عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 
أنت في : الغلاف » أرشيف أعداد عـود الـنـد » أرشيف الأعداد الفصلية: 2016- » أعداد السنة 17 » عود الند: العدد الفصلي 28 : ربيع 2023 » "اللاواقعية" مفهوماً سردياً ما بعد كلاسيكي في كتاب التيجان في ملوك حِـمْـيَـر

د. نادية هناوي - العراق

"اللاواقعية" مفهوماً سردياً ما بعد كلاسيكي في كتاب التيجان في ملوك حِـمْـيَـر


نادية هناويالواقعية مذهب أدبي لا نهاية محددة للتنظير فيه، فالواقعية هي اليوم وغداً كما يقول بوريس بورسوف. وسبب هذه الدوامية هي قابليتها على التمشكل الفني والتمنهج النقدي. وهي بالنسبة إلى الفعل السردي أسلوب في تمثيل الواقع مهما كانت صور هذا الواقع غريبة ومتغيراته معقدة. وقد عرف العصر الحديث صورا مختلفة من الواقعية، منها النقدية والاشتراكية والجديدة والسوداوية والطبيعية والسحرية والمفرطة وغيرها. لكن أيا من تلك الصور لم تقدر أن تضع للواقعية أوزارها التي فيها غاية المطلب ومنتهاه في أدبيات عملها وتنظيرها لما به تدعي أنها وصلت إلى خط نهائي لا يعيدها إلى خط الشروع الأول، إذ ليس بمقدور أية صورة واقعية أن تكشف عن كنه الحقيقة الفنية للواقع متجسدة ومحددة بشكل جمالي وموضوعي. وكيف يمكن لواقعية ما أن تصور الواقع على حقيقته والواقع نفسه متغير ومتعدد، ومجالاته تتوسع وآفاقه تتنوع، ومعها يتنوع الأدب السردي وتتوسع ميادين واقعيته وقد يكون بعضها غير عقلاني؟

إن السرد ليس مجرد فاعلية فنية بعناصر محددة تنحصر فيها إمكانياته وتتقيد فواعله، بل السرد متسع الفضاءات ومتنوع المساحات بما قبل الواقع وما في الواقع وما بعده. ولا مراء في أن اللاواقعية حاضرة في هذه الاتساعات والتنوعات لكن ليس بصورة غرائبية أو سحرية أو عجيبة فهذه كلها لا تجعل اللاواقعية تقليدا سرديا، بسبب ما يتطلبه(التقليد) من إدامة قولية استعارية فيها تغيب الاحتمالية. لكن المنطقية متحصلة، أولا بالسارد المنفصل عن المؤلف، وثانيا بالمؤلف الذي تحول إلى حكاء، وثالثا بالمتلقي الذي صار سامعا، فينتقل التلقي من المنطقة الكتابية إلى منطقة التلقي الشفاهي. ويكون أداء القارئ أو تلبسه هذه الصورة هو الطريقة التي بها يشارك المؤلف في السرد. وإذا كانت مهمة المؤلف قولية، فإن مهمة القارئ تأويل الأقوال الخطابية التي بها يصل إلى المنطقية. وعندها تتحول لا عقلانية الواقع الموضوعي إلى واقعية عقلانية.

ولقد وظفت السرديات الكلاسيكية والحداثية أساليب شتى في تمثيل الحياة الواقعية، ومنها توظيف العجيب والغريب الفنتازي، بينما تعدت السرديات ما بعد الكلاسيكية، وصارت تعتمد في تمثيل الحياة على ما هو غير واقعي، متخذة من اللامحاكاة أساساً لنوع من السرد عرف بـ"السرد غير الطبيعي" وفيه تكون الخيالية ما بعد حداثية، وبها تستعاد خرافية الفكر التي عرفتها مرويات التراث السردي العالمي عامة والتراث السردي العربي خاصة.

