د محمود كيال - فلسطين
جدلية حضور الـبِـرْوِة وغيابها في الخطاب الشعري
بين مفاخرة زجلية لأسعد عطا الله و"طَـلَـلِـيّـة الـبِـرْوِة" لمحمود درويش
ملخص
يتناول هذا المقال تجليات الحيز المكاني لقرية الـبِـرْوِة في الخطاب الشعري من خلال قصيدتين: الأولى لأسعد عطا الله صدرت عام 1930 وهي قصيدة زجلية في المفاخرة ببلدته وأهلها، والثانية لمحمود درويش صدرت عام 2009 وهي قصيدة فصيحة على شعر التفعيلة بعنوان "طَـلَـلِـيّـة الـبِـرْوِة". ورغم الاختلاف الواضح بين القصيدتين من حيث زمان كتابتهما وأساليبهما ولغتهما، إلا أن المقال يطرح إمكانية قراءتهما بشكل متزامن، خاصة وأنهما تعبّران عن انتماء الشاعرين وتعلّقهما بنفس الحيز المكاني الذي ولدا وترعرعا فيه. هذه القراءة المتزامنة تتيح استيعاب جدلية حضور الـبِـرْوِة وغيابها فيهما، فالأولى منهما تستحضر قرية الـبِـرْوِة كحاضرة، بينما تستحضر الثانية نفس القرية كغياب. لكن الحضور في الأولى والغياب في الثانية يتداخلان في علاقة جدلية بحيث تتجلى المفارقات المأساوية في هذا الحضور في الأولى ليصبح شكلًا من أشكال الغياب، لا سيما في ظل ما جرى للقرية وأهلها وللشاعر وشعره؛ كما يتعمق الإحساس بالحضور في الثانية، خاصة وأن إحياء ذاكرة المكان الطفولية وتعرية الواقع الاستيطاني يكتسبان زخمًا ووهجًا من حضور الـبِـرْوِة كحاضرة.
1. مقدمة
منذ أواسط القرن العشرين ازداد الاهتمام بدراسة الفضاء والمكان في الدراسات الأدبية والنقدية. فتطور ما سماه البعض "النقد الجغرافي" (الجيوقراطية) Geocriticism للأدب، الذي يعنى بدراسة تجليات مكان ما في الأدب من أجل الوصول إلى رؤية شاملة وغير متزامنة في كيفية انشغال الخيال الأدبي بمكان محدد، سواء أكان واقعيًا أو متخيّلًا (Westphal, 2011, pp. 1-8). كما عنيت نظريات نقدية عديدة بمفهوم "الفضاء" في الأدب من خلال التركيز على ثلاثة أنواع من الأفضية وهي: الفضاء الجغرافي أي الحيز المكاني، الفضاء النصي أي الحيز الذي تشغله الكتابة ذاتها، والفضاء الدلالي أي الصورة التي تشكلها الدلالات الحقيقية والمجازية (لحمداني، 1991، ص 62).
ولكن اهتمامنا في هذه الدراسة منصب بالأساس على الفضاء الجغرافي، وخاصة الحيز المكاني الذي يألفه الإنسان ويرتبط وجوده الإنساني به بشكل وجداني منذ الطفولة المبكرة وحتى اتساع خياله وآفاقه (باشلار، 1987، ص 31). وفي هذا الإطار نسعى لقراءة متمعنة في نصوص شعرية بشكل يتيح الكشف عن الدلالات الاجتماعية، التاريخية، الأدبية، والنفسية لتوظيف حيز مكاني محدد في الخطاب الشعري، وعن كيفية تداخل المدلولات الحقيقية والمجازية في تشكيل الفضاء الدلالي الموازي أو المناقض للفضاء الجغرافي.
2. قرية الـبِـرْوِة في الخطاب الشعري
قرية الـبِـرْوِة الجليلية، قضاء عكا، هي إحدى القرى الفلسطينية المهجرة أثناء نكبة عام 1948. كانت القرية تطل من رابية عالية على سهل عكا وخليج حيفا. تحيطها من الجنوب والغرب أراضٍ زراعية واسعة، وتجاورها من الشمال والشرق جبال وهضاب لا تخلو من كروم الزيتون والأشجار البرية. يتدفق بقربها شتاءً وادٍ وفير المياه، ويرتوي سكانها ودوابها طوال العام من نبعي ماء بجوارها. كان أهلها من المسلمين والمسيحيين يعيشون بمحبة ووئام، ويتعّيشون من الزراعة والفلاحة ومن بعض الحرف اليدوية التي امتهنوها. اكتسبت القرية وأبناؤها مكانة خاصة بسبب وقوعها على طريق عكا–صفد وعلى الشارع المتفرع منه نحو شفا عمرو وسخنين، فكانت مقصد الكثيرين من أبناء القرى المجاورة. عُرفت القرية بتاريخها النضالي الوطني، إذ شارك ثوارها وقادتها وأهاليها مشاركة فعّالة في ثورة 1936-1939. كما تمكّن مسلحو القرية بمؤازرة مسلحي حامية شعب والقرى المجاورة من استعادة القرية بعد احتلالها لأول مرة من قبل القوات الإسرائيلية، لكن تقاعس وتآمر جيش الإنقاذ سهّل على هذه القوات احتلالها ثانية بتاريخ 25 حزيران 1948 (لمزيد من التفاصيل حول القرية، انظر: درباس، 1992؛ الخالدي، 1997، ص 463-465؛ دبدوب، 2002؛ لجنة مهجري الـبِـرْوِة، 2002؛ درويش، 2006).[1]
نبغ من أبناء الـبِـرْوِة شاعران عاشا في عهدين مختلفين ونظما أشعارهما بأسلوبين مختلفين، وهما الحادي الشعبي أسعد عطا الله (1900-1950) والشاعر المعروف محمود درويش (1941-2008). ورغم الاختلاف الواضح بينهما من حيث جيليهما وأشعارهما، إلا أنهما اجتمعا في انتمائهما ومحبتهما لقريتهما، وفي تعبيرهما عن ذلك في قصائدهما. فنظم الأول قصيدته الزجلية "أسعد يمدح بلدته" ونشرها في ديوانه الشعري الصادر في عكا عام 1930؛ بينما نظم الثاني قصيدته المشهورة "طَـلَـلِـيّـة الـبِـرْوِة"، وتم نشرها بعد وفاته في الديوان الأخير للشاعر الصادر في بيروت عام 2009.
ظلت قصيدة عطا الله الزجلية طي النسيان بعد تشرد صاحبها أثناء النكبة، ووفاته بعدها بقليل، وضياع ديوانه، وتراجع الاهتمام بالزجل الشعبي. بينما تناول العديد من النقاد والباحثين بالتحليل قصيدة "طَـلَـلِـيّـة الـبِـرْوِة"، وأبرزوا مميزاتها الأسلوبية والثيماتية، ولفت بعضهم الأنظار إلى ما ظهر فيها من جدلية الحضور والغياب. وقد ارتأيت أن أجمع في هذا المقال بين هاتين القصيدتين، خاصة وأنهما تعبّران خير تعبير عن تعلق الشاعرين بذات المكان، حتى لو تباينت القصيدتان بشكل كبير في أساليبهما الشعرية ووسائلهما اللغوية والبلاغية. والأهم من ذلك، أن هذه الدراسة تطرح إمكانية القراءة المتزامنة للقصيدتين بحيث تلقي إحداهما الضوء على الأخرى. إذ يمكننا استشراف الحضور في "طَـلَـلِـيّـة الـبِـرْوِة" عبر قصيدة عطا الله التي تستحضر الـبِـرْوِة كحاضرة؛ ومن جهة أخرى، يتعمق إحساسنا بالغياب أثناء قراءة قصيدة عطا الله، ليس فقط في ظل ما حلّ بالقرية وسكّانها وبالشاعر وزجله، وإنما أيضًا لأن الطَـلَـلِـيّـة تستحضر الـبِـرْوِة كغياب.
3. الـبِـرْوِة كحاضرة في مفاخرة أسعد عطا الله ببلدته
سطع نجم أسعد عطا الله،[2] حادي الـبِـرْوِة، في سماء الزجل الشعبي في شمال فلسطين كأحد أبرز الحداة الشعبيين خلال فترة الانتداب البريطاني. فقد تميّز بموهبته الفذة وسرعة بديهته وزجالة ألفاظه ومتانة لغته، مما جعل القاصي والداني يشهدان له بعلو كعبه بين الشعراء والحداة الشعبيين المعاصرين له. كما كانت له صولات وجولات أيضًا في مهرجان عيد المولد النبوي في عكا، حيث كان يلتقي ببعض الشعراء اللبنانيين المعروفين (الأسدي، 1976، ص 20-21). ونظرًا لبراعته وجزالة شعره فقد انتشرت أشعاره بين الناس ولا سيما بين أهالي الـبِـرْوِة الذين ظلوا يحفظون بعض أبياته عن ظهر قلب (شمالي، 2004).
في عام 1930 قام عطا الله بإصدار ديوان زجلي يمكننا اعتباره عملًا أدبيًا رياديًا، خاصة وأننا لا نكاد نعثر في المكتبة الأدبية الفلسطينية خلال فترة الانتداب البريطاني على دواوين مطبوعة في الزجل الشعبي، إذ أن هذا الزجل تميز غالبًا بكونه شعرًا عاميًّا شفويًا ارتجاليًا. غير أن هذا الديوان ضاع وغاب مع غياب صاحبه في الشتات، ومع تشتت شمل أهالي القرية أثناء النكبة، هذا بالإضافة إلى تراجع الاهتمام بين الأجيال اللاحقة بالزجل الشعبي. ولكن نظرًا لتكرار التأكيدات حول وجود هذا الديوان،[3] وحرصًا على إنقاذ إرث هذا الشاعر والحفاظ على فنه الأصيل من الضياع، ومن أجل صيانة تراث وتاريخ هذه القرية المهجرة، فقد عملت جاهدًا على العثور عليه، حتى وفقت في ذلك.
وضع عطا الله لديوانه الصادر عن مكتبة النجاح في عكا ترويسة تفصيليّة وهي: "كتاب نشأ[4] الفن في أقوال العتابا وهو الكتاب الأول من منظومات أسعد عطا الله من قرية الـبِـرْوِة التابعة عكا ’فلسطين’". وهذا يعني أن الديوان مكرس بمعظمه لفن العتابا في الزجل الشعبي؛ وأن الشاعر خطط لإصدار كتابه الثاني، ولكنه، على الأرجح، لم يتمكن من ذلك؛ وأنه دأب على قرن اسمه باسم قريته، مما يدل على مدى اعتزازه وافتخاره بها.
حوى هذا الديوان الصغير (36 صفحة) تسع قصائد ذات أغراض ومواضيع متنوعة من غزل وعتاب وفراق وفخر وحماسة وشعر وطني. ولا شك أن الديوان يعد توثيقًا هامًا لبعض أنماط وأساليب الزجل الشعبي الفلسطيني الشائعة في ذلك العهد. إذ جاءت معظم قصائد الديوان بأسلوبي العتابا والميجنا المعروفين في الزجل الشعبي.[5] إلا أن الشاعر استخدم أيضًا في إحدى قصائده "العتابا الجبورية"،[6] وفي قصيدة أخرى "المواويل البغدادية أو السبعاوية".[7] كما أن للديوان أهمية تاريخية خاصة نظرًا لتطرقه في إحدى قصائده للأجواء الشعبية والسياسية التي صاحبت أحداث ثورة البراق عام 1929، وما أعقبها من إعدام لشهداء الثلاثاء الحمراء بتاريخ 17 حزيران 1930.[8]
ولكن ما يهمنا في هذا المقال هو قصيدة وردت في الفصل السابع من هذا الديوان وعنوانها "أسعد يمدح بلدته الـبِـرْوِة وسكانها" (انظر في الملاحق). وهي قصيدة منظومة بأسلوب العتابا، ومكتوبة، كباقي قصائد الديوان، باللغة العامية التي تتميز بزجالة ألفاظها وقدرة الشاعر على التلاعب بالدلالات والمعاني، خاصة عند استخدام الجناس. إذ أنه يفاجئنا باستخدام كلمات متجانسة مبتكرة تدل على موهبته، كما في البيت الأول حيث استخدم لفظة "والجَاه" بثلاثة معانٍ مختلفة، وهي: الجاهي أي الآتي علانية، والمنزلة والقَدْر، والجاهة أو الوجهاء. ويبدو أن إصدار الديوان مطبوعًا جعل شاعرنا يطعّم نصه بالمفردات والألفاظ الفصيحة بل وحتى الكلاسيكية وغريب الكلام، محاولًا قدر المستطاع إبهار القارئ والسامع بمتانة لغته ورصانتها. فنجد في هذه القصيدة مفردات وألفاظًا مثل: المُزْن، عَثْمَان، الوَغَى، رَزَايَا، الدُشْمَان وغيرها.
ويمكن القول إن هذه القصيدة تمثل شهادة حية لشاعر القرية عن أحوال قريته وبنيتها الاجتماعية والعائلية والدينية في عشرينات القرن الماضي. فرغم أن القصيدة تتميز بالفخر والمديح إلا أنه يمكن من خلالها التعرف على بعض معالم القرية وعاداتها الشعبية وعائلاتها ووجهائها وطوائفها، بل وعلى بعض التفاصيل الشخصية المتعلقة بالشاعر نفسه. ومن الملاحظ أن الشاعر تدرج في قصيدته بشكل متسلسل محكم. إذ بدأها بمفاخرة عامة بقريته وأهلها، ثم انتقل للحديث عن عائلات القرية ووجهائها بالترتيب حسب أعدادها وكبرها ومكان سكناها حتى وصل إلى وجهاء طائفته ثم إلى أهل بيته وبيئته القريبة. وكأني بالشاعر يصوّر القرية تصويرًا وثائقيًا ينطلق فيه من المشهد العام إلى قطاعات ودوائر آخذة بالضيق ليصل أخيرًا إلى دائرته الشخصية المصغرة.
ويبدو مطلع القصيدة مستلهمًا من شعر الفخر والحماسة العربي القديم الذي لا يخلو من المبالغة والتعظيم، إذ كان الشعراء منذ العصر الجاهلي يفتخرون بالشجاعة والكرم، وحسن النسب، وإغاثة الضعفاء، والحكمة والمنطق وغيرها (نمر، 1982، ص 219-221). ولكن شاعرنا جعل قريته تقوم مقام القبيلة والعشيرة، بحيث يكون الولاء للقرية أرفع شأنًا من الولاء للحمولة أو للطائفة. كما جعل رجال القرية لا يقلون وجاهة وبأسًا وكرمًا وحكمة عن رجالات القبائل العربية القديمة. غير أنه في طيات هذه المبالغات الفخرية الحماسية يبرز الشاعر مكانة القرية الاجتماعية الخاصة بين القرى المجاورة لها. إذ يتضح أنها كانت وجهة يقصدها كثيرون بسبب ما عُرف عن أهلها من كرم الضيافة والشجاعة والجرأة في حل المشاكل المستعصية. وليس صدفة أن الشاعر يمدح في قصيدته محمد عبد الحليم [حسين]، رغم أنه ليس من سكّان القرية بل من وجهاء قرية شعب المجاورة، وذلك بسبب لجوئه إلى قرية الـبِـرْوِة نتيجة خلافات عائلية في قريته، وإقامته لدى أحد وجهاء الـبِـرْوِة: صالح هواش (علي، 2007، ص 167).
يرسم الشاعر أيضًا جغرافية القرية وطوبوغرافيتها محددًا أنها تقع على تلة عالية وتحيطها أراضٍ زراعية منخفضة. ويصف كذلك معلمًا بارزًا من معالمها يقع في وسطها وهو مقام الشيخ محمد الكيّال. ونستطيع من خلال تنقله في مدحه لعائلات القرية التعرف على تقسيم حاراتها من خلال ربطها بالعائلات التي تقطن فيها. ففي الجانب الشرقي منها يقطن آل كيّال وفي الجانب الغربي آل درويش، بينما تتوزع العائلات الأخرى التي ذكرها، وهي رمضان، هواش، علي ذيب، سعد، ميعاري، عثمان (سمري)، وعيشان، في وسط القرية وشمالها وجنوبها.
وفي وصفه لمقام الشيخ محمد الكيّال، الذي يعتبر الجد الأكبر لكبرى عائلات القرية: آل كيّال، يتوقف الشاعر عند العادات الشعبية السائدة في القرية والمتمثلة بالإيمان بالأولياء الصالحين. فيؤكد أن أهل القرية يعتبرون الشيخ وليًّا صالحًا ذا كرامات وشفاعات، حتى أنه يستطيع أن يحوّل الماء إلى لبن رائب. ولهذا يتباركون به ويندرون له الندور ويضيئون مقامه، كما يحملون الأعلام الموجودة فيه ويطوفون بها في الأفراح والأتراح للتبرك بها.[9]
ولا شك أن طبيعة المجتمع القروي، الذي يتميز في ذلك الأوان بالبنى المجتمعية الأبوية التقليدية، تظهر بوضوح في القصيدة التي تكرّس الكثير من أبياتها لمدح وجهاء القرية الذين يمثلون العائلات المختلفة. وفي هذا المديح تتكرّر غالبًا صفات المروءة المعروفة في الشعر العربي القديم مثل الكرم، الحكمة والشجاعة. ولكن الشاعر يبرز أيضًا مدى سطوة بعض الوجهاء وأحكامهم الصارمة عند الإخلال بالأعراف والقوانين. فيوسف درويش، أحد وجهاء وأجداد آل درويش، كان يصدر أحكامًا بالتغريب والإبعاد لمن أخلّ بتلك الشرائع.
يمكننا كذلك أن نستشف من القصيدة أواصر العلاقة بين بعض أعيان مدينة عكا وبين أهالي القرية. فالشاعر يمدح كبار ملاكي الأراضي من عائلة الإدلبي الذين كانوا يملكون مساحات واسعة من أراضي القرية. ولعل إقامة بعضهم في القرية ووجود ممتلكات لهم فيها وإدارة شؤون أملاكهم بصورة مباشرة، جعلهم يترددون على القرية بشكل متكرر ويحافظون على علاقات اجتماعية مع أهاليها، مما جعل الشاعر يعتبرهم جزءًا من النسيج الاجتماعي في القرية.
رغم أن الشاعر يختتم قصيدته بمديح طائفته المسيحية ووجهائها ثم بيئته المقربة، إلا أن ذلك لا يعني بأي حال إقصاء أو تهميشًا لهم. بل إن ذلك يعزز ما ذكرناه آنفًا من انتقال الشاعر من العام إلى الخاص. فبعد أن تفاخر بقريته عامة ومدح عائلاتها ووجهاءها انتقل إلى بيئته الشخصية بادئًا بطائفته ووجهائها ومنتهيًا بوالد زوجته وجاره. ومن الملاحظ أن مديح الشاعر لمحيطه القريب تميز بنبرة أكثر حميمية مما سبقها. ولهذا فقد أسقط اسم العائلة عن ممدوحيه المقربين، واكتفى بذكر اسمي الوالد والجد أو الكنية. ففي مدحه لـ"خوري الـبِـرْوِة"، الذي اعتبره جميع أهالي القرية من مسلمين ومسيحيين وجهًا من وجوهها وعلمًا من أعلامها،[10] عرّفنا بوالده وجده: جبران سليم نقولا [الخوري] (1902-1977). بالمقابل استخدم الكنية في مديحه لوالد زوجته عيسى [خوري] الذي كناه أبا وديع، وفي مديحه لجاره الذي كناه أبا توفيق.
ورغم ما تحمله هذه القصيدة من مشاهد وأوصاف وأسماء تجعل القارئ، سواء أعرف الـبِـرْوِة أو لم يعرفها، يستحضر القرية كحاضرة عامرة هانئة العيش وراسخة الجذور، إلا أن هذه الصورة المثالية سرعان ما تصطدم بواقع مرير يشعرك بمأساوية الفقدان والغياب إزاء ما طرأ على القرية وأهلها وعلى الشاعر وفنه. وكأن الحضور نفسه فيه تجسيد لحجم الغياب، أو كأن الفخر والمديح يصبحان جزءًا من تعداد المناقب والمحاسن والخصال في مرثية حزينة ومفجعة. فبعد أن تعرضت القرية للتطهير العرقي أثناء النكبة تشتت شمل جميع العائلات التي ذكرها الشاعر وصودرت أملاكها ولم يسمح لها بالعودة إلى قريتها. كما أن بيوت القرية نفسها هدمت، ومعظم مقابرها طمرت، بل إن بعض معالمها التي لم يطلها الهدم انهارت لاحقًا نتيجة للتخريب والإهمال. فمقام الكيّال، الذي ذكره الشاعر في قصيدته، ظل بناؤه قائمًا بعد النكبة. ويرجح البعض أن القوات الإسرائيلية ظنت أن هذا المقام هو مسجد القرية بسبب وجود قبة له. لكنه انهار لاحقًا نتيجة قيام بعض مستوطني أحيهود بإدخال الأبقار إليه. والأمر نفسه حصل أيضًا مع كنيسة مار جريس للروم الأرثوذوكس ومعصرة زيتون لآل الإدلبي. ولم يبق من معالم القرية صامدًا وشامخًا حتى اليوم سوى مدرستها التي تتلمذ فيها قبل النكبة كثيرون.
ولعل القارئ المطلع على تاريخ النكبة في كل من عكا الـبِـرْوِة يمكنه أن ينتبه أيضًا إلى بعض المفارقات المأساوية بين ما ورد في القصيدة وبين بعض أحداث وظروف وحيثيات النكبة. فالشاعر يشير في قصيدته إلى أن بعض الأوغاد حاولوا تسميم الشيخ بشير الإدلبي (1886-1957)، الذي كان مأذونًا وإمامًا وقاضيًا شرعيًا في عكا. ولا ندري تفاصيل هذه الحادثة التي لم نعثر على توضيح لها في الشهادات الشفوية التي استمعنا إليها. ولكن من سخريات القدر أنه بعد عقدين تقريبًا من كتابة هذه القصيدة، وتحديدًا في أواسط أيار 1948، قامت قوات الهاجاناه بتسميم مياه مدينة عكا مما أدى إلى انتشار الأمراض في المدينة ونزوح أهلها واستسلامها.[11] ومن سخريات القدر أيضًا أن أحمد الإدلبي، الذي عبّر الشاعر عن أشواقه له وعن مدحه لهمته العالية، كان من بين وجهاء عكا الذين وقّعوا على وثيقة استسلام المدينة للقوات الإسرائيلية (الحوت، 1984، ص 637)، كما كان من المبادرين لمحاولة إقناع وجهاء الـبِـرْوِة بتسليمها دون مقاومة.
ومن المفارقات المأساوية أيضًا أن جار الشاعر، رضوان عودة سكس (أبو توفيق)، الذي قال عنه أنه نعم الجار وأنه يسامح المرء حتى لو كان ظالمًا، استشهد في الـبِـرْوِة بعد أن بقي فيها مع مجموعة من المسنين والعجزة بعد الاحتلال الأول لها بتاريخ 11 حزيران 1948. وكان استشهاده بعد أن اشتكى للضابط المسؤول عن قيام جندي بسرقة الدجاجات الحبشيات لامرأة ضريرة، وعلى الأرجح فإن هذا الجندي قام بقتله وإلقاء جثته في أحد الآبار، وبالتالي لم يعثر على جثته.
أخيرًا، لا يمكننا أن نتجاهل مأساة الشاعر نفسه الذي تشرد عن قريته ووطنه، ومات بعد النكبة بقليل، وغاب ديوانه في غياهب النسيان، ولم يعد يذكر فنه سوى أولئك الذين عايشوا الأفراح والاحتفالات والمناسبات التي أحياها بأشعاره. ففي ذلك الأوان كان الزجل الشعبي عمدة الفن ونبض الحياة وبوصلة الكلام، ففيه تقام الأفراح والأعراس، وعلى وقعه يتهادى الفلاحون والرعاة، وبوحيه تنطلق المظاهرات ويزأر رصاص الثوار. فلعلنا حين نستذكر قصيدة الشاعر عن بلدته نستحضر من هذا الغياب القاسي أيضًا الشاعر وديوانه وشعره، وهذا الفن الأصيل الذي كاد يغيب عن المشهد الثقافي.
4. حضور الغياب في "طَـلَـلِـيّـة الـبِـرْوِة" لمحمود درويش
المتتبع لذكريات وشهادات وإشارات محمود درويش الواردة في شعره ونثره، أو في اللقاءات الصحفية العديدة التي أجريت معه، يلاحظ مدى تعلّقه بقريته الـبِـرْوِة التي هُجّر منها، مع جميع سكانها، وهو في السابعة من عمره. ومن المعروف أن أسرته نزحت بعد النكبة إلى لبنان، ولكنها عادت بعد سنتين تقريبًا إلى الوطن، دون أن تتمكن من العودة إلى الـبِـرْوِة التي تم هدمها، فلجأت إلى قرية دير الأسد، لتنتقل بعدها إلى قرية الجديدة. وبعد أن أصبح درويش شابًا أقام في حيفا، ثم أخذ بعدها ينتقل من منفى إلى منفى، لكن حنينيه لمسقط رأسه ظل حاضرًا في وجدانه وأدبه طوال الوقت. فسواء أذكر الشاعر اسم القرية أو لم يذكره فهو، على الأغلب، يقصدها، خاصة عندما يتحدث عن طفولته أو عن أحداث النكبة. كما أن رفاقه من الأدباء والشعراء عرفوه دائمًا بأنه "ابن الـبِـرْوِة"، كما نجد، مثلًا، في رواية إميل حبيبي "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" (حبيبي، 1977، ص 26-27)، أو في قصيدة سميح القاسم "تغريبة" (درويش والقاسم، 1990، ص 19).
وتبدو نصوص درويش النثرية أكثر وضوحًا وإسهابًا من نصوصه الشعرية في الحديث عن طفولته وعن نكبة الـبِـرْوِة وتهجير أهلها. ففي كتابه "يوميات الحزن العادي" (1973)، ولا سيما في الفصل المسمى "القمر لم يسقط في البئر"، يسرد عن طفولته في الـبِـرْوِة وعن احتلالها مرتين وعن تداعيات النكبة عليه وعلى أسرته. كما يروي عن إحدى زياراته للقرية بعد تدميرها في محاولة منه لرؤية مرابع الطفولة، فيجد نفسه وسط أشواك عالية، ولا يرى من مباني القرية التي عهدها إلا هيكل الكنيسة التي حوّلها المستوطنون القادمون من اليمن إلى حظيرة للأبقار. ويستذكر الشاعر في حديثه واقعة جرت في القرية عام 1938، أثناء ثورة 1936-1939، سماها أهلها "وقعة الصبر"، حينما قام الإنجليز بالبطش والتنكيل بالأهالي، ومن بينهم والد الشاعر، من خلال الإلقاء بهم وسط شجيرات الصبّار الشائكة:[12]
لم يعد البكاء لائقًا بمن هم في مثل سني. كنت أختبر قدرتي على مواجهة الطفل الذي تركته هنا في السابعة من العمر. صار الشوك أطول مني ومنه فضعنا معًا. لم نعد نعرف أنا سيعثر على الآخر. ولكنني لم أر، من قبل، عصافير بمثل هذه الألوان الخضراء والزرقاء. جرحتني شوكة حادة، ففرحت لأنها نقطة الوصول. كنت غارقًا في الإحساس بالحج، ولكن لم أجد الكعبة. من أعطى الأرض هذه الوحشية إلا الهجر؟ كبرت أشجار الصبّار التي رمى الإنكليز أبي فيها وقطعوها بالفؤوس، فأخرج الطبيب من جلده مائة شوكة غير التي اختفت في اللحم. [...]
واصلت طريق الشوك والحجارة القديمة بحثًا عن الطفل الذي تركته هنا. لم أجد شجرة التوت التي كان يتسلقها ولا الساحة التي كان يضيع فيها. لا شيء.. لا شيء إلا هيكل كنيسة ضاع منها الجرس. دخلت الكنيسة، فكانت الأبقار التي تجترني بكسل. ما عاد بوسعي أن أرضى بالأطلال تجسيدًا للحلم، لأن انتمائي لم يعد غريزيًا.. صار أكثر وعيًا، وصار مضمون الحلم – لا انفجاره – هو قضيتي (درويش، 2007ب، ص 13).
نصوص الشاعر النثرية المتأخرة تبدو أكثر انفتاحًا وتحررًا في شهاداته حول طفولته في الـبِـرْوِة. ففي كتابه "في حضرة الغياب" يروي حكايات الندوب التي أصيب بها جراء "شقاوته"، كما يتحدث عن "الطوشات" الكثيرة التي كانت تجري بين الحمولتين الكبيرتين وحلفائهما في القرية لأتفه الأسباب، وتنتهي دون قتلى أو نصر، حسب تعبيره (درويش، 2006، ص 17-29). أما في نصوصه الشعرية فإنه يذكر بعض مشاهد القرية وأحداثها دون التصريح باسمها. فعلى سبيل المثال، في القسم الأول من ديوان "لماذا تركت الحصان وحيدًا" (1995)، "أيقونات من بلّور المكان"، الذي هو أشبه بالسيرة الذاتية للشاعر، يتحدث عن تهجير أسرته أثناء طفولته عن قريته إلى لبنان عام 1948، ثم العودة كمتسللين إلى فلسطين، وما رافق ذلك من مشاعر الحنين والغربة والألم (حمودة، 1995، 44-47؛ الشيخ، 1998، 144-149؛ الخلايلة، 2009، ص 267). بل إنه في قصيدة "أبد الصبار" من هذا القسم في الديوان يستلهم حادثة "وقعة الصبر"، المذكورة آنفًا، فيوظفها في شعره إذ يقول: "هنا صَلَبَ الإنجليزُ/ أَباك على شَوْك صُبَّارة ليلتين/ ولم يعترف أَبدًا." (درويش، 2001، ص 33).
ويمكن الجزم بأن قصيدة "طَـلَـلِـيّـة الـبِـرْوِة" هي القصيدة الوحيدة التي خص بها الشاعر قريته وذكر فيها اسمها بشكل صريح. وقد نُشرِت هذه القصيدة في الديوان الأخير "لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي" الصادر في بيروت عام 2009، أي بعد عام تقريبًا من وفاة الشاعر. ويمكن القول إنه لولا مثابرة أصدقاء ومعارف الشاعر لما رأى هذا الديوان وهذه القصيدة النور، ولظلا في عتمة الغياب (حول حيثيات إصدار هذا الديوان، انظر: خوري، 2009، ص 23-36)، وذلك رغم ادعاء البعض أن عدم مراجعة الشاعر نفسه للديوان تسببت في ورود الكثير من الأخطاء العروضية والطباعية فيه.[13]
حظيت هذه القصيدة منذ صدورها باهتمام النقاد والباحثين (انظر، على سبيل المثال، رحاحلة، 2015؛ غوادرة، 2021)،[14] لدرجة أن الباحث عادل الأسطة اقترح أن تكون هذه القصيدة ضمن المنهاج الفلسطيني: "لو سئلت أنا: أي القصائد ترشح لدرويش للمنهاج الفلسطيني لقلت "طَـلَـلِـيّـة الـبِـرْوِة"."[15] ومن المرجح أن تكون كتابة القصيدة قد تمت في أعقاب زيارة الشاعر القصيرة للوطن ولعائلته ولقريته عام 2007. إلا أن الشاعر محمود مرعي يعزو كتابتها إلى مقال وصور عن الـبِـرْوِة أرسلهما الشاعر خالد كساب محاميد، ابن قرية اللجون المهجّرة، إلى صحيفة "الحياة الجديدة"، التي نشرت المقال بتاريخ 12.7.2007. وقد وصف محاميد في مقاله تفاصيل زيارة قام بها برفقة ابنته الصغيرة وبعض أقرباء درويش ومخرج شاب إلى أطلال الـبِـرْوِة، حيث قاموا بتصوير صور عديدة من أطلالها ومحيطها وموقعها (محاميد، 2007). ويرجح مرعي أن يكون درويش قد اطلع على هذا المقال والصور، وخاصة صورة الطفلة الصغيرة بجانب شباك مدرسة الـبِـرْوِة، مما حرّك مشاعره ودفعه لكتابة قصيدته.[16]
ولا ندري إذا كان هذا هو فعلًا المحفز المباشر لكتابة هذه القصيدة، ولكن من المؤكد، كما أسلفنا، أن الـبِـرْوِة ظلت حاضرة دائمًا في وجدان الشاعر. بل إننا نلاحظ أن بعض أفكار وتعابير وتضمينات هذه القصيدة تتشابه مع تلك الموجودة في قصائد أخرى للشاعر، من بينها "على محطة قطار سقط عن الخريطة" في نفس الديوان (درويش، 2009، ص 25-34)، و"لم أعتذر للبئر"، و"بغيابها كوّنت صورتها" في ديوان "لا تعتذر عمّا فعلت" (2004) (درويش، 2004، ص 33-34، 49-50). كما نجد في القصيدة أيضًا أصداء وتضمينات من بعض نصوصه النثرية، مثل الفصل "المنفى المتدرج" في كتابه "حيرة العائد" (2007) (درويش، 2007أ، ص 39-48).
تتميز قصيدة "طَـلَـلِـيّـة الـبِـرْوِة" بطابعها القصصي، ففيها سرد وحوار وراوٍ وشخصيات ومكان يتقاسمه زمانان، واحد في عهد طفولة الشاعر وآخر في عهد المنفى والاستيطان، وحبكة قصصية تشد خيوطها مشاعر الشاعر المتصارعة بين الزمانين المذكورين. كما تتميز القصيدة من ناحية أسلوبية بكونها، كمعظم أشعار درويش، تنتمي إلى شعر التفعيلة؛ فضلًا عن أنها كمعظم قصائد الديوان الأخير جاءت على البحر الكامل، إذ تتكرر فيها تفعيلة "متفاعلن" وزحفاتها وعللها (فضيلي، 2017، ص 55؛ عويضة، 2018، ص 114). وتظهر في القصيدة الكثير من الصور الشعرية المفعمة بالرموز والاستعارات والتشبيهات والمجازات والكنايات التي تجعل اللغة الشعرية غنية بالإيحاءات والدلالات.
وظّف الشاعر في قصيدته بعض التناصات الشعرية (رحاحلة، 2015، ص 466)، التي جاءت لتأكيد قضاياه الفكرية، وقيمه الروحانية، وتعميقها في وعي المتلقي، ومنحها بعدًا إنسانيا شموليًا. من بين هذه التناصات تناصات ذاتية من شعر الشاعر نفسه، مثل قوله "هنا هيّأتُ للطيران نحو كواكبي فرسًا" (درويش، 2009، ص 110)، الذي ورد بصيغة مشابهة في قصيدة "لم أعتذر للبئر" في ديوانه "لا تعتذر عما فعلت"، حيث يقول "وها هنا أَسْرَجْتُ للطيران نحو/ كواكبي فَرَسًا" (درويش، 2004، ص 33). ومنها تناصات من الشعر العربي القديم، مثل قوله "أمشي خفيفًا كالطيور على أديم الأرض/ كي لا أوقظ الموتى" (درويش، 2009، ص 109)، الذي يذكّرنا بقول أبي العلاء المعري (973-1058) في شعر الزهد: "خَفّفِ الوَطْءَ! ما أَظُنُّ أَدِيمَ الْـ - أرْضِ إلا مِنْ هَذِهِ الأجْسادِ" (المعري، 1957، ص 7)؛ ومثل قوله: "يا صاحبَيَّ قفا" (درويش، 2009، ص 109)، الذي يذكّرنا بالوقوف على الأطلال في الشعر العربي القديم، كما في معلقة امرئ القيس (500-540): "قِفا نَبْكِ مِنْ ذِكرى حَبيبٍ ومَنزِلِ – بسِقْطِ اللِّوى بينَ الدَّخولِ فحَوْمَلِ" (الزوزني، د.ت.، ص 7). كما يستخدم الشاعر التكرار ليكثّف موقفه الشعوري وليمنح قصيدته مزيدًا من الإيقاعية الشعرية، مثل تكراره لعبارة "أين الآن أغنيتي؟" التي يلح الشاعر عبرها، كما يبدو، في سؤاله عن طفولته البروانية التي تم اجتثاثها.
يخلق الشاعر في قصيدته ثنائيات تضادية تقوم بينها علاقات جدلية من التباعد والانجذاب والتنافر والتكامل، مثل "الأنا" و"الآخر"، و"الحضور" و"الغياب"، و"الحاضر" و"الماضي"، وذلك على خلفية ثنائيات تضادية متناقضة ومتناحرة بين أطلال القرية المهجرة وبين المعالم الاستيطانية المغتصِبة، وبين طفولة الشاعر المسلوبة وبين المنفى القسري الذي يعيشه. كما يجعلنا الشاعر نشعر بهول العواطف والمشاعر التي عصفت به إزاء أطلال قريته من خلال تشظي ذاته بين "الأنا" و"الآخر"، ومن خلال حواره مع شخصين وهميين يجردهما من ذاته وهما السائح ومراسل الصحيفة الغربية: "هكذا أمشي كأني سائحٌ ومراسلٌ لصحيفة/ غربيةٍ" (درويش، 2009، ص 109).
يستهل الشاعر قصيدته بوصف مشيه وئيدًا كالطيور بين أطلال قريته، ومعبرًا عن خشيته، كأبي العلاء المعري، بأن الأرض ملأى بأجساد الموتى الذين يخشى إيقاظهم. وبما أن مشاهد الأطلال توقظ عواطفه فإنه يقرر إقفال باب عاطفته لتتحول ذاته المتشظية من "الأنا" إلى "الآخر"، أو من الشاعر/ الطفل/ العقل الباطن إلى الشاعر/ البالغ/ العقل الواعي، لكيلا يشعر بأنه حجر يئن من الحنين إلى السحابة. وهي صورة شعرية استعارية توازي بين حنين الشاعر للطلل/ للحجر وبين حنين الحجر/ الطلل للسحابة/ للمطر.
يجرّد الشاعر من ذاته شخصين وهميين هما سائح ومراسل لصحيفة غربية يتخيلهما يسيران بين هذه الأطلال. ولكنه لا يجد ما يصفه في هذا المكان إلا الريح، التي تشير لحركية التهجير والرحيل، والغياب، الذي يشير إلى الماضي المغيّب. إلا أن حالة الحياد التي ظهر عليها الغياب والغراب، الذي يُعرَف عنه بأنه نذير شؤم، تدل على أن آخر الشاعر هو الذي يحاول استقراء المكان. ولهذا نجده يخاطب، على طريقة الشعراء الجاهليين، صاحبين وهميين طالبًا منهما الوقوف على الأطلال من أجل اختبار المكان. ويعتقد بعض الباحثين أن المقدمة الطَـلَـلِـيّـة في الشعر العربي القديم هي عبارة عن حنين تولد جراء حاضر الشاعر المأزوم (عطوان، 1970، ص 227). ولكن لا بد من الانتباه إلى انتقال شاعرنا من ضمير المتكلم الفردي إلى ضمير المتكلم الجمعي، إذ يقول: "لنختبر المكان على طريقتنا" (درويش، 2009، ص 109)، مما يدل على تداخل الأصوات المعبرة عن الذات المتشظية.
يصوّر الشاعر من خلال صور شعرية حافلة بالاستعارات والمجازات والكنايات مشاهد طفولته البروانية المجتثة، مردفًا كل مشهد منها باستفهام بلاغي: "أين الآن أغنيتي؟"، للإشارة إلى توقه وحنينه لمرابع الطفولة. فيبدأ بتصوير جمال الطبيعة القروية في فترة ولادته أثناء فصل الربيع واصفًا بزوغ شقائق النعمان وكأنه نتيجة سقوط السماء على حجر وإدمائه. ثم يصوّر الحرية التي ميّزت طفولته المبكرة وكأنها كسر الغزال لزجاج نافذته لكي يتبعه إلى الوادي. وبعدها يصوّر مشهد التحاقه بالمدرسة الذي تميز باللهفة والشغف في طلب العلم فيصف طريقه إلى المدرسة وكأنما تحملها فراشات الصباح الساحرات. وأخيرًا، يصوّر اتساع خياله وأحلامه وطموحاته في طفولته المتأخرة وكأنه التأهب للطيران نحو الكواكب على صهوة فرس.
يعود الشاعر ثانية للوقوف على الأطلال فيتوجه لصاحبيه طالبًا منهما التوقف لكي يتأمل المكان بمساعدة المعلقات الجاهلية الغنية بالخيول وبالرحيل. لكن هذه المعلقات لا تكفي، برأيه، لسرد مأساة الشعب الفلسطيني، فبعدد قوافي هذه المعلقات هناك أعداد كبيرة من خيام اللاجئين والبيوت التي عصفت به رياح التهجير. ثم ينتقل الشاعر من المأساة الفلسطينية العامة إلى مأساته الشخصية ليؤكد أنه ابن حكايته الأولى، بمعنى أنه ما زال يعتبر مرحلة طفولته أجمل فترات حياته، حتى وكأن الزمن توقف عندها. ولهذا نجده يستخدم الزمن الحاضر والفعل المضارع عند حديثه عن طفولته في حضن عائلته التي تحتضنه وترعاه: فأمه ترضعه من حليبها الدافئ، وسريره تهزّه عصفورتان صغيرتان، ووالده يكدح ويعمل بيديه لكي يهيئ له مستقبله. ولهذا فهو يشعر أن توقف الزمن عند مرحلة الطفولة يعني أنه لم يكبر ولم يذهب إلى المنفى.
ينتقل الشاعر بعدها إلى حوار يدور بينه وبين الشخصين الوهميين اللذين جردهما من ذاته وهما السائح والصحفي. فالسائح يطلب منه أن ينتظر اليمامة حتى تنهي هديلها، لكن الشاعر يؤكد له أنها تعرفه ويعرفها، إلا أن الرسالة لم تصل. ولعل الشاعر يقصد بذلك أن اليمامة التي ترمز للسلام لم تستطع أن توصل رسالتها السلمية، بمعنى أن السلام بعيد المنال. أما الصحفي فيواجهه بالمعالم الاستيطانية التي أقيمت على أراضي الـبِـرْوِة، لكن الشاعر لا يراها بل يرى معالم قريته وطفولته التي يحاول الاستيطان محوها وطمسها. فحين يسأله إذا كان يرى مصنع الألبان خلف الصنوبرة القوية، فإنه يؤكد أنه لا يرى إلا الغزالة في الشباك، أو بكلمات أخرى الحرية أثناء طفولته. وحين يسأله الصحفي عن الطرق الحديثة المقامة على أنقاض البيوت، فإن الشاعر يؤكد أنه لا يرى إلا الحديقة تحتها وخيوط العنكبوت. بمعنى أن أوهن البيوت في الحديقة، كما جاء في القرآن الكريم،[17] ما زالت، بنظر الشاعر، موجودة في الحديقة وتأبى أن تهدم أو تطمس كما أراد لها الاستيطان.
يتابع الشاعر حواره مع الصحفي والسائح، فالصحفي يطلب منه أن يