د. فراس ميهوب - سورية
واحدة بواحدة
شوقي وابنه يوسف في الطريق إلى منزل حرفوش لاستئجار محله التجاري، حلم يوسف القديم، أصبح الآن على بعد خطوات قليلة، لم يأخذا موعدا مسبقا، ولا مكان بينهم للرسميات.
أصوات صاخبة استبقت الهواء إلى أذانهما، ارتدت عن رحى شجار أهلي حاد.
لم يسمع أحد قرع الجرس لمرات ثلاث، دارا على عقبيهما، فقد جاءا دون ريب في توقيت معركة وليس وقت كراء.
انفتح الباب أخيرا، ناداهما حرفوش ليدخلا، خصلة شعره، التي تغطي عادة صلعته الأمامية، تلتف الآن لتحجب عينيه، ووجهه الوردي أيام السلم، احمرَّ من دم الغضب المتدفق.
كان شوقي معتادا على حنق صديق عمره، فلم تصدمه هذه السورة الجديدة، سلَّم عليه، وأراد الاستئذان بالخروج، فالظرف غير مناسب، لكن حرفوش أقحمه بالحديث:
= يا أبا يوسف، صديقنا خليل يرفض مصاهرتي! لديه ابنة بسن الزواج، تعرف هدى، ابني يحبها، وهي تحبه، ذهبنا لخطبتها، رفض بوقاحة.
بهيج يسند الزاوية بطوله، متوترا، تملأ عينيه الدموع، أدلى بدلوه أيضا، توجَّه إلى شوقي:
= تصوَّر يا عمي، إنَّه يشترط عليَّ بيتا مستقلا، ما زلت في بدء حياتي المهنية، لا أملك إلا رأس مالي، فهل أجمده في شراء عقار؟
تناوله حرفوش من جديد:
= أنت تعرف خليل، ورأسه اليابس، إن قال كلمته، لا يتراجع أبدا، ولو كان على خطأ.
احتار شوقي، فقد صار هو وابنه في قلب مشكلة أخرى لا ناقة لهما بها ولا جمل، ولن يستطيعا الانسحاب الآن، لأنَّ حرفوش سيعتبرها إهانة له، وإهمالا لقضيته، وتعذر عليه مفاتحته بالسبب الأصلي لزيارتهما، ففي هذه الحالة سيكون الرفض المحقق جوابه.
هدأ حرفوش قليلا، وأصرَّ على معرفة مبرر زيارة صديقه؟
تمنَّع شوقي، ولكن ابنه "بقَّ البحصة":
= بصراحة يا عمي حرفوش، جئنا نطلب استئجار محلكم في حيِّ القصور، أعلم أنكم لستم بحاجته، وأنا أرغب بتحويله إلى مكتبة.
= على الرحب والسعة يا ولدي، أنا موافق من حيث المبدأ.
ابتسم شوقي ويوسف، ولكن فرحتهما، لم تطل، حين استدرك حرفوش:
= انتظرا قليلا، لدي فكرة، بل شرط!
تحمَّس شوقي:
= لا تهتم يا صديقي، التعامل هو التعامل، اطلب الإيجار الذي ترغبه، اشترط كما تريد.
= لا، لم تفهمني، أنا موافق عل تأجير المحل، ولن نختلف على البدل، ولكن أريد منك مساعدتي على حل مشكلتنا أيضا.
= لم أفهم، ماذا تقصد؟
= أنت أقرب شخص لخليل، ويمكنك إقناعه بخطبة ولدي لابنته.
= ولكن، ما العلاقة بين المكتبة، وخطبة ابنك؟
= اسمع يا شوقي، لن أستطيع مساعدتك على إسعاد ابنك، وولدي حزين. بوضوح شديد، إن قبل خليل، فلك المكتبة، وضع أنت شروط الإيجار، مدته، بل خذها دون عقد إن شئت.
= طيب، وإن رفض؟
= تنسى موضوع المكتبة.
أحسَّ شوقي بطعنة في ظهره، قال في نفسه: "خليل معه حق، فحرفوش غريب الأطوار حقا، ثمَّ كيف يربط إيجار محله، بزواج ابنه، ما دخلي أنا؟"
استعدَّ شوقي للرفض، فلم يشعر بالارتياح من ابتزاز صديقه له، "كمن يربط حمارين معا، كلٌّ منهما يرغب الذهاب باتجاه عكس الآخر"، كما كان يقول جده رحمه الله.
لكن ابنه همس في أذنه:
= أبي، محل عمي شوقي هو الأنسب كمكتبة، لن نخسر شيئا، نتحدث مع عمي خليل، إن رفض، سنكسب شرف المحاولة على الأقل.
ردَّ شوقي على صديقه:
= حسنا، أنا موافق، اتصل بخليل، وحدد معه موعدا.
أجابه حرفوش بتلقائيته وحماسه المعتادين:
= أي مواعيد يا رجل، لنذهب فورا، متى كان بين الأصدقاء كلفة وإحراج؟
=2=
فوجئ خليل بزيارة صديقيه القديمين معا، برفقة ولديهما، ولكنه عرف سبب الزيارة سريعا.
عاجله حرفوش بصوته العالي:
= أحضرت معي شوقي ويوسف جاهة، ألا ترضى بهما؟
= على العين والرأس، أبو يوسف من خيرة الناس، وأرقى الأصدقاء، وابنه حبيبنا.
تغيرت لهجة خليل، وهو يحتضن صديقه شوقي، الذي يكنُّ له التقدير والاحترام، فالرجل عاقل، وساعده مرات ومرات.
أمَّا حرفوش فرغم صداقتهما القديمة، فشخص متسرع، متقلب المزاج. رغب خليل في ضمانات تمنعه من إزعاج ابنته في المستقبل، لذلك أصرَّ على منزل مستقل لها.
لم يقبل بالتراجع عن شرطه الأصلي، رغم لطفه البادي مع ضيوفه.
ساد صمت ثقيل لدقائق، احتار شوقي، فكَّر مليَّا، اقترح حلا.
كان شوقي قد ادخرَّ مبلغا محترما من المال، يقدَّر بنصف مليون ليرة، لمستقبل ابنه، ولن يتردد بتسخيره لحلِّ هذه المشكلة العويصة، ونسي تماما موضوع المكتبة.
الغريب في الأمر، أنَّ بهيج حرفوش كان يملك المال، ولكنه لم يسخُ على صرفه، و لذلك وصلت خطبته إلى طريق مسدود.
قال شوقي لبهيج:
= أنا أقرضك المال، اشترِ به بيتا لخطيبتك.
انطلقت الزغاريد، قرأوا الفاتحة، وتمت الخطبة، فالضامن هو شوقي، وهو محلُّ ثقة خليل.
خرج شوقي بعد نجاح مهمته، نبَّه يوسف والده إلى أنَّ استئجار المحل لم يتم.
ضحك شوقي، وقال لابنه:
= حللنا عقدة بهيج، وعمك حرفوش وعدنا، ولن يتراجع، هو شخص عصبي، ولكنه طيب القلب، وصادق.
= أعرف، ولكن المشكلة الآن، كيف سنجهِّز المكتبة؟
= لدي فكرة ثورية، سأقترض من خليل.
= وهل سيقبل؟
= طبعا، ودون أدنى شك.
= ولماذا كلُّ هذا التعقيد، يا أبي؟
= يا بني، في مجتمعنا، الموقف هو الموقف، نحن لا نتراجع عن مواقعنا الأولية، وحسابات الربح والخسارة ليست مادية غالبا، وإنما معنوية، الأهم هو الثبات على الرأي، ولو كان خطأ.
عاد شوقي وابنه إلى الدار، ولم يستطيعا إخفاء السعادة، هنأتهما أمُّ يوسف بنجاح المهمة، وطفقت تثني على خصال حرفوش قبل أن تسمع ما حدث.
◄ فراس ميهوب
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