وما من مفارقة في أن تكون للاواقعية أهميتها عند منظري علم السرد غير الطبيعي، باحثين عن تطبيقاتها في كلاسيكيات السرد الغربي من العصور الوسطى وعصر النهضة حتى العصر الحديث. وهم اليوم يسعون في دراسة كثير من السرديات الحداثية وما بعد الحداثية، التي فيها اللاواقعية موضع تجريب وإنضاج، إلى بلوغ مزيد من التحصيلات في السرد غير الطبيعي. وإذ لم يقف أي ناقد أو منظر منهم عند سردنا القديم فلأنه لا يعلم ما في هذا السرد من غنى يضيف إلى تنظيراتهم الكثير، وربما يعزز النظرية ويحقق الأقلمة بين سرديات الشرق القديم عموما والعربية القروسطية تحديدا.

ولعل بيروقراطية النقد العربي بمفاهيمه القارة، واستشراقية النظرة الغربية، وأحادية اتباع تقاليدها، قد أدت إلى أن يتبنى الناقد العربي كثيراً من المذاهب والتيارات والمنظورات الجمالية لمفكرين غربيين انطلقوا في التنظير للواقعية النقدية والاشتراكية والسحرية والجديدة وغيرها من حواضن فلسفية ومنظومات ايديولوجية كبرى أهمها وأرسخها الفلسفة الماركسية التي شاعت أفكارها في البلاد العربية منذ منتصف القرن العشرين. هذا إلى جانب ما تبناه الأدباء العرب المعاصرون من صور الواقعية وما جربوه منها حتى ترسخت أساسات الواقعية في قصصهم ورواياتهم. وبدا أغلب الساردين العرب منتمين وملتزمين بمبادئ وأيديولوجيات يمينية ويسارية ذات تطلعات اجتماعية واقتصادية وثورية لصيقة بالواقع ومجريات متغيراته آنية الحصول أو بعيدة المدى.

وإذا كان أكثر الباحثين يقولون بأن ما وصل من السرد القديم يعود زمنه إلى عصر ما قبل الإسلام وهو عندهم في الغالب مشكوك فيه ومنحول، فإن في ما وصل إلينا من مرويات تراثية بدءا من عصر التدوين في القرنين الأول والثاني للهجرة حتى العصور الوسطى، وما فيها من تقاليد فنية، يدلل على أن هناك تاريخا طويلا من الممارسة السردية سابقة لعصر ما قبل الاسلام بزمن طويل، وكانت سببا في استقرار صور المرويات الجاهلية والإسلامية على اختلاف صنوفها وتنوع طرق كتابتها.

ومن أهم تلك التقاليد اللاواقعية التي اعتاد العرب استعمالها في كتاباتهم السردية وتواضعوا على صيغ بعينها. وهي تتوزع بين الأخبار والحكايات والمقامات والقصص والنوادر والرحلات والمنامات والسِيَر، فضلا عن النصوص التي هي غير أدبية في علوم التاريخ والفلسفة واللغة والفقه وفيها نلمس توظيفات سردية تتباين أبعادها وتتعدد. وغدت اللاواقعية تقليداً مهماً وواضحاً في مصنفات العصر الوسيط وما بعده، وفيها اتبع الكتّاب التقاليد الفنية العربية من دون أدنى ارتياب أو استغراب مما في لا واقعيتها من اللاعقلانية.

ولا غرابة في أن تكون اللاواقعية تقليدا من تقاليد السرد العربي القديم، لأن في ما هو لا واقعي واقعية أكيدة حد الاعتياد. وبسبب ذلك كانت تصورات النقاد القدماء البلاغية للتخييل لا تخرج عن كونه مجازات واستعارات تجعل الاعتياد طبيعيا على اللاواقعية نظرا وإجراء وكأن التخييل هو الواقعية، بمعنى أن التخييل هو الأداة التي بها يصور الحكاء الواقع سواء في الحكايات الأدبية أو في المرويات التاريخية. وصحيح أن التخييل جزء من نظرية أكبر هي المحاكاة، بمعناها الأفلاطوني والأرسطي، بيد أن الناقد القديم أعطى للتخييل اهتماماً كبيراً فكانت اللاواقعية تقليدا راسخا لا في السرد وحسب، بل في الشعر ونقدهما أيضا.

وهم إذ استعلموا كلمة النثر أو المنثور أو المرسل والروي أو القص، ولم يستعملوا السرد، فليس لأنهم لم يعرفوا الكلمة، فلقد كانت متداولة ووردت في القرآن الكريم ولها في المعاجم العربية معان ودلالات كثيرة، وإنما السبب يعود إلى أن التقاليد التي احتكم إليها الناقد في تحليل الشعر على تعدد أغراضه، تناظر تلك التقاليد التي خضع لها في تحليل ما هو سردي لا سيما السرديات التي كانت قد استقرت أنواعها وقت ذاك، فغدت من ثم تخييلية الجملة الحكائية كالجملة الشعرية بكل متعلقاتها التعبيرية كالاستعارة والنسج والصناعة والصياغة والنظم والمطابقة والتكرار والتجانس والبيان، إلى آخره.

ولا يعني ذلك أن ممارسة الشعر كانت مثل ممارسة الحكي أو القص، بل الأولى مقدمة على الثانية بمحدودية مجالاتها المقيدة بالوزن والقافية وبفاعلها المعرف بأنه شاعر أو ناظم، بينما ظلت ممارسة الحكي متسعة المجالات ومتنوعة إلى درجة أن ممارسها لم يستقر تعريفه أو توصيفه على اسم محدد، فسُمي بالناثر والكاتب والإخباري والحكاء والقاص والمؤلف وغيرها.

وهذا أمر ما كان له أن يكون ويتحقق لولا وجود جمهور يشارك الحكاء أو القاص عالمه، فيستقبل أقواله، ويؤول خطابية هذه الأقوال التي كانت محفزة إياه على التلقي والتفكير بواقعية ومنطقية في تمثيلات ما هو غير واقعي. ومهما كانت اللاواقعية مهيمنة على الأحداث السردية، وتوجه البطل والشخصيات الأخرى وتؤثر في مصائرهم، فإن الجمهور يتقبلها بوصفها أقوالا يسردها حكّاء ولا مجال للشك في ما يقوله. ولأن الحكاء مثل الشاعر عليه أن يقول ما هو بلاغي أو مجازي ينزاح عن الدوال المعتادة وما على السامع سوى أن يؤول ذلك تأويلا منطقيا يوصله إلى المغزى الواقعي بمدلولات ممكنة تتشكل من جراء استقباله لتلك الاستعارات والمجازات.

ولقد استمر السرد القديم في السير على تقليد اللاواقعية في العصور اللاحقة فاستحضر الكتّاب كثيرا من أساليبها في مصنفاتهم. واستعاد كتّاب السرد في عصر النهضة الأدبية هذا التقليد. بيد أنهم تأثروا أيضا ببواكير ما ترجم من قصص وروايات روسية وفرنسية وانجليزية، وعمد أغلبهم إلى مفارقة اللاواقعية وصاروا يتبعون الواقعية الغربية بوصفها تقليدا سرديا أولا ثم بوصفها مذهبا في النقد له أهميته آخرا، فتراجع تقليد اللاواقعية في السرد العربي الحديث وقلَّ تأثير السرد القديم في القصاصين والروائيين المعاصرين. لكنه ما انتهى أو تلاشى، بل ظل يحضر في كتابات بعض الكتّاب العرب لا سيما أولئك الذين استوعبوا ما في تراثنا السردي من ثراء فني وغنى موضوعي.

ولا إنكار لأهمية السرد الواقعي والدور الطليعي الذي لعبته الأعمال السردية والشعرية وهي تتبنى النظر العقلاني في تصوير الواقع العربي المرير. وهكذا كان المجال كبيرا لأن يتبنى الكتّاب العرب تقاليد الواقعية الغربية بينما انحسرت لا واقعية السرد العربي القديم وضعفت فرص استثمار هذا التقليد.

وعلى الرغم من ذلك، فإن للسرد غير الواقعي حضوره الذي يجعله ذا سيرورة لا انقطاع فيها ولا اضمحلال، فاتحا مجالات كبيرة لاستعادة تقاليده وتطوير العمل بها في سردنا العربي المعاصر. ولعل ما سُمي بالإسرائيليات أهم صورة من صور اللاواقعية كتقليد فني، فيه يوافق السارد بين مرجعيات دينية عديدة ثم يجمع بينها وبين التخييل ببعديه التاريخي والسردي.

ويعد "كتاب التيجان في ملوك حمير" لابن منبه مثالاً ناصعاً في تمثيل هذا التقليد. وقد وصف الدكتور عبد العزيز المقالح هذا الكتاب بأنه يمثل فجر القصة العربية وطريقة روايتها[1]. وهو رأي مبني بالطبع على أساس تاريخي بوصف الكتاب من أوائل ما وصل إلينا مدونا، لكن الكتاب أيضا ومن الناحية الفنية عبارة عن قصص تتخذ من اللاواقعية تقليدا فنيا. ويتمثل هذا التقليد في ما لدى المؤلف، وهب بن منبه، من مرجعيات استقاها من الكتب المقدسة التي كانت قد نزلت قبل الإسلام بزمن طويل، واستثمر معها ما لديه من تخييل سردي كانت قد ترسخت بعض أصوله فيما عرفه الإنسان في الحقب الماضية من خرافات وأساطير وملاحم.

وهذا الإبداع المستقى من مرجعيات دينية والمطعم باستثمار المخيلة والاستناد إلى تقليد اللاواقعية هو ما تعارف المؤرخون والدارسون على وسمه بالإسرائيليات[2]، وطبّقها وهب بن منبه في غالبية مروياته الحكائية، مستندا إلى"لا واقعية" ما جاء في الحكايات الخرافية والاساطير من أخبار وأحداث، وبها دعّم ما سرده من قصص قرآني عن خلق الأرض والسماء وسير الأنبياء وأحوال الإنسان والأشياء، موظفاً مرجعياته الدينية وما خبره عن الديانتين اليهودية والنصرانية من كتب سماوية فضلا عما كان يعرفه عن الديانات الأخرى الوضعية. فكان أمامه في تمثيل اللاواقعية خياران:

الأول أن يستعمل التخييل التاريخي في التأويل، مستشهدا بالآيات والأحاديث القدسية والنبوية والأشعار والأمثال كما في قصة اختيار آدم خليفة في الأرض وقصة بناء نوح للفلك وقبلهما قصة خروج آدم من الجنة:

"قال وهب: وإنّ الله لما خلق الجنة حين شاء كيف شاء حيث شاء في سابق علمه خلق النار، وصار إبليس والجان إلى الجنة وهم لا يتناسلون في الجنة وإن الجان تنافسوا في الجنة وطغى بعضهم على بعض. وسفك بعضهم دم بعض وغضب الله على الجان فأوحى الله إلى جبريل أن أخرج الجان من جواري، وطهر منهم جنتي. فأخرجهم جبريل من الجنة إلى أرضنا هذه فأسكنهم جزائر البحار وقفار الأرض وبقي إبليس مع الملائكة يعبد الله".[3]

الثاني أن يوظف التخييل السردي إلى أبعد حدوده اللاواقعية، وذلك حين يتحدث عن واقع لم يصوره القص القرآني مستعملا الأساليب الآتية:

=1= استبطان دواخل الشخصية، من ذلك مثلا نقله مشاعر قابيل وهو يقتل هابيل: "فلما رآه ميتا اقبل عليه يدعو وينادي يا هابيل. ندم وأدركه الخوف وعلم أنه الموت. وضاقت عليه الأرض".[4]

=2= الأوصاف المكانية المتخيلة كما في حكاية حرب يعقوب لعاد وقد وعدهم بالجنة إن هم أطاعوا الله فسألوه أن يصف لهم الجنة والنار، فقال لهم:

"هي جنة بناؤها بطون العقيان، وطينها لجين، وفيها حور العين أبكار، والفواكه الدائمة التي لا تنقطع، والأنهار من كل الاشربة تجري بين القصور تحتها، والغرف المبنية من الياقوت على أعمدة اللؤلؤ والزمرد والزبرجد، وقيعانها من فتيت المسك والكافور والزعفران. قالوا: فصف لنا النار؟ قال لهم: هي سوداء مظلمة مدلهمة، وهي طبقات: الهاوية والجحيم ولظا وجهنم والعسير، وأوديتها: موبق والزمهرير. وطعامها الزقوم من أكله سالت عيناه واحرق حشاه، وشرابها الغسلين يتساقط منها لحم الوجوه قبل ان يصل إلى أفواه الشاربين مع مقاربة الزبانية المعذبين".[5]

=3= الأحلام أسلوب آخر من الأساليب التخييلية في تمثيل اللاواقعية، على شاكلة القول: "رأى في منامه كأن...". وأساسات هذا الأسلوب اللاواقعي تعود إلى ملحمة جلجامش التي دشنت اللامحاكاة ومعها اللاواقعية. ومن أمثلة هذا الأسلوب ما جاء في قصة عابر بن سام من سرد غير واقعي:

"رأى في منامه كأن بابا من السماء فتح له ونزل منه ملك فأخذ بيديه فأقامه قائما، فشق صدره ونزع قلبه فشقه وغسله ثم أطبقه فعاد صحيحا كما كان، ثم رده في صدره وجر يده على صدره فعاد سويا. ورأى كما رأى في الليلة الأولى، فرأى كأن الملك أتاه فأخذه بيده وأقامه على نفسه ثم قال: هات الصحيفة يا عابر فأتى بالصحيفة عابر فقال له الملك: اقرأ يا عابر بن سام. قال له عابر: ما الذي أقرأ؟ قال اقرأ: اشهد الله بالحق، بسم الله الرحمن الرحيم. اشهد الله أنه لا إله إلا هو، فقرأها معه مرارا فلما أصبح عابر ازداد وحشة وفرارا من قومه"[6]

فالأحلام تبرر لا واقعية السرد من ناحية، وتكسب السرد منطقية من الناحية الأخرى، وبالشكل الذي يجعل الحبكة مسببة بعوامل تؤدي إلى نتائج معها يصبح أمر التقبل للحدث غير المعقول ممكنا ومفهوماً وطبيعياً.

=4= القطع والفصل والتكرار في الأحداث يمنح عناصر السرد لا واقعية مقربا إياها من الشفاهية الملحمية، ومتيحا للحكاء أن يوسّع سرده؛ فيطول بشكل ملحمي كما في قصة شداد بن عاد، وهي تدور حول الموت والحياة. وعادة ما يكون القطع بالأشعار. أما الوصل فبالسرد بضمير المتكلم الذي معه يغيب الحكاء وتحضر الشخصية، كتبعة من تبعات تأثير ملحمة جلجامش في الحكائين العرب. ومما ورد في أحد مقاطع هذه القصة:

"ثم دخل الباب فإذا هو بدار عظيمة وفيها بيت في وسطه سرير من ذهب وعليه شيخ على رأسه لوح من ذهب معلق وسقف البيت فيه مرصع بأصناف اليواقيت وعلى رأسه في الحائط لوح من ذهب فيه مكتوب: أنا شداد بن عاد عشت خمس مائة عام وافتضضت فيها ألف بكر وقتلت ألف مبارز وركبت ألف جواد من عتاق الخيل"

ثم تقطع خمسة أبيات شعرية السرد ليواصل بعدها القول:

"ثم ملت إلى الركن الذي عن يمينه فإذا هو سرير من ذهب وعليه جاريتان فوق رأسيهما في الحائط لوح من ذهب أو قال من عاج فيه مكتوب: أنا حبة وهذه لبة بنت شداد بن عاد أتت علينا أزمان فيها الطارف والتليد على عبيدنا. فمن رآنا فلا يثق بالزمان وليكن على بيان فإنه يحدث العز والهوان".[7]

=5= الإسرائيليات هي تخيلات جمعية مستمدة من مرجعيات دينية لا يعرف لها مصدر محدد، ولها حضور واضح في السرد العربي القديم المستند إلى القص القرآني. وقد ذهب الدكتور عبد العزيز المقالح إلى أن الإسرائيليات في جانبها التاريخي أو الأسطوري تشوّق القراء عامة والدارسين والأدباء خاصة من الذين يرون في الأساطير هدفا في حد ذاته[8]. ومن أمثلة استعمال الإسرائيليات في بناء السرد غير الواقعي، قصة لقمان بن عاد وتتخللها جملة قولية هي: "قال وهب" وفيها يكون المؤلف ناقلا عن سارد كان قد سمع وشاهد وربما شارك ومن ثم صار له موقف ورأي.

ولا يخفى ما في النقل من رفع الحرج في تخريج اللاواقعي من الأفعال أو المساهمة فيها، فناقل الكفر ليس بكافر، ولا ذنب للحكاء وقد ترك ميدان القص لسارد يتكلم بما يريد ويشتهي. وما ترك الدور سوى انسحاب وسكوت، يعفيان الحكاء من احتمال أن يكون متقولا على النص القرآني كما يمنحانه موثوقية أكثر ويعطيانه مسوغات التخييل التي بها تتصاعد اللاواقعية داخل السرد. فدعوة لقمان التي أراد فيها الحصول على الخلود لن تستجاب ولكن إطالة العمر قد أجيبت، وعليه أن يختار:

"إن شئت بقاء سبع بقرات عفر على جبل وعر لا يمسهن ذعر وإن شئت بقاء سبع نوايات من تمر مستودعات في صخر لا يمسهن ندى ولا قطر وإن شئت بقاء سبعة نسور كلما هلك نسر عقب بعده نسر. قال وهب: فكان إن اختار سبعة نسور. قال وهب: فيذكر انه عاش ألفي سنة وأربعمائة سنة وهو صاحب لبد، قال وهب: وكان لقمان يأخذ فرخ النسر من وكره فيربيه حتى يموت وهو يطير مع النسور ويرجع إليه".[9]

والقصة طويلة وهي تستمر على الشاكلة نفسها من اللاواقعية مع تكرار الجملة القولية "قال وهب":

"ثم قص عليه كيف رأى جهنم والجنة ثم قص عليه كيف رأى أنه علّق سيفه بالثريا مصلتا وأنه أخذ الشمس والقمر وتبعته النجوم والدراري ونزل بهم إلى الأرض ومشى بهما في الأرض والنجوم تتبعه ثم قصَّ عليه كيف أكل الأرض بجبالها وشرب البحار كلها ثم شرب عامة ماء البحر المحيط حتى أتاه كدر وحماة فلم يستطع شربه وكف عنه".[10]

=6= الجان عنصر مهم في السرد غير الواقعي وعادة ما يكون في شكل شخصية عاقلة داخل السرد كما في قصة الهدهاد بن شرحبيل، والد الملكة بلقيس، وهي قصة طويلة وفيها يعمد وهب بن منبه إلى تصعيد اللاواقعية بشخصية الجنيّة رواحة:

"ومضى الهدهاد إلى شعب عظيم فاختفى فيه فبينما هو مستتر بشجر أراك إذ سمع كلاما فراعه فسل سيفه فاقبل إليه نفر جان، حسان الوجوه عليهم زي حسن فدنوا منه فقالوا: عم صباحا يا هدهاد ولا بأس عليك وجلسوا وجلس فقالوا له: أ تدري من نحن؟ قال: لا. قالوا: نحن من الجن ولك عندنا يد عظيمة: قال ما هي؟ قالوا له: هذا الفتى أخونا من أبناء ملوكنا هرب له غلام أسود فطلبه فأدركه بين يديك فكان ما رأيت وفعلت. فنظر الهدهاد إلى شاب أبيض أكحل في وجهه آثار خداش: قال له أنت هو؟ قال نعم. قالوا له ما جزاؤك عندنا يا هدهاد إلا أخته نزوجها منك وهي رواحة بنت سكن. بها عليك شرط لا تسألها عن شيء تفعله مما تستنكر منها فإن سألتها فهو فراقها قال: نعم. قالوا: وأولدها ولدا ذكرا فلما شب وصار ابن سنة فبينما هو يناغيه إذ أقبلت كلبة من باب المجلس فأخذت برجل الطفل وجرته حتى ذهبت به عنه فغلب فنظر إلى رواحه فسكتت وسكت. ثم ولدت أنثى فلما صارت بذلك السن أتت الكلبة فجرت رجلها وهو ينظر فسكت وغابت به. قال لها: يا رواحة. قالت له: كيف؟ قال لها: أكف ما نال هؤلاء الأطفال؟ قالت له: فارقتك يا هدهاد. اعلم انه لم يجر منهم أحد بل هم محمولون وتلك درة تحملهم وتربيهم حتى يبلغوا خمس سنين فيأتوك انقياء"[11]

وعاشت ابنته بلقيس وأمها من الجن فمات هدهاد ووليت المُلكَ بلقيس.

وتجدر الإشارة إلى أن تقاليد الشعر كانت قد رسختها عملية جمعه وتدوينه في القرن الأول، بينما ترسخت لا واقعية السرد بالشفاهية، كوسيلة أساس في تلقي المرويات القصصية ولزمن ليس بالقليل. أما الكتابة فلم تكن وسيلة في التلقي السردي إلا بعد أن استقرت أعراف السرد العربي القديم في أزمان لاحقة ووضحت صوره الواقعية.

= = =

الإحالات

[1] ينظر: كتاب التيجان في ملوك حمير، وهب بن منبه، رواية أبي محمد عبد الملك بن هشام عن أسد بن موسى، (صنعاء: تحقيق ونشر مركز الدراسات والأبحاث اليمنية، ط1 ،1347 ه) ص 8.

[2] ربط الناقد نصر حامد أبو زيد المرويات المسماة "الإسرائيليات" بعلم التفسير وأكد "أن تلك المرويات التي رواها أهل الكتاب لم تكن نتاج تفكير فلسفي عميق ذلك أن أهل الكتاب الذين كانوا يعيشون في الجزيرة العربية لم يكونوا يتميزون على المشركين وعبدة الأوثان في مستواهم العقلي فقد كانوا كما يقول ابن خلدون بدوا مثلهم". دوائر الخوف قراءة في خطاب المرأة، نصر حامد أبو زيد (المغرب: المركز الثقافي العربي، ط3 ،2004) ص 18.

[3] كتاب التيجان في ملوك حمير، ص ص 12-13.

[4] المصدر السابق، ص 20.

[5] المصدر السابق، ص ص 45-46.

[6] المصدر السابق، ص 36.

[7] المصدر السابق، ص 78

[8] المصدر السابق، مقدمة الكتاب، ص 8.

[9] المصدر السابق، ص 79.

[10] المصدر السابق، ص 96.

[11] المصدر السابق، ص ص 145-146

D 1 آذار (مارس) 2023     A نادية هناوي     C 0 تعليقات