عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

د. فراس ميهوب - سورية

رقابة


فراس ميهوبوصل هذا الصباح، مبكرا كعادته، طلب من حاجبه فنجان قهوة:

= على الرأس والعين، تكرم يا أستاذ، خمس دقائق ويكون جاهزا.

استقر الأستاذ مصطفى بالكاد على كرسيه المريح، تبعه سكرتيره:

= اتصل مكتب السيد الوزير، طلب لقاءك في الخامسة عصرا.

أشعلَ سيجارَه الفاخر، رفع عن رأسه طاقيته الصوفية الحمراء، أخرج مرآة دائرية من درج مكتبه، تأمَّل بثقة عالية وجهه الورديَّ الممتلئ وشاربيه الخشنين، أصلح ربطة عنقه، ابتسم لنفسه بخبث.
تساءل في سرِّه:

= ماذا يريد السيد الوزير، هل سيعينني أخيرا معاونا له، أم سيزودني كالعادة بالتوجهات السياسية؟!

أنهى رئيسُ التحرير عملَه في الجريدة، اطلَّع على النسخة النهائية لعدد الغد، استقرَّ على المقعد الخلفي لسيارته الحكومية، خاطب سائقه بلهجة رسمية:

= إلى الوزارة.

في مكتب الوزير، لم يخفِ حماسته:

= السيد الوزير يريد مقابلتي.

قابلته موظفة الاستقبال ببرود، أشارت إليه بالجلوس.

كان الوزير مشغولا بضيوفه، دعاه للدخول بعد ساعة انتظار.

دخل مصطفى منحنيا، وحيَّا الوزير المنشرح:

= تفضل، اجلس يا أستاذ، اجلس.

استلم الوزير الحديث، وأعلن له دون مقدمات:

= تعرف يا مصطفى، بعد تقاعد الأستاذ بكري أصبح منصبه شاغرا.

= نعم، طبعا، طبعا.

تراجعت حماسته، سمع الوزير يقول:

= مدير الرقابة على المطبوعات في الوزارة.

قبول مصطفى للتعيين يعني انتقاله من كاتب معروف إلى مخبر إعلامي وثقافي من الطراز الرفيع، وتحوله من ممارسة الرقابة الذاتية، التي طالما أتقنها، إلى رقيب أول على كل ما ينشر ويكتب في البلد.

لم يملك مصطفى شجاعة الرفض، فبعد سنوات طويلة من العمل في الصحافة الرسمية كان قد نسي تماما قول: لا.

شكر الوزيرَ على ثقته الغالية، عزَّا نفسه بانتقاله إلى الوزارة، بالراتب الأفضل، لكنه عرف في قرارة نفسه أنَّه مات سريريا ككاتب كان يوصف بالموهبة ذات يوم بعيد.

باشر مصطفى القاضي عمله في الرقابة، كان عليه أن يجيز كل ما ينشر قبل طباعته، وأن ينفذ حكم الإعدام المعنوي بكل من يتجرأ على حدود المحرمات الثلاث.

ترأس لجنة إجازة المخطوطات في البلد، قصص، روايات، كتب ثقافية ودينية، وكل ما يعرض للنشر.

امتعض الأستاذ مصطفى من عمله في البدايات، لكن لمعي الناشف أحد زملائه في اللجنة أدلى له بمعلومة هامة:

= العمل ليس رديئا كما تظنُّ، يمكننا تصفح الكتاب في دقائق قليلة، والأمر ليس معقدا، فأغلب الكتب المعروضة ليس فيها أي ممنوعات، فالكتَّاب عندنا يراقبون أنفسهم بأنفسهم.

= ولكن يا لمعي، لا يخلو الأمر من مشاغبين.

= نعم يا سيدي، ولكن هؤلاء ينشرون في الخارج، ومن تجرأ وأرسل إلينا، سيرفض فورا ولن يكرر المحاولة.

= طيب، ماهي المتعة والفائدة من هذا العمل؟!

= تقرأ ما يعجبك من كتب، وتستفيد ماديا.

انجذبت أسماع مدير الرقابة الجديد إلى مساعده الخبير الذي تابع حديثه المثير:

= حدثتُكَ عن المنع، أمَّا الإجازة فهي الجزء الأهم من عملنا، فأغلب ما يصلنا من مخطوطات لا يصلح للنشر.

= مثل ماذا؟

= سير ذاتية كاذبة لمسؤولين، تبييض صفحات سود، تلميع وجوه قذرة، أشعار منحولة، كتبٌ خالية من نفع لراغبي الشهرة، سرقات أدبية شبه مكشوفة. أصحابُ هذه المخطوطات يدفعون لنا دون حساب، والبعض منهم نكتبُ له كتابا ليكتفي بوضع اسمه تحت العنوان، والمردود هنا أكبر بكثير.

انفرجت أسارير مدير الرقابة الجديد، وأدرك أنه وقع على وظيفة رائعة.

بعد أشهر قليلة...

تمرَّس الأستاذ مصطفى بالعمل، نسج علاقات مفيدة كثيرة، وحصل على مكافآت مجزية.

تجلت سعادته الكبرى كل مرة استطاع فيها أن يمنع نشر كتاب لمنافس سابق له، أو لصاحب رأي لا يعجبه، أصبح بشكل أو آخر آمرا ناهيا في الفكر والأدب وحتى السياسة.

D 1 حزيران (يونيو) 2021     A فراس ميهوب     C 0 تعليقات