويا زوجة شقيقه أو عم الذي قيل إنها عذراء كانديلاريا، ويقاتل إلى جانب شانغو بسيفين في الأنهار، يحرس الحب مع اوشن".[18]
إن للقصة القصيرة تأريخا عابرا للتقاويم والأجيال في القارة الأميركية وكأن التأريخ أرض فتحها الإنسان ليعمرها، لكن وسائله كانت غير إنسانية ولا أخلاقية، فلقد أبيد جزء كبير من سكانها إبادات جماعية. وما من حقبة تمر إلا تترك في الذاكرة حمولات من الصور والمشاهدات والمواقف الكثيرة والقاسية، منها استمد غاليانو كتابة سرده الروزنامي بالقصة القصيرة العابرة كتأريخ يعبر على الرواية والقصيدة والخيال العلمي والأغنية والقصة القصيرة جدا والهايكو والخاطرة والومضة والمسرحية والحوارية وغيرها من الأنواع الأدبية.
= = =
الإحالات
[1] رواية التاريخ مصطلح أطلقته على العمل الروائي الذي يتخذ من السرد متخيلا تاريخيا على خلاف الرواية التاريخية التي تتخذ من التاريخ متخيلا سرديا. ينظر: كتابي السرد القابض على التاريخ، دار غيداء للنشر، الأردن، 2018.
[2] وصف ناشر هذا الكتاب بأنه مؤلف غير متخصص يوجه حديثه إلى جمهور غير متخصص يعرض مسائل أخفاها أو ذكرها التاريخ الرسمي.
[3] الشرايين المفتوحة لأميركا اللاتينية، ص 9-13
[4] المصدر السابق، ص 384
[5] المصدر السابق ، 26ـ33
[6] ينظر: المصدر السابق ، ص201
[7] المصدر السابق، ص303
[8] المصدر السابق، ص360
[9] كرة القدم في الشمس والظل، ادواردو غاليانو، ترجمة صالح علماني، د. ت، ص7
[10] المصدر السابق، ص8
[11] مرايا ما يشبه تاريخا للعالم، ادواردو غاليانو، ترجمة صالح علماني (دمشق: دار رفوف للنشر، ط1 ،2011) ص6.
[12] المصدر السابق، ص7
[13] المصدر السابق، ص15.
[14] المصدر السابق، ص16ـ17
[15] المصدر السابق، ص322
[16] المصدر السابق، ص7
[17] المصدر السابق، ص334
[18] المصدر السابق، ص34
◄ نادية هناوي
▼ موضوعاتي