عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

د. عادل بن زين - المغرب

البنية السردية في المقامة الكوفية

مقاربة سيميائية من منظور مدرسة باريس


عادل بن زينتقديم

عرف الأدب العربي منذ القديم أجناسا أدبية متنوعة، منها جنس المقامة التي قدمت لها تعريفات متعددة، مردها إلى تلبس المفهوم بوجهات نظر مختلفة باختلاف الباحثين الذين قاربوه. تحيل المقامة -بفتح الميم- في مستواها اللغوي على موضع القيام، ذلك أن "المقام والمقامة: كالمكان موضع القيام فاتسع فيهما حتى استعملا استعمال المكان والمجلس"[1]، ثم توسع العرب في استعمال الكلمة لتدل على المجلس، لأن "المقامات: المجالس، واحدها مقامة. والحديث يجتمع له ويجلس لاستماعه يسمى مقامة ومجلسا، لان المستمعين للمحدث ما بين قائم وجالس، ولأن المحدث يقوم ببعضه تارة، ويجلس ببعضه أخرى"[2]. كما أن المقامة "بفتح الميم.. اسم للمجلس والجماعة من الناس. وسميت الأحدوثة من الكلام مقامة، كأنها تذكر في مجلس واحد يجتمع فيه الجماعة من الناس لسماعها"[3].

أما المقامة في مستواها الاصطلاحي فهي حكاية قصيرة تتناول بالسرد واقعة معينة بلسان سارد بليغ، داهية في التحيل لمال جلسائه، ذلك أن المقامة "حديث قصصي يرويه راو بليغ، ظريف، يتوسل الاحتيال، ويتقن الخداع، تحصيلا للعيش والارتزاق"[4]. والمقامة غير القصة بالمفهوم المتعارف عليه اليوم، وإنما يجري فيها الحديث مجرى الفن القصصي، لأن بديع الزمان الهمذاني كان "يصوغ هذا الحديث في شكل قصص قصيرة يتأنق في ألفاظها وأساليبها"[5].

تعد المقامة جنسا أدبيا عربيا خالصا، يعود تاريخ نشأتها إلى القرن الرابع الهجري، ويرجع الفضل في وضع مقوماتها النصية الفارقة إلى بديع الزمان الهمذاني تـ 398 هـ. ذلك أن "خطة المقامات هي من عمل البديع، فلا لابن فارس، ولا لابن دريد يد في صنعها. فالهمذاني هو الذي ألبسها هذا الطراز الموشى. وعلى طريقه هذه التي شقها سارت عجلة الأدب ألف عام. فعبثا العثور على أثر لهذه الخطة عند غير البديع"[6]. ثم سار على نهجه خلق كثير من الكتاب في مشرق العالم العربي وغربه، منهم أبو محمد القاسم الحريري البصري (تـ 516 ه) الذي ألف في هذا الجنس السردي خمسين مقامة، استجابة لأمر شرف الدين أنو شروان بن خالد وزير الخليفة، وقيل لأمر صاحب البصرة وواليها، أملاها جميعها على لسان أبي زيد السروجي، وأسند روايتها إلى الحارث بن همام البصري[7].

تبعا لذلك، نتناول في هذا البحث متنا مقاميا هو المقامة الخامسة للحريري الموسومة بعنوان "المقامة الكوفية"[8]. وقد وجهنا في ذلك سؤال مركزي هو: كيف يتم إنتاج المعنى في المقامة؟ كما اعتمدنا لمقاربة هذا السؤال السيميائيات، وتحديدا سيميائيات مدرسة باريس، إطارا نظريا وإجرائيا، لأنها مقاربة تضع في صميم اهتماماتها "تحديد شروط إنتاج المعنى والإمساك به"[9].

1. المعنى في التصور السيميائي

يعد مفهوم المعنى من المفاهيم المتأبية على التعريف، رغم تواتره في مختلف الحقول المعرفية كعلم الدلالة والتداوليات والسيميائيات. ويرجع سبب ذلك إلى اندراج المعنى في خانة الأشياء البديهية التي لا تستدعي التعريف. فقد ذهب ألجيرداس جوليان غريماس(Algirdas Julien Greimas) إلى أن "المعنى غير قابل للتعريف، لأنه مدرك بشكل بدهي وفطري"[10]. تبعا لذلك، يشير إلى "صعوبة الحديث عن المعنى وقول شيء معقول عنه"[11]، لأن "الإنسان يعيش في عالم دال. بالنسبة إليه، لا تطرح إشكالية المعنى، فهو مطروح، ويفرض نفسه كبداهة، و"إحساس بالفهم" بشكل طبيعي تمامًا. ففي كون "فارغ" تكون فيه اللغة تعيينا خالصا للأشياء والإيماءات، لن يكون التساؤل عن المعنى ممكنا: كل تساؤل هو لغة واصفة métalangage"[12].

تبعا لذلك، يغدو الرابط بين المعنى والوسيط الحامل له قويا، إذ لا يرد المعنى من تلقاء ذاته، وإنما يأتي مقرونا بوسيط معين، قد يكون نصا أو صورة. ذلك أن "تعاملنا مع التجربة المعنوية يتم من خلال وسائط محسوسة، فلا وجود للمعنى إلا من خلال استثماره في وقائع قابلة للإدراك والمعاينة: قد يتعلق الأمر بالنصوص المكتوبة أو الشفهية، كما قد يتعلق الأمر بما ينتجه الإنسان من وقائع عبر جسده وطقوسه"[13]. ويقترن المعنى في المنظور السيميائي بالتجربة الإنسانية التي ولدت فيها الواقعة الحاملة للمعنى، لا بالمقومات الذاتية لهذه الواقعة، لأن "المعنى ليس محايثا للشيء وليس منبثقا من مادته، إنه وليد ما تضيفه الممارسة الإنسانية إلى ما يشكل المظهر الطبيعي للمادة"[14]. يترتب على ذلك أن المعنى الذي تنطوي عليه الواقعة الحاملة له يشيد بناء على المواضعات والأعراف الثقافية التي تنتمي إليها هذه الواقعة، لأن "المعنى واقعة ثقافية، يحتاج بناؤه إلى تعبئة كل المعارف التي يشير إليها النص ويبنى ضمنها"[15].

يتمفصل المعنى في أي واقعة سيميائية إلى مستويين، أولهما المستوى التقريري الذي يهتم بوصف المكونات الذاتية التي تتشكل منها الواقعة الثقافية، بعيدا عن الدلالات الإضافية الناتجة عن الفعل التأويلي. فالمستوى التقريري للمعنى هو "ما يَمْثُل مباشرة من خلال الوجه المرئي للواقعة، أو من خلال ما تقدمه الواقعة في شكلها الظاهري"[16]. وثانيهما المستوى الإيحائي الذي يكون فيه المعنى مضمرا، ولا يتم التصريح به مباشرة في الواقعة، بل يتم بناؤه من خلال استنطاق الدوال المختلفة التي تتضافر فيما بينها لتكوين الواقعة، وذلك استنادا إلى النسق الثقافي الذي تنتمي إليه، لأن هذه الدوال يتم إدراجها في بنية الواقعة محملة بذاكرة ثقافية خصبة، غذتها روافد دينية وفلسفية وأسطورية وتاريخية...إلخ. فالمعنى في هذا المستوى "مستتر ومفترض من خلال النسخة المتحققة. ذلك أن أي تحقق ليس سوى انتقاء يؤدي إلى تحيين عناصر وإقصاء أخرى. إنه يدفع بمجموعة كبيرة من الوحدات الدلالية إلى التراجع لكي يستقيم وجود الواقعة. إن خلق كيان مستقل ومنسجم يفترض القيام بتهذيب الوحدات الدلالية وتشذيبها"[17].

2. سيميائيات مدرسة باريس: المبادئ والبنيات المسؤولة عن إنتاج المعنى

تعد سيميائيات مدرسة باريس أو السيميائيات السردية فرعا من السيميائيات العامة، تتخذ لها موضوعا محددا هو شكل المعنى، إذ تهتم بدراسة الكيفية التي يتم بها إنتاج المعنى في الأنساق الثقافية عامة، والنص خاصة. فالسيميائيات السردية لا تسائل "ماذا يقول النص؟ ولا من يقوله؟ بل كيف يقول النص ما يقوله؟"[18]، كما تسعى إلى "تشييد نظرية عامة لأنساق الدلالة"[19]. لذلك، تتميز السيميائيات السردية عن غيرها من "النظريات الأخرى في المجال السردي بخاصية أساس يمكن تحديدها في صيغة بسيطة: مشكلة المعنى. فمقاربة نص ما لا يكون لها معنى إلا في حدود طرحها للمعنى كهدف وغاية لأي تحليل. فالتعرف على المعنى وتحديد حجمه لا ينفصل عن الميكانيزمات التي أنتجته"[20].

تستند سيميائيات مدرسة باريس في الكشف عن البنيات السيميائية المسؤولة عن إنتاج المعنى في النصوص والخطابات إلى ثلاثة مبادئ، أولها مبدأ المحايثة (Immanence) الذي يتمثل في الاحتكام إلى الشروط الداخلية المسؤولة عن إنتاج الدلالة بعيدا عن أي مرجع خارجي. فاستنادا إلى هذا المبدأ يعتبر المعنى أثرا ناتجا عن لعبة العلاقات القائمة بين العناصر الدالة[21]. وثانيها مبدأ التحليل البنيوي الذي يتجلى في دراسة البنيات الشكلية المختلفة والعلاقات القائمة فيما بينها، لأن المعنى لا يتحقق إلا من خلال الاختلاف. وتتخذ السيميائية السردية طابعا بنيويا، لأنها "تهدف إلى وصف شكل المعنى، ليس المعنى في حد ذاته، بل هندسة المعنى"[22]. أما المبدأ الثالث فهو تحليل الخطاب الذي يتمثل في تجاوز مقاربة الجملة إلى مقاربة الخطاب. ذلك أن "تحليل الخطاب هو الذي يميز السيميائيات "النصية" عن اللسانيات البنيوية "الجملية". فإذا كانت اللسانيات تهتم ببناء الجمل وإنتاجها أو بالكفاءة الجملية، فإن السيميائيات تهتم بموضوع بناء نظام وإنتاج الخطابات والنصوص، أو الكفاءة الخطابية"[23].

شيد غريماس تصورا خاصا للمسار التوليدي للمعنى، استنادا إلى تأمل الكيفية التي يشتغل بها الذهن البشري الذي ينطلق من عناصر بسيطة لكي يصل إلى خلق موضوعات ثقافية كالآداب والأساطير والصور، مما يجعل الذهن يسلك مسارا متناميا، ينتقل من البسيط إلى المعقد. تبعا لذلك، يمر المسار التوليدي للمعنى من المحايثة إلى التجلي من خلال ثلاث بنيات رئيسة[24]:

1. البنيات العميقة: تشير هذه البنيات إلى الكيفية التي تتحدد بها الكينونة الأساسية للإنسان، سواء في مستواها الفردي أو مستواها الجماعي، وهو ما يشير إلى ضرورة تحديد شروط وجود الموضوعات السيميائية. وتتخذ العناصر الأولية للبنيات العميقة طابعا منطقيا[25]. وتتمفصل البنيات العميقة إلى مستويين، أولهما مستوى شبكة العلاقات التي تصنف قيم المعنى حسب العلاقات القائمة فيما بينها، وثانيهما مستوى نظام العمليات الذي ينظم الانتقال من قيمة إلى أخرى[26].

2. البنيات السطحية: تكوّن هذه البنيات نحوا سيميائيا، ينظم الأشكال الخطابية للمضامين القابلة للتجلي في أشكال خطابية مختلفة[27]. وتشتغل البنيات السطحية من خلال مستويين، أولهما التركيب السردي الذي يتم فيه تنظيم تتابع الحالات والتحولات. وقد بلورت السيميائيات السردية في البداية جهازا صوريا للكشف عن تتابع الحالات والتحولات هو البرنامج السردي الذي يستطيع الإحاطة بحالات وتحولات أصغر حكي ممكن، لكن الخطاب السردي بنية معقدة تتطلب جهازا يستطيع استيعاب هذا الطابع المعقد، مما حدا بغريماس إلى طرح الخطاطة السردية القانونية التي يراها قادرة على "مَفْصَلة كل كون دلالي في الخطاب"[28]. وثانيهما التركيب الدلالي الذي يتم فيه إلباس البنية السردية بالدلالة من خلال المسارات التصويرية التي تولد الأدوار التيمية. يتعلق الأمر بـ "انتقال يقودنا من المكون التركيبي حيث تمثل الحكاية أمامنا كسلسلة من الحالات والتحولات وتتأسس كبنية سردية، إلى المكون الخطابي بصفته استثمارا دلاليا لهذه البنية. بعبارة أخرى ننتقل من الخطاطة السردية إلى ما يشكل الأبعاد الدلالية للنص السردي"[29].

3. بنيات التجلي: تقوم هذه البنيات بإنتاج الدوال وتنظيمها من خلال التحقق اللساني للنص أو أي مادة أخرى، ويتم دراسة هذه البنيات من خلال الأساليب السطحية لليكسيمات والأشكال والألوان...[30]. وتشتغل بنيات التجلي برصد ثلاث بنيات في النص السردي هي بنية الممثلين، وبنية التزمين، وبنية التفضيء.

تعد هذه البنيات الثلاثة ضرورية لرصد السيرورة السيميائية المسؤولة عن إنتاج المعنى في النص السردي، لأن المعنى ينشأ وفق منطق التظافر بين كل المكونات الدالة، أو بتعبير رولان بارث (Roland Barthes) يصبح كل ما يؤثث النص وظيفيا[31]. وبما أن البحث مقيد بضوابط النشر في المجلة، ارتأينا أن نعكف على المكون السردي الذي ينتمي إلى المستوى التركيبي في النص المقامي من خلال الخطاطة السردية فقط، باعتبارها "إطارا صوريا يمكن من وصف معنى الحياة"[32]. وهذا لا يعني أن البنيات الأخرى التي استغنينا عنها ذات وظيفة ثانوية، ذلك أن بنيات النص تشتغل نسقيا لإنتاج المعنى.

3. الخطاطة السردية وبناء المعنى في المقامة الكوفية

تعد الخطاطة السردية جهازا صوريا يتيح الكشف عن تنظيم مختلف الحالات والتحولات التي تحدث في المسار السردي داخل النص، ذلك أن النص في مستواه السردي "متتالية من الحالات والتحولات المترابطة فيما بينها: فالحالة الأولى تتحول إلى حالة ثانية وهكذا دواليك"[33]. ولا تكون هذه التحولات اعتباطية، بل تكون خاضعة لمقتضيات منطقية وزمنية تتيح للنص انسجامه. تبعا لذلك، تغدو الخطاطة السردية "النموذج المرجعي الذي يمثل التنظيم العميق للمحكي"[34]، و"عنصرا منظما ومتحكما في التحولات ... ونموذجا لكل التحولات الواقعة بشكل تجريدي في مستوى يتسم بالمفهومية"[35].

تستعيد الخطاطة السردية التي بلورها غريماس النموذج الصوري الذي صاغه الشكلاني الروسي فلاديمير بروب (Vladimir Propp) لوصف البنية السردية في الحكايات الخرافية، وهو نموذج يتشكل من ثلاثة اختبارات تبرز مختلف الحالات والتحولات التي يخضع لها البطل في بحثه عن موضوع القيمة. يتمثل أولها في الاختبار التأهيلي (L’épreuve qualifiante) الذي يتمثل في حصول البطل على المؤهلات الضرورية التي تتيح له إنجاز الفعل، ويتجلى ثانيها في الاختبار الرئيسي (L’épreuve décisive) الذي يشير إلى المواجهة بين الذات البطلة والذات المضادة حول الهدف المنشود، وهي مواجهة تنتهي بهيمنة الطرف المتمكن من المؤهلات على الطرف الفاقد لها. أما ثالثها فهو الاختبار التمجيدي (L’épreuve glorifiante) الذي يتمثل في تقييم إنجاز البطل لمعرفة مدى مطابقته لمقتضيات العقد المبرم بين المرسل والمرسل إليه، وهو اختبار يتحقق فيه الجزاء إيجابيا فتتم مكافأة البطل لنجاحه في تنفيذ المهمة أو سلبيا فتتم معاقبته لفشله في ذلك[36].

تنتظم الخطاطة السردية في أربعة مكونات تشتغل على نحو تظافري للكشف عن الآليات المسؤولة عن إنتاج المعنى داخل النصوص، تتمثل في التحريك والكفاية والإنجاز والتصديق، كما سيتضح لاحقا. فكيف تشتغل هذه المكونات الأربعة للكشف عن كيفية إنتاج المعنى في المقامة الكوفية؟

أ. المتن السردي للنص المقامي

استهل السارد الحارث بن همام المقامة بوصف ليلة السمر التي يستمتع بها، فهي ليلة حالكة يكسر حلكتها قمر منير، يسمر فيها مع جماعة من السُّمار يتمتعون بمستوى عال من فصاحة اللسان وغزارة المحفوظ، مما يجعل مجالستهم لحظة ماتعة للنفس. بعد ذلك انتقل السارد إلى سرد المجريات اللاحقة، إذ لما أوشك الفجر على البزوغ، ودب في أوصال السّمّار دبيب النوم، سمع السمار طرقا على الباب، فإذا بعابر سبيل يبادرهم بقول شعري يشي بفصاحة في اللسان، تبينوا منه طلب الضيافة، فتعرف عليه الحارث بأنه أبو زيد السروجي، فرحبوا به وأكرموا ضيافته، وتوسموا فيه ليلة جديدة ملؤها السرور والحكي. ثم طلب الحارث من أبي زيد سرد حكاية من حكاياته الطريفة، فلبى طلبه بأن سرد له قصة جرت له في الطريق إلى مجلس سمره، تدور أحداثها حول طرقه لباب رغبة في الضيافة، ففتحه له غلام اسمه زيد، تخلى أبوه عن أمه بَرَّة عندما كانت حبلى به، فعلم أبو زيد أن الغلام ابنه، وأن برَّة زوجته، فتمنى العودة إليه ليعترف له بأبوته، ويضمه إليه ما بقي له من عمره، لكن ظروفه المادية القاهرة لا تتيح له تحقيق رغبته، فغادره بنفس مكلومة تتقطع حزنا وألما. وعندما انتهى أبو زيد من السرد، انتابت السمار حالة من الحزن والهم، فجمعوا له نصيبا من المال يعينه على استعادة ابنه، فأخذ منهم المال، واستعاد عافيته فنشر في الجماعة حالة من السرور والبهجة. ولما طلعت الشمس وأخذ السمار في التفرق، أبدى الحارث بن همام رغبته في مرافقة أبي زيد السروجي لرؤية ابنه لمحادثته، فشرع هذا الأخير في الضحك استهزاء به، فأنشد له أبياتا تشي بأن قصته مع ابنه مجرد خدعة اخترعها للاحتيال على مال الجماعة، فكظم الحارث بن همام غيظه.

ب. حالة الانفصال البدئي

بناء على المتن السردي للنص المقامي، يتضح أن ذات الحالة المتمثلة خطابيا في أبي زيد السروجي S1 تتحدد بموضوع القيمة المتمثل خطابيا في الحصول على المال O1، إذ لا تتعرف ذات الحالة في التصور السيميائي السردي إلا بعلاقتها بموضوع القيمة. تبعا لذلك، تشير علاقة الذات بالموضوع إلى نوعين من ملفوظ الحالة، يتمثل أولهما في ملفوظ الحالة الانفصالي الذي تكون فيه الذات منفصلة عن الموضوع، ويتجلى ثانيهما في ملفوظ الحالة الاتصالي الذي تكون فيه الذات متصلة بالموضوع[37]. والبادي أن المقاطع الأولى من النص المقامي تكشف عن انفصال ذات الحالة عن موضوع القيمة، إذ نظفر في هذا النص ببعض ملفوظات الحالة التي يمكن تأويلها في اتجاه التدليل على حالة الانفصال بين الذات والموضوع، نذكر منها قول أبي زيد السروجي[38]:

جدول تحليل سيميائي

تشير هذه الأبيات الشعرية إلى الوضعية الاجتماعية المزرية لأبي زيد السروجي، فهو شحاذ يتسول القرى والمستقر من جماعة السمار. من هنا، تغدو هذه الوضعية المرتبطة بالبطل دالة على حالة النقص المالي الذي يعاني منه أبو زيد السروجي، وهو ما يتيح لنا صياغة حالة الانفصال القائمة بين ذات الحالة وموضوعها القيمي على النحو الآتي:

جدول تحليل سيميائي

ج. حالة الاتصال وتدخل الذات الفاعلة

تشكل حالة الانفصال القائمة بين ذات الحالة وموضوعها القيمي بؤرة التطور الدينامي للبرنامج السردي الأساسي للذات الفاعلة، ذلك أن الذات في التصور السيميائي السردي نوعان، إحداهما ذات الحالة التي تتحدد بالنظر إلى موضوعها كما بينا آنفا، وذات الفعل التي تتحدد بالإنجاز المتمثل في تحقيق برنامج سردي من شأنه إحداث تحول للحالة. فـ "الذات العاملة (sujet operateur) تتحدد في علاقتها بالإنجاز الذي تحققه، وتسمى أيضا ذات الفعل (sujet de faire). ويتحدد ملفوظ الفعل بالعلاقة القائمة بين الذات العاملة والفعل"[39].

تبعا لذلك، تغدو مهمة سد النقص المالي الذي تعاني منه ذات الحالة المتمثلة في أبي زيد السروجي منوطة بتدخل ذات الفعل التي ستعمل على إحداث التحول من حالة النقص إلى حالة سد النقص، أو الانتقال من حالة الانفصال إلى حالة الاتصال، وذلك من خلال إنجاز جملة من البرامج الاستعمالية التي تؤدي إلى تحقيق البرنامج السردي الأساسي. ففي السيميائيات السردية يتم التمييز بين نوعين من البرنامج السردي، أولهما البرنامج السردي الأساسي الذي يشير إلى الهدف الأساسي الذي تسعى الذات الفاعلة إلى تحقيقه، وثانيهما البرنامج السردي الاستعمالي الذي يعدا برنامجا وسيطا تنجزه الذات الفاعلة من أجل إنجاز البرنامج السردي الأساسي. ويمكن صياغته على النحو الآتي:

جدول تحليل سيميائي

الظاهر من خلال النص المقامي أن ذات الحالة المتمثلة في أبي زيد السروجي هي نفسها الذات الفاعلة S1، مما يعني أننا بإزاء فعل انعكاسي وليس فعلا متعديا، وهو ما يمكن صياغته من خلال الترسيمة الآتية:

جدول تحليل سيميائي

1.3. التحريك

يقصد بالتحريك[40] فعل الحث الذي يمارسه إنسان على أخيه الإنسان لتحفيز همته لإنجاز فعل معين، لأن التحريك "فعل إنسان على إنسان آخر بغرض دفعه لتنفيذ برنامج معين"[41]. ويستدعي تحقق التحريك توفر عاملين بالضرورة، يتمثل أولهما في المرسل الذي يمارس فعل التحريك، ويتجلى ثانيهما في المرسل إليه الذي يُمارَس عليه هذا الفعل، لأن التحريك "بنية تواصل تهدف إلى فعل/معرفة من خلاله يدفع المُرسِل – المحرِّك المرسَل إليه – المحرُّك إلى وضع من انعدام الحرية اللا قدرة على اللا فعل"[42]. تبعا لذلك، تنشأ بين طرفي التواصل بنية تراتبية يكون فيها المرسل مهيمنا، بحكم ما يتمتع به من سلطة مادية أو معنوية، على المرسل إليه الذي ينصاع لتنفيذ البرنامج السردي. إذ يتم وسم "الزوج المرسل/ المرسل إليه بعلاقة التوجيه التي تمنح المرسل أولوية على حساب المرسل إليه"[43].

كما يعد التحريك علاقة ائتمانية قائمة على وجود عقد بدئي يكون صريحا أو ضمنيا، يتوافق عليه المرسل والمرسل إليه، إذ يقترح العامل الأول على العامل الثاني برنامجا سرديا، يكون إنجازه مرهونا بالجزاء إيجابا أو عقابا. لذلك، عندما يقبل المرسل إليه العقد يتحدد ذاتا سيميائية تريد إنجاز برنامج سردي. ويرتبط التحريك بالإقناع برابط قوي، إذ يتشيد العقد الائتماني على الكفاءة الإقناعية التي يتمتع بها المرسل، والكفاءة التأويلية للمرسل إليه التي تتيح له إدراك بنود العقد.

لذلك، ينتمي التحريك في الخطاطة السردية إلى المستوى المعرفي، لأنه مرحلة سابقة على الفعل المتعلق بتنفيذ الذات الفاعلة للعقد المتمثل في البرنامج السردي، كما يتمفصل التحريك إلى فعلين من طبيعة معرفية، أولهما الفعل الإقناعي الذي يرتبط بالمرسل، وثانيهما الفعل التأويلي الذي يعود إلى المرسل إليه. ذلك أن العامل الأول يقترح على العامل الثاني برنامجا سرديا، ويقنعه بجدوى قيمه الثمينة استنادا إلى آليات إقناعية مختلفة كالترغيب والترهيب، بينما يفحص العامل الثاني البرنامج السردي استنادا إلى ما تراكم لديه من كفايات مختلفة، تتيح له قبول البرنامج السردي أو رفضه. فـ "من خلال موقعه التوزيعي بين "إرادة" المرسل وبين الإنجاز الفعلي لبرنامج سردي ما من طرف المرسل إليه/ ذات البرنامج الذي يقترحه المحرك، فإنه يستند أساسا إلى الإقناع. ويتمفصل هذا الإقناع في إقناع يعود إلى المرسل، وفعل تأويلي يعود إلى المرسل إليه"[44].

كما يعد التحريك بنية صوغية (structure modale) يمرر من خلالها المرسل بعض المواضيع الصوغية التي تتيح للمرسل إليه إنجاز البرنامج السردي، من قبيل: /وجوب الفعل/ أو /إرادة الفعل/ أو/معرفة الفعل/ أو/القدرة على الفعل/.

بناء عليه، يكون التحريك في النص المقامي المدروس مزدوجا، إذ يشتمل على مرسلين مختلفين يوجهان مرسلا إليه واحدا هو أبو زيد السروجي. وبيان ذلك على النحو الآتي:

1.1.3. المرسل الأول: الرغبة في الخروج من دائرة الفقر:

يتحدد المرسل الأول في النص المقامي في رغبة المرسل إليه أبي زيد السروجي في الخروج من دائرة الفقر التي تعيش فيها. ذلك أن هذه الرغبة الشديدة هي التي تحفز أبا زيد السروجي على العمل جاهدا من أجل سد حالة النقص المالي التي يعاني منها. وقد استثمر النص المقامي بعضا من الملفوظات السردية التي يمكن تأويلها في اتجاه بناء صورة العامل المرسل-المحرِّك، منها[45]:

جدول تحليل سيميائي

تحتوي هذه الأبيات على جملة من الصور (figures) تفصح عن الحالة المزرية التي وصل بها أبو زيد السروجي إلى مجلس السمر، فهو عابر سبيل في ليل مظلم، يعاني من وعثاء سفر طويل، ويعاني من الفقر الشديد الذي غدت علاماته بادية عليه، إذ يبدو مشعث الشعر، تغطيه سحابات الغبار، وتقوس ظهره من شدة الهزال، لا يرغب في القدوم إلى أهل السمر إلا للحصول على القرى الذي يقيه الفقر، والمنزل الذي يستريح فيه من وعثاء السفر. كما تعبر عن المرسل ملفوظات أخرى مبثوثة في ثنايا النص، منها قول أبي زيد السروجي: "إن مرامي الغربة، لفظتني إلى هذه التربة، وأنا ذو مجاعة وبوسى، وجراب كفؤاد أم موسى. فنهضت حين سجا الدجى، على ما بي من الوجى، لأرتاد مضيفا، أو أقتاد رغيفا، فساقني حادي السغب، والقضاء المكنى أبا العجب، إلى أن وقفت على باب دار"[46].

يبدو جليا أن العامل المسؤول عن مفارقة أبي زيد السروجي لبيته هو الرغبة في ارتياد مضيف، أو الظفر برغيف من شأنه تحريره من الغربة التي تعد نظيرا للفقر، إذ يتغرب المرء في أحيان كثيرة بسبب الفقر المدقع، بحثا عن أفق أفضل بمستوياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية. كما تعبر عن التحريك الحالة المزرية التي وصل بها أبو زيد السروجي إلى أرض الغربة، من سماتها المجاعة والبؤس وخلو الجراب من أي زاد. من هنا، تكون الرغبة في الخروج من إسار الفقر المحرك الأساسي الذي يحفز الذات الفاعلة ويحثها على الفعل.

يتخذ التحريك في النص المقامي بعدا معنويا، ذلك أن الرغبة في الخروج من دائرة الفقر التي تحفز المرسل إليه لإنجاز البرنامج السردي من طبيعة مجردة، تتأبى على آليات الإدراك الحسي. تبعا لذلك، لا يكون التحريك دائما من طبيعة مادية، إذ قد يتلبس أحيانا بلبوس معنوي.

كما يتخذ الإقناع الذي يعتمده المرسل طابعا قسريا يعتمد الإكراه والإلزام بديلا للإقناع المستند إلى الحجة والحوار. ذلك أن الرغبة الشديدة تضغط بقوة على المرسل إليه في اتجاه تنفيذ البرنامج السردي الأساس المتمثل في اكتساب المال الذي من شأنه سد النقص الذي يعاني منه. وقد عبرت عن الإقناع القسري عديد من الملفوظات السردية التي تحتوي على بعض الصور الدالة على ذلك، منها وصول أبي زيد السروجي إلى بيت السمار في الليل المظلم، في حالة نفسية وجسدية مزرية، والضرب في الأرض طلبا للمال في حالة من الجوع والبؤس والخوف والغربة.

بناء عليه، يكون المرسل المتمثل خطابيا في الرغبة في الخروج من الفقر مسؤولا عن تمرير موضوعين صوغيتين هما /إرادة الفعل/، و/وجوب الفعل/. فالموضوع الأول يرتبط بالرغبة الجارفة التي تدفع المرسل إليه أبا زيد السروجي إلى الخروج من الضائقة المالية التي تعتصره، مما يتيح له التمتع بالخيرات التي حرم منها. ذلك أن المال قيمة مثمنة ثقافيا واجتماعيا، لا سيما في مجتمع يعاني من قساوة الفقر الذي عبرت عنه الكدية والتسول. ويظهر النص المقامي المرسل إليه ذاتا سيميائية ممتلكة لـ /إرادة الفعل/ من خلال حرصها على تنفيذ البرنامج السردي المتمثل في الحصول على المال، والدليل على ذلك حجم المشاق التي واجهها في سبيل الظفر بالمال، منها الخروج في الليل المظلم، وتحمل مشاق السفر الطويل. أما موضوع /وجوب الفعل/ فيقترن بالعقد المبرم على سبيل الافتراض بين المرسل والمرسل إليه، إذ يقتضي العقد من المرسل إليه الالتزام بالاتفاق. تبعا لذلك، يبدو المرسل إليه أبو زيد السروجي ملزما بتنفيذ البرنامج السردي الأساسي، لاعتبارات متعددة، من أهمها الخوف من الجزاء السلبي الذي يمكن أن يتعرض له لاحقا من لدن المرسل الحاكم، فضلا عن الخيرات الرمزية والمادية التي سيكتسبها في حالة الإنجاز، منها الحصول على المال الذي قد يتيح له الثراء والسلطة.

2.1.3. المرسِل الثاني: الحارث بن همام

يعد الحارث بن همام عاملا محوريا في المسار التوليدي للمعنى داخل النص المقامي، إذ يشتغل مرسلا يحرك المرسل إليه أبا زيد السروجي من خلال دفعه إلى تنفيذ برنامج سردي استعمالي، يشكل دعامة لتحقيق البرنامج السردي الأساسي. ويبدو دور الحارث بن همام في التحريك جليا في دفع المرسل إليه إلى سرد حكاية من حكاياته العجيبة، بعدما انتهى من تناول ما قدم له من الأكل والشرب، بغرض إعادة الحيوية لجماعة السمار. وقد عبر الحارث عن دوره في التحريك صراحة من خلال الملفوظ السردي الآتي: "فقلت له: أطرفنا بغريبة من غرائب أسمارك، أو عجيبة من عجائب أسفارك"[47].

تبعا لذلك، يغدو الحارث بن همام مرسلا ماديا، مرر إلى المرسل إليه موضوعا صوغيا أول يتمثل في /وجوب الفعل/ الذي يستدعي من المرسل إليه أبي زيد السروجي تنفيذا للعقد البدئي المفترض بينهما المتمثل في الحكي. وقد عبر عن هذا الموضوع الصوغي أسلوب الأمر الذي اعتمده المرسل في تحريك همة المرسل إليه وتحفيزها على الفعل، إذ يشتغل هذا الأسلوب في معناه الحقيقي علامة سيميائية دالة على وجوب الفعل. ذلك أن الأمر هو "القول المقتضى به الفعل من المأمور على وجه الطاعة"[48]. ويظهر هذا الموضوع الصوغي بجلاء عندما نفحص العلاقة القائمة بين طرفي التواصل؛ فالآمر المتمثل خطابيا في الحارث بن همام يتخذ مقاما متعاليا مقارنة بمقام المأمور المتمثل خطابيا في أبي زيد السروجي. لذلك، تغدو العلاقة التراتبية محفزا للمرسل إليه للخضوع لفعل المرسل المتمثل في تقديم الحكاية المنشودة. من هنا، يغدو الفعل الإقناعي الذي اعتمده المرسل قائما على القسر والإلزام والغصب، بدل الإقناع القائم على الحوار والمجادلة. أما الموضوع الصوغي الثاني المتمثل في /إرادة الفعل/، فيكمن في الاستجابة الفورية التي أبداها أبو زيد السروجي في تنفيذ طلب الحارث بن همام، إذ لم تصدر عنه أي إيماءة يمكن تأويلها في اتجاه غياب الرغبة في الفعل. وقد عبر أبو زيد السروجي عن هذه الإرادة الفعلية من خلال الملفوظ السردي: "لقد بلوت من العجائب ما لم يره الراؤون، ولا رواه الراوون؛ وإن من أعجبها ما عاينته الليلة قبيل انتيابكم"[49].

بناء على ما تقدم، تشكل مرحلة التحريك خطوة أولى في المسار السردي للذات الفاعلة نحو تحقيق برنامجها الأساسي المتمثل في الحصول على المال. لكن هذه المرحلة غير كافية لتمكين الذات الفاعلة من تحقيق مبتغاها المنشود، لأنها حددت وجودها السيميائي الأول الذي يتمثل في الإمكان فقط. بعبارة أخرى إن امتلاك هذه الذات للموضوعين الصوغيين المتمثلتين في /إرادة الفعل/ و/وجوب الفعل/ أتاح للذات التموضع في حالة الافتراض فقط دون الفعل. لذلك، تغدو الذات الفاعلة المتمثلة في أبي زيد السروجي ذاتا سيميائية ممكنة، كما يغدو الموضوع القيمي الذي ترمي إلى تحقيقه بدوره ممكنا، فضلا عن ذلك، يكون برنامجها السردي هو الآخر ممكنا. من هنا، يقتضي خروج الذات الفاعلة وموضوعها القيمي وبرنامجها السردي من حيز الوجود الممكن، الانتقال إلى مرحلة أرقى من مرحلة التحريك هي مرحلة الكفاية.

2.3. الكفاية

يقصد بالكفاية مجموع الشروط التي تتمتع بها الذات الفاعلة، والتي تتيح لها إنجاز برنامجها السردي. إذ يقتضي إنجاز البرنامج المنشود توفر هذه الذات بالضرورة على شروط قبلية من شأنها أن تؤهلها لتحقيق هدفها. وقد تكون الشروط التأهيلية للذات الفاعلة شروطا مادية كتمتعها بمواضيع وصفية من طبيعة جسدية، تتيح لها القدرة على الحركة بمرونة في مواجهة التحديات التي يطرحها الموضوع، وقد تكون شروطا معنوية من قبيل كفاياتها المعرفية حول هذا الموضوع. فالكفاية هي "الشروط الضرورية لتحقيق الإنجاز من خلال ارتباطها بالذات الفاعلة"[50]. من هنا، "يبدو من البديهي أن الذات لا يمكن أن تحقق إنجازا معينا إلا إذا توفرت، مسبقا، على الكفاية الضرورية. فالافتراض المنطقي يشكل، قبل أي اعتبار آخر، أساس مكون المسار السردي الذي يسبق الإنجاز"[51].

تعد الكفاية بنية صوغية تتمثل في جملة من المواضيع الصوغية التي يجب أن تحرزها الذات الفاعلة مسبقا، إذ في غيابها تغدو هذه الذات عاجزة عن الفعل. لذلك، يمكن أن تكون هذه المواضيع الصوغية موضوعا لبرامج استعمالية يتيح امتلاكها خطوة أساسية نحو امتلاك البرنامج السردي الأساسي. فالكفاية في منظور غريماس "كفاية صوغية يمكن وصفها بأنها تنظيم تراتبي للصوغية مبنية، مثلا، على إرادة الفعل، أو واجب الفعل، تتحكم في القدرة على الفعل أو معرفة الفعل"[52]. والبادي أن هذه المواضيع الصوغية نوعان، أولهما مواضيع الإمكان التي تضم /إرادة الفعل/ و/وجوب الفعل/، وثانيهما مواضيع التحيين التي تشمل /القدرة على الفعل/ و/معرفة الفعل/.

لا تكون الذات الفاعلة مزودة مسبقا بالكفاية دائما، إذ يمكن أن تظهر في النص مفتقدة لها، مما يستدعي منها بالضرورة العمل على اكتسابها. وتصبح، في هذه الحالة، الكفاية موضوعا للبرامج الاستعمالية التي تتيح للذات إنجاز البرنامج السردي الأساسي. فـ "اكتساب الكفاية يمكن أن يكون موضوعا للتطورات السردية المركبة. فحول هذا المحور الذي يشكل الإنجاز الرئيسي البرنامج الأساسي أو الرئيسي ستُتخذ أفعال ثانوية ضرورية لتحقيقها، أفعال يمكن أن تؤدي في حد ذاتها إلى ظهور برامج استعمالية"[53].

بناء عليه، تظهر الذات الفاعلة في النص المقامي المتمثلة في أبي زيد السروجي مؤهلة لإنجاز برنامجها السردي الأساسي، ذلك أنها ذات ممتلكة للشروط الضرورية المتعلقة بالمواضيع الصوغية، سواء مواضيع الإمكان أو مواضيع التحيين. فقد تبين لنا آنفا أن أبا زيد السروجي ممتلك لمواضيع الإمكان، فهو يريد إنجاز البرنامج الأساسي الذي يتيح له سد النقص المالي الذي يعاني منه، ولا يتردد في سرد الحكاية التي طلبها منه الحارث بن همام، كما أنه يعد العقد المبرم بينه وبين المرسل واجبا ينبغي الالتزام ب ببنوده، سواء في بعده المفترض في حالة المرسل الأول، أو بعده المتحقق في حالة المرسل الثاني.

فضلا عن ذلك، يبدو أبو زيد السروجي متمكنا من مواضيع التحيين المتمثلة في /القدرة على الفعل/ و/معرفة الفعل/. فالموضوع الصوغي الأول يتمثل في المواضيع الوصفية الجسدية التي يتمتع بها البطل، إذ يظهره النص المقامي خاليا من أي إعاقة جسدية تمنعه من الحركة في بحثه الدؤوب عن موضوع القيمة. وقد عبر السارد عن قدرة البطل على الفعل من خلال مجموعة من الملفوظات السردية، يمكن تأويلها في اتجاه التدليل على هذا الموضوع الصوغي، منها قدرة البطل على قطع مسافات طويلة في الليل المظلم، واجه خلالها مشاقا جسيمة، لم تحل دون وصوله إلى مجلس السمر.

كما يكمن موضوع /القدرة على الفعل/ أيضا في الآلة البلاغية التي يتمتع بها البطل، إذ أظهره النص المقامي شخصية تتمتع بقدرة رهيبة على التعبير عن مكنوناته بلسان بليغ، عذب، وسلس، لتمكنه من الآلة البلاغية، مما أتاح له حمل متلقيه على الاقتناع بوجاهة طرحه. فقد أشار الحارث بن همام إلى ذلك بقوله: "فلما خلبنا بعذوبة نطقه، وعلمنا ما وراء برقه. ابتدرنا فتح الباب. وتليناه بالترحاب"[54].

أما الموضوع الصوغي الثاني المتمثل في /معرفة الفعل/، فيقترن بالموسوعة المعرفية التي يتوفر عليها البطل. فقد شيد النص السردي لأبي زيد السروجي صورة مادحة، سماتها الموسوعة المعرفية التي يتوفر عليها، لاسيما في مجالي الشعر والحكي. ففي المجال الأول تزخر ذاكرة البطل بمحفوظ شعري غزير، يشي بذكاء ثاقب وقريحة حادة. وقد عبرت عن ذلك الأبيات الشعرية الكثيرة التي نثرها البطل سواء إبان طرقه باب السمار، أو أثناء طرقه باب ابنه زيد. أما في المجال الثاني فالبطل يتوفر على زاد حكائي مهم، من الأدلة الدامغة عليه الحكاية المتعلقة بابنه زيد التي سردها على أسماع السمار.

بناء على ما تقدم، يتضح أن الذات الفاعلة قد عبأت العديد من المواضيع الوسيطة في مسارها السردي نحو هدفها المنشود، تتوزع بين مواضيع الإمكان المتمثلة في /إرادة الفعل/ و/وجوب الفعل/، ومواضيع التحيين المتمثلة في /القدرة على الفعل/ و/معرفة الفعل/. ولئن كانت هذه المواضيع الصوغية شروطا ضرورية لتأهيل الذات الفاعلة، فإنها غير كافية لتمكينها من إنجاز الهدف المنشود، إذ أتاحت لها تحولا في وجودها السيميائي فقط. بصيغة أخرى فقد غدت الذات الفاعلة بفضل هذه المواضيع الصوغية ذاتا محينة (Sujet actualisé)، وأصبح موضوعها القيمي محينا بدوره، كما صار برنامجها السردي الأساسي هو الآخر محينا. لذلك، يستدعي تحقيق الذات الفاعلة لهدفها المنشود الانتقال إلى مرحلة أخرى حاسمة هي مرحلة الإنجاز.

3.3. الإنجاز

يقصد بالإنجاز تنفيذ الذات الفاعلة للفعل المتمثل في تحقيق البرنامج السردي الأساسي، بناء على المواضيع الصوغية التي اكتسبتها في مرحلة التأهيل، مما يتيح لها الانتقال من حالة الانفصال عن موضوع القيمة إلى الاتصال به. فـ "الإنجاز، دون اعتبار للمضمون أو لحقل التطبيق، هو تحويل ينتج "حالة شيء" جديدة، وسيكون، من خلال هذا الإنتاج، مشروطا بنوعية الكفاية التي تتطلبها الذات المنجزة من جهة، ومحكوما بخانة صوغية محددة في وجوب الفعل الضرورة أو الاستحالة التي تصفي القيم المحددة لـ "حالة الأشياء" الجديدة من جهة أخرى"[55]. تبعا لذلك، يندرج الإنجاز ضمن المستوى التداولي في مقابل الكفاية التي تندرج ضمن المستوى المعرفي[56]. والإنجاز هو "الوحدة الأكثر تميزا في التركيب السردي. وبما أنها محددة بهذا الشكل، فإنها تعد وحدة تركيبية أي خطاطة شكلية قابلة لاستيعاب محتويات في غاية التنوع"[57].

يعد الإنجاز بنية صراعية، إذ يتخذ طابعا تنافسيا بين الذات البطلة والذات المضادة، ذلك أن رهان الذات الأولى على حيازة الموضوع القيمي يصطدم بالرهان نفسه لدى الذات الأخرى، مما يترتب عليه مجابهة حادة بينهما، تنتهي بانتزاع إحداهما للموضوع. ولا تتمكن أي ذات من الذاتين المتصارعتين من امتلاك الموضوع القيمي وحرمان الذات الأخرى منه، إلا بتوفرها على المواضيع الصوغية المؤهلة لذلك. من هنا، ينتظم الإنجاز في سلسلة من الملفوظات السردية المتعاقبة القائمة على بنية الصراع كالآتي[58]:

جدول تحليل سيميائي

1.3.3. الذات المضادة

تتحدد الذات المضادة (S2) في النص المقامي في الفقر الذي يضرب طوقه السميك على الذات البطلة المتمثلة خطابيا في أبي زيد السروجي، بغرض إبقائه في دائرته محروما من النعم التي تتمتع بها فئة السمار. فالفقر هو المسؤول عن الوضعية النفسية والجسدية المزرية التي تظهر بها الذات البطلة في النص، وذلك بحرمانها من المقومات المادية الضرورية التي تتيح تحقيق الغنى، على رأسها المال. وقد وسم الفقر، بما هو ذات مضادة، الذات البطلة بجملة من العلامات الدالة على الفقر، تبدو جلية عليها منذ لحظة وصولها إلى مجلس السمار. فقد استثمر النص المقامي بعضا من الصور السيميائية التي يمكن تأويلها في اتجاه بناء صورة الذات المضادة، من سماتها قهر أبي زيد السروجي من خلال إظهاره بسمات سلبية، منها تشعث الشعر، وتقوس الظهر من شدة الهزال، وشحذ الزاد والمسكن من جماعة السمر. كما تعبر عن الذات المضادة ملفوظات أخرى مبثوثة في ثنايا النص، منها قول أبي زيد السروجي: "إن مرامي الغربة، لفظتني إلى هذه التربة، وأنا ذو مجاعة وبوسى، وجراب كفؤاد أم موسى"[59].

يعد الفقر ذاتا مضادة في النص، لأن الموضوع القيمي الذي يراهن على حيازته هو المال الذي تراهن الذات البطلة على حيازته كذلك، مما يجعل الصراع بنية واسمة لهما معا. من هنا، يغدو البرنامج السردي الأساسي للذات المضادة هو امتلاك المال الذي يحرم الذات البطلة منه، وبالتالي، يجعلها خاضعة للذات المضادة وتابعة لها. ويمكننا صياغة البرنامج السردي للذات المضادة على النحو الآتي:

جدول تحليل سيميائي

تتخذ الذات المضادة في النص المقامي طابعا معنويا، ذلك أن الفقر الذي يدخل في مجابهة مع الذات البطلة حول الموضوع القيمي من طبيعة مجردة تتأبى على آليات الإدراك الحسي. تبعا لذلك، سينصب اهتمامنا فيما يأتي على المسار السردي للذات البطلة في سعيها إلى نفي الهيمنة التي تفرضها الذات المضادة، مما يتيح لها الامتلاك الكلي للموضوع القيمي. بيد أن هذا الامتلاك لا يتحقق للذات البطلة إلا بتعبئة جملة من البرامج السردية الاستعمالية، تشتغل نسقيا مع المواضيع الصوغية المكتسبة مسبقا، كما بينها ذلك آنفا، وهو ما سنحاول رصده فيما يأتي.

2.3.3. المسار السردي لأبي زيد السروجي

1.2.3.3. البرنامج الاستعمالي الأول: طلب الضيافة

استثمرت الذات الفاعلة مجموعة من البرامج السردية ذات الطبيعة الاستعمالية، تشتغل فيما بينها على نحو تظافري لإنجاز البرنامج السردي الأساسي المتمثل في امتلاك المال الذي سيؤدي إلى انعتاقها من دائرة الفقر. يتمثل البرنامج الاستعمالي الأول الذي استهل به أبو زيد السروجي مساره السردي في طلب القرى، إذ يبدو في أول ظهور له في النص السردي ذاتا مسافرة، تبدو آثار السفر والفقر المدقع بادية عليها، تنشد هدفا محددا هو الحصول على الضيافة موقتا، مما يتيح لها حيازة القيم المتعلقة بها من قرى واستقرار، يخفف عنها وعثاء السفر، ويحميها من مخاطر الليل المدلهم. وقد عبر السارد عن هذا البرنامج من خلال الملفوظ السردي الآتي: "فلما روق الليل البهيم. ولم يبق إلا التهويم. سمعنا من الباب نبأة مستنبح. ثم تلتها صحة مستفتح. فقلنا: من الملم. في الليل المدلهم؟ فقال[60]:

جدول تحليل سيميائي

يحتوي هذا الملفوظ الشعري على عديد من الصور الدالة على مقصد أبي زيد السروجي منها: يبغي- قرى- منكم- مستقرا- ضيفا- قنوعا- البر... إلخ. والبادي جليا أن البطل استطاع الحصول على هدفه المنشود، إذ يشير السارد الحارث بن همام إلى الاستجابة إلى هدفه بقوله: "فلما خلبنا بعذوبة نطقه، وعلمنا ما وراء برقه، ابتدرنا فتح الباب، وتلقيناه بالترحاب، وقلنا للغلام: هيا هيا. وهلم ما تهيا"[61].

لئن كان أبو زيد السروجي نجح في تحقيق برنامجه الاستعمالي الأول من خلال الحصول على الضيافة من جماعة السمار، فإن هذا البرنامج لا يتيح له إنجاز البرنامج السردي الأساسي، بدليل أنه لم يحصل على أي قطعة نقدية من شأنها الدفع به إلى الخروج من دائرة الفقر. بيد أننا نرى أن هذا الإنجاز مقدمة لإنجازات أخرى ستقود حتما إلى إنجاز البرنامج السردي الأساسي.

2.2.3.3. البرنامج الاستعمالي الثاني: الاشتراط في الطعام

اعتمد أبو زيد السروجي في مساره السردي برنامجا استعماليا ثانيا، يبدو في العمق مترتبا على البرنامج الاستعمالي الأول، هو الحصول على الطعام. فقد أتاح حصول البطل على الضيافة من جماعة السمار، وما تخللها من حفاوة وترحاب وثناء، تقديم طلب جديد يهم الطعام المزمع تقديمه له، من خلال إرفاقه بجملة من الشروط التي ينبغي أن ينضبط الطعام لها. فقد أورد السارد ذلك في قوله: "فقال الضيف: والذي أحلني ذراكم، لا تلمظت بقراكم، أو تضمنوا لي أن لا تتخذوني كلا! ولا تجشموا لأجلي أكلا؛ فرب أكلة هاضت الآكل، وحرمته مآكل، وشر الأضياف من سام التكليف، وآذى المضيف، خصوصا أذى يعتلق بالأجسام، ويفضي إلى الأسقام"[62].

استثمر أبو زيد السروجي في هذا الملفوظ السردي عديدا من الصور الدالة على الموقف منه شخصيا من جهة، وطبيعة الطعام الذي ينشده من جهة أخرى. فمن حيث الجهة الأولى يشدد البطل على أن تناوله للطعام مقرون بشرطين، أولهما ضمان جماعة السمار عدم اعتباره ضيفا ثقيلا على النفس، وثانيهما عدم التكلف في صنع الطعام الذي يمكن أن يؤدي إلى الأذية. أما من جهة الطعام فيشترط البطل الأكل الخفيف الذي يطفئ نار الجوع، ولا يتخم المعدة فيفسدها، مما يترتب عليه إلحاق الأذى بالجسم. ولا تشير هذه الشروط إلى أي شكل من أشكال الخروج عن آداب الضيافة، وإنما تتضافر فيما بينها لبناء صورة مادحة للبطل، من شأنها عطف القلوب إليه وجلب عاطفتها نحوه. لذلك، اعتمد أبو زيد السروجي استراتيجية حجاجية لحمل جماعة السمار على الاقتناع بأطروحته، تنهض على تقديم حجة غير مصنوعة في هيئة مثل سائر بين الناس يحث على تعجيل العشاء، وتناول الخفيف منه تجنبا لإسقام المعدة، يتمثل في قوله: "خير العشاء سوافره"، إلا ليعجل التعشي، ويجتنب أكل الليل الذي يعشي، اللهم إلا أن تقد نار الجوع، وتحول دون الهجوع"[63].

بناء عليه، استطاع أبو زيد السروجي انتزاع اقتناع جماعة السمار بأطروحته، من خلال التعبير الصريح الذي أدلى به السارد في الملفوظ السردي الآتي: "فكأنه اطلع على إرادتنا، فرمى عن قوس عقيدتنا، لا جرم أنَّا آنسناه بالتزام الشرط، وأثنينا على خلقه السبط"[64]. تبعا لذلك، يشتغل اقتناع الجماعة بالشروط التي فرضها أبو زيد السروجي إنجازا للبرنامج الاستعمالي الثاني. وإذا كان هذه البرنامج الاستعمالي حقق للذات الفاعلة اتصالها بموضوع الطعام، فإنه لم يتح لها تحقيق البرنامج السردي الأساسي المتمثل في الحصول على المال. لذلك، ستعمد هذه الذات إلى الاستعانة باستراتيجية فعالة بمثابة عامل مساعد تتمثل في الحيلة، فإلى أي حد ستمكنها من إنجاز برنامجا السردي الأساسي؟

3.3.3. العامل المعارض/ العامل المساعد

يرتبط العامل المعارض والعامل المساعد ببنية الصراع القائمة بين الذات البطلة والذات المضادة، ذلك أن الذات البطلة في رحلة بحثها عن موضوع القيمة، تصطدم مع الذات المضادة التي تبحث بدورها عن موضوع القيمة ذاته، فتنشأ بينهما المواجهة التي تنتهي بنفي إحداهما للأخرى، مما يتيح لها امتلاك الموضوع. في هذا الشأن، يتدخل إلى جانب الذات المضادة العامل المعارض الذي يشتغل للتشويش على الذات البطلة، بغرض الحيلولة دون امتلاكها للموضوع. في مقابل ذلك، يتدخل إلى جانب الذات البطلة العامل المساعد الذي يقدم لها الدعم اللازم في بحثها عن الموضوع. وقد يكون الزوج المعارض/ المساعد كيانا إنسانيا أو حيوانيا أو جمادا، أو كيانا مجردا من قبيل الزمان أو فقدان القيم الوسيطة أو اكتسابها. فـ "وفق السير العادي لحكاية شعبية ما، فإن البطل يقوم برحلة البحث عن موضوع قيمة، وأثناء تلك الرحلة يصادف كائنات أشخاصا أو حيوانات أو عفاريت تقوم بمساعدته للوصول إلى أهدافه، إلا أنه يصادف في الآن نفسه، معيقين يحولون بينه وبين الوصول إلى هدفه النهائي"[65].

تبعا لذلك، يتمثل العامل المعارض خطابيا في الفقر الذي يشتغل في الآن نفسه ذاتا مضادة، مما يشير إلى أن العلاقة بين هذين العاملين قائمة على الانعكاس. ذلك أن الفقر هو العامل التركيبي الأساس الذي يحول دون حصول الذات البطلة المتمثلة خطابيا في أبي زيد السروجي على المال. ويحضر عامل آخر يشغل الموقع التركيبي العامل المعارض، لا يبدو جليا في البنية الخطابية للنص المقامي، لكن يمكن تأويله استنادا إلى النسق الثقافي الذي ولدت فيه المقامة. فقد وضع هذا الفن السردي لرصد التحولات السوسيو- ثقافية للشاعر في المجتمع العربي الإسلامي، إذ انحدرت قيمته الاعتبارية من كائن تحتفي بنبوغه القبائل، ويتهافت الخلفاء والأمراء على استمالته إلى القصر، إلى كائن منبوذ يعيش على هامش المجتمع، فوسم بصفات ذميمة، منها المكدي أو الشحاذ التي يحتال على الناس بشتى الطرق لسلبهم أموالهم. ذلك أن الفكرة المركزية التي تدور حولها المقامات هي الكدية أو الشحاذة[66]. من هنا، تغدو الظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي يعيش فيها البطل عاملا معارضا، إذ يصوره النص المقامي شاعرا مكديا، يشحذ المال عن طريق التحيل على جماعة السمار، كما سنوضح ذلك لاحقا.

لجأت الذات الفاعلة المتمثلة في أبي زيد السروجي إلى استراتيجية مناوِرة، تتمثل في الحيلة التي تشتغل عاملا مساعدا للحصول على موضوع القيمة. فقد استجاب البطل لطلب السارد الحارث بن همام الذي يتجلى في ضرورة سرد حكاية عجيبة من حكايات أسفاره، من شأنها نشر الفكاهة بين أعضاء جماعة السمار. فحكى قصة غريبة حدثت له في الطريق إلى مجلس السمار، مدارها أنه طرق بابا طلبا للضيافة، ففتح له الباب غلام حسن المحيا، أجاب طلبه بالرفض لكونه يعاني من فقر مدقع. فدخل أبو زيد السروجي في حوار مع الغلام، عرف على إثره أن اسمه زيد، وأن أمه بَرّة، تخلى عنها زوجها عندما كانت به حبلى. واستنادا إلى هذه الأوصاف وأخرى عرف أبو زيد السروجي أن الغلام ابنه، وأن أمه زوجته، فغادره في حالة نفسية مزرية لضائقته المالية التي تحول دون ضمه إليه، فاعترت جماعة السمار حالة من الكآبة. وقد كان ذلك محفزا للجماعة لتقدم مقدارا من المال يسعف أبا زيد السروجي في ضم ابنه إليه ليقضي معه ما بقي من العمر.

نهج أبو زيد السروجي فعلا إقناعيا لحمل الجماعة على الاقتناع بصحة حكايته مع ابنه، يتوسل بآليات الحجاج الإيتوسي من خلال بناء صورة سلبية للذات، سمتها المحورية الإزراء النفسي للفقر المدقع. قال البطل: "وصدفني عن التعرف إليه صفر يدي، ففصلت عنه بكبد مرضوضة، ودموع مفضوضة"[67]. ويرمي البطل من الاحتماء بهذه الآلية الحجاجية الإيتوسية إلى تحريك عواطف الجماعة لجلب عاطفة الشفقة والرحمة نحوه، إذ اقتنعت الجماعة بأطروحته من خلال جمع المال له. وقد عبر السارد عن ذلك بقوله: "فقلنا: إن كان يكفيك نصاب من المال، ألفناه لك في الحال؛ فقال: وكيف لا يقنعني نصاب، وهل يحتقر قدره إلا مصاب! قال الراوي: فالتزم منه كل منا قسطا، وكتب له به قطا، .... فوصلت جناحه، حتى سنيت نجاحه؛ فحين أحرز العين في صرته، برقت أسارير مسرته"[68].

بناء عليه، يتضح أن الذات الفاعلة المتمثلة في أبي زيد السروجي تمكنت من إنجاز البرنامج السردي الأساسي المتمثل في الحصول على المال، مما يتيح لها سد النقص المالي الذي تعاني منه. ويمكننا صياغة برنامج الإنجاز على النحو الآتي:

جدول تحليل سيميائي

كما يمكننا تحديد جميع العوامل التركيبية التي تضافرت فيما بينها لإنتاج المعنى في النص المقامي من خلال النموذج العاملي على النحو الآتي:

جدول تحليل سيميائي

يتضح من خلال هذه الترسيمة أن النموذج العاملي يشتغل وفقا للنظام الزوجي على النحو الآتي:

1.المرسل/ المرسل إليه: يشكل هذا الزوج محور التواصل، إذ يحث المرسل المتمثل في الرغبة في الانعتاق من الفقر المرسل إليه إلى تنفيذ البرنامج السردي الأساسي الذي يتجلى في الحصول على المال.

2.الذات/ الموضوع: يحيل هذا الزوج إلى محور الرغبة، فالذات المتمثلة في أبي زيد السروجي ترغب بشدة في الاتصال بموضوع القيمة المال، مما يتيح لها امتلاك السلطة والنفوذ. من هنا تكون العلاقة بين الذات والموضوع بالغة الأهمية في سيميائيات مدرسة باريس، ذلك أن الموضوع هو العامل التركيبي الذي تتحدد به الذات، والعكس صحيح، ففي غياب الذات يكون الموضوع هلاميا وبلا قيمة.

3.المعاكس/ المساعد: يشيد هذا الزوج محور الصراع، ذلك أن البطل في بحثه الدؤوب عن موضوع القيمة، يصطدم بالبطل المضاد الذي يرمي إلى حيازة الموضوع ذاته، مما يجعل الصراع سمة واسمة لوجودهما السيميائي. فيعمد البطل المضاد إلى تعبئة معارضين من شأنهم الحيولة دون تحقيق البطل لهدفه الأساسي، وفي المقابل يجند البطل مساعدين يقدمون له الدعم اللازم لبلوغ ما يصبو إليه. ويتمثل العامل المعارض في النص المقامي في الفقر والظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الصعبة التي تواجه البطل، أما المساعد فيكمن في الحيلة والذكاء والفصاحة.

من هنا، تتخذ الذات الفاعلة نمطا سيميائيا مغايرا للأنماط السابقة يتمثل في التحقق، إذ تغذو في مرحلة الإنجاز ذاتا محققة، كما يصبح موضوعها القيمي محققا بدوره، فضلا عن تحقق برنامجها السردي الأساسي.

4.3. التصديق

يعد التصديق المرحلة النهائية في الخطاطة السردية، إذ يتم فيها تقييم بنية العقد المبرم في مرحلة التحريك، من خلال حكم يصدره العامل المرسل حول مدى مطابقة إنجاز العامل المرسل إليه لبنية العقد. لذلك، فالتصديق مهمة يضطلع بها مرسل نهائي تفترض فيه كفاية مطلقة[69]، تخول له إصدار أحكام لا يلحقها الخطأ. ويتوزع التصديق بين نوعين هما:

= تصديق عملي (Sanction pragmatique): يعد بمثابة "حكم ابستيمي يمارسه المرسل الحاكم لمطابقة السلوكات، وتحديدا، البرنامج السردي للذات الفاعلة، مع النسق الأكسيولوجي العدالة واللباقة والجمال المعلن أو المضمر الذي تم تحيينه في العقد البدئي"[70]. ويتخذ التصديق العملي من منظور المرسل إليه- الذات طابعين، أحدهما إيجابي يتمثل في المكافأة عندما ينجح في تنفيذ بنود العقد، وثانيهما سلبي يتجلى في المعاقبة عندما يخل المرسل إليه- الذات ببنوده[71].

= تصديق معرفي (Sanction cognitive): يعتبر بمثابة "حكم ابستيمي يمارسه مرسل حاكم على كينونة الذات، وبصفة عامة، على ملفوظات الحالة المحددة بواسطة قيم تحققية (Véridictoire) وابستيمية (Epistémiques)"[72].

بناء عليه، يتخذ التصديق في النص المقامي المدروس شكلين من الحضور، نظرا إلى حضور عاملين مرسلين كما بيّنا سابقا. يتمثل الشكل الأول في التصديق المفترض الذي يضطلع به المرسل المتمثل في الرغبة في الخروج من دائرة الفقر، إذ يبدو الحكم القيمي الذي يصدره هذا المرسل غائبا في النص. ويرجع السبب في هذا الغياب إلى أن المرسل عامل معنوي، يصعب على آليات الحس المشترك الإمساك بآثاره. أما الشكل الثاني فيتمثل في التصديق التي ينجزه المرسل الحاكم المتمثل خطابيا في الحارث بن همام على إنجاز المرسل إليه المتمثل خطابيا في أبي زيد السروجي حول قصته مع ابنه زيد، إذ نظفر لهذا الشكل من التصديق ببعض الآثار في النص.

يتخذ التصديق الذي قام به الحارث بن همام طابعا معرفيا، ذلك أن الحكم الذي أصدره يستهدف أساسا كينونة أبي زيد السروجي للتعرف على مدى صدقه أو كذبه فيما يخص قصته مع ابنه زيد. لذلك، يوظف الحارث بن همام فعلا تأويليا ينتهي بموجبه إلى أن القصة المسرودة مجرد مناورة، هدفها الأساس هو الاحتيال على جماعة السمار للحصول على المال. ويحتوي النص المقامي على كثير من الملفوظات السردية الدالة على أن القصة عارية من الصحة، منها قول أبي زيد السروجي[73]:

جدول تحليل سيميائي

بناء على القيم التحققية المقترنة بالتصديق، يتضح أن قصة الابن المزعومة صادقة على مستوى الظهور، لأنها متحققة خطابيا وفق بنيات سردية منسجمة، لكنها على مستوى الكينونة كاذبة، لأنها محض مناورة احتال بها أبو زيد السروجي على مال الجماعة. ويمكننا إسقاط بنية القيم التحققية المتعلقة بالتصديق على المربع السيميائي على النحو الآتي:

جدول تحليل سيميائي

خاتمة

لقد حاولنا في هذا البحث الإجابة عن سؤال مركزي هو: كيف يتم إنتاج المعنى في المقامة الكوفية؟ وذلك باعتماد السيميائيات السردية، وتحديدا سيميائيات مدرسة باريس، إطارا نظريا ومنهجيا. تبعا لذلك، انصب وكدنا على مساءلة البنية السردية دون البنيات الأخرى، مع إدراكنا التام أن النص كل دال تتضافر جميع مكوناته على نحو نسقي لتوليد كونه الدلالي. وخلص البحث إلى جملة من النتائج، منها استهلال النص المقامي بوضعية دالة على النقص تتمثل في انفصال الذات المتمثلة خطابيا في أبي زيد السروجي عن موضوع القيمة المتمثل في المال، وانتهاؤه بوضعية دالة على سد النقص من خلال اتصال هذه الذات بموضوع القيمة. كما اتضح أن هذه السيرورة السيميائية اقتضت تدخل الذات الفاعلة المتمثلة في أبي زيد السروجي نفسه عبر إنجاز مجموعة من البرامج الاستعمالية، تضافرت فيما بينها نسقيا لإنجاز البرنامج السردي الأساسي المتمثل في الحصول على المال. فقد استثمرت الذات الفاعلة برنامجا أوليا استهدف أساسا الحصول على الضيافة من جماعة السمار، تكلل بالنجاح لكن دون التمكين من امتلاك المال، ثم عبَّأت برنامجا ثانيا هَمَّ الحصول على الطعام وفق شروط محددة، فتكلل بالنجاح بدوره لكن دون حيازة المال. بعد ذلك لجأت هذه الذات إلى الاستعانة بالحيلة التي تشغل موقع العامل المساعد، إذ استطاع أبو زيد السروجي خداع جماعة السمار من خلال اختلاق حكايته مع ابنه زيد الذي لم يستطع ضمه إليه لظروفه المالية القاهرة، فحفز الجماعة على منحه المال اللازم لتحقيق أمنيته، مما أتاح للبطل تحقيق برنامجه السردي الأساس المتمثل في امتلاك المال.

= = =

الهوامش

[1] أبو القاسم الزمخشري، مقامات الزمخشري، ط1 (بيروت: دار الكتب العلمية، 1982)، ص. 16.

[2] أبو العباس الشريشي، شرح مقامات الحريري، المجلد 1، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، (بيروت: المكتبة العصرية، 1992)، ص. 23.

[3] أحمد بن علي القلقشندي، صبح الأعشى في صناعة الإنشا، المجلد 14، تحقيق يوسف علي طويل، ط 1 (دمشق: دار الفكر، 1987)، ص. 124.

[4] إميل بديع يعقوب، وميشال عاصي، المعجم المفصل في اللغة والأدب، ط1 (بيروت: دار العلم للملايين، 1987)، ص. 1183.

[5] شوقي ضيف، المقامة، ط3 (القاهرة: دار المعارف، 1954)، ص. 8.

[6] مارون عبود، بديع الزمان الهمذاني، (القاهرة: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2013)، ص. 35.

[7] أبو العباس الشريشي، شرح مقامات الحريري، ص. ص. 26- 29.

[8] المرجع نفسه، ص. 189.

[9] Greimas Algirdas Julien, Landowski Eric, "Pragmatique et sémiotique", ACTES SEMIOTIQUES, V 50, 1983, p 6.

[10] Greimas Algirdas Julien, Courtes Joseph, Sémiotique Dictionnaire raisonné de la théorie du langage (Paris: Hachette, 1993), p. 348.

[11]Greimas Algirdas Julien, Du Sens, (Paris: Éditions du Seuil, 1970), p. 7.

[12]Ibid, p- p. 12 - 13.

[13] سعيد بنكراد، "المعنى بين التعددية وأحادية التأويل"، مجلة علامات، العدد 13، 2000، ص. 10.

[14] المرجع نفسه، ص. 10.

[15] سعيد بنكراد، "السيميائيات: النشأة والموضوع"، مجلة عالم الفكر، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، المجلد 35، العدد 3، 2007، ص. 27.

[16] سعيد بنكراد، المعنى بين التعددية وأحادية التأويل، ص. 13.

[17] سعيد بنكراد، المرجع نفسه، ص. 13.

[18] Groupe d’entreverne, Analyse Sémiotique des textes Introduction Pratique-Théorie, (Casablanca: Les éditionsToubkal, 1987), p. 7.

[19] Coquet Jean- Claude, et Landowski Eric, Sémiotique L’école de Paris, (Paris: Hachette, 1982), p. 5.

[20] سعيد بنكراد، السميائيات السردية مدخل نظري، (الرباط: منشورات الزمن، 2001)، ص. ص. 9- 10.

[21] Groupe d’entreverne, op, cit, p. 8.

[22] Ibid, p. 8.

[23] Ibid, p. 8.

[24] Greimas Algirdas Julien, Du Sens essais sémiotique, (Paris: Les éditions du Seuil, 1970), 135.

[25] Ibid, 135.

[26] Groupe d’entreverne, op, cit, p. 9.

[27] Greimas Algirdas Julien, Du Sens, 135.

[28] Courtes Joseph, Analyse Sémiotique du discours de l’énoncé à l’énonciation, (Paris: Hachette, 1991), p. 98.

[29] سعيد بنكراد، السميائيات السردية، ص. 124.

[30] Greimas Algirdas Julien, Du Sens, p. 136.

[31] Barthes Roland, "Introduction à l’analyse structurale des récits",Communications, n° 8, 1966, p.10.

[32] Greimas Algirdas Julien, Courtes Joseph, Sémiotique Dictionnaire raisonné de la théorie du langage, p. 245.

[33] Groupe d’entreverne, op, cit, p. 14.

[34] Floch Jean - Marie, Introduction: quelques concepts fondamentaux en sémiotique générale, In: Houda Landalosi, "Suzanne et les mères: une histoire d’amour et de mort. Une lecture sémiotique de la Religieuse de Diderot", Signata, V 5, 2014, p. 250.

[35] سعيد بنكراد، السميائيات السردية مدخل نظري، ص. 88.

[36] Courtes Joseph, Analyse Sémiotique du discours de l’énoncé à l’énonciation, (Paris: Hachette, 1991), p. 98.

[37] Groupe D’entreverne, op, cit, P. 15.

[38] أبو العباس الشريشي، شرح مقامات الحريري، ص. 195.

[39] Groupe D’entreverne, op, cit, P. 16-17.

[40] قدمت للمصطلح الفرنسي Manipulation مقابلات عربية متعددة، منها الإيعاز والمناورة والتحفيز والتحريك... إلخ. وقد ارتأينا اختيار مصطلح التحريك الذي اقترحه الباحث سعيد بنكراد. انظر: السميائيات السردية مدخل نظري، ص. 89.

[41] Greimas Algirdas Julien, et Courtes Joseph, Sémiotique Dictionnaire raisonné de la théorie du langage, p. 220.

[42] Ibid, p. 220.

[43] Courtes Joseph, Analyse Sémiotique du discours de l’énoncé à l’énonciation, p. 99.

[44] - سعيد بنكراد، السميائيات السردية مدخل نظري، ص. 91.

[45] أبو العباس الشريشي، شرح مقامات الحريري، ص. 195.

[46] المرجع نفسه، ص. 202.

[47] المرجع نفسه، ص. 201.

[48] أبو بكر بن الباقلاني، التقريب والإرشاد الصغير، ج 2، تحقيق عبد الحميد بن علي أبو رنيد، ط1 (الرياض: مؤسسة الرسالة، 1998)، ص. 5.

[49] أبو العباس الشريشي، شرح مقامات الحريري، ص. 202.

[50] Groupe D’entreverne, op, cit, P. 17.

[51] Courtes Joseph, Introduction à la sémiotique narrative et discursive, (Paris: Hachette, 1976), p. 16-17.

[52] Greimas Algirdas Julien, et Courtes Joseph, Sémiotique Dictionnaire raisonné de la théorie du langage, 54.

[53] Panier Louis, Eléments de grammaire narrative, p.2, In:

https://bible-lecture.org/bases-lecture-semiotique/grammaire-narrative-panier/

تاريخ آخر دخول إلى الموقع: 09-02-2022.

[54] المرجع نفسه، ص. 41.

[55] Greimas Algirdas Julien, et Courtes Joseph, Sémiotique Dictionnaire raisonné de la théorie du langage, p. 271

[56] Ibid, p. 272.

[57] Greimas Algirdas Julien, Du Sens, p. 173.

[58] Ibid, p. p. 172 – 173.

[59] أبو العباس الشريشي، شرح مقامات الحريري، ص. 202.

[60] المرجع نفسه، ص- ص. 195- 196.

[61] أبو العباس الشريشي، شرح مقامات الحريري، ص. 197.

[62] المرجع نفسه، ص. 197.

[63] المرجع نفسه، ص. 197.

[64] المرجع نفسه، ص. 200.

[65] سعيد بنكراد، السميائيات السردية: مدخل نظري، ص. 85.

[66] شوقي ضيف، المقامة، ص. 18.

[67] أبو العباس الشريشي، شرح مقامات الحريري، ص. 214.

[68] المرجع نفسه، ص- ص. 215- 217.

[69] Greimas Algirdas Julien, et Courtes Joseph, Sémiotique Dictionnaire raisonné de la théorie du langage, p. 320.

[70] Ibid, p. 320.

[71] Ibid, p. 320.

[72] Ibid, p. 320.

[73] أبو العباس الشريشي، شرح مقامات الحريري، ص. 218

D 1 آذار (مارس) 2024     A عادل بن زين     C 0 تعليقات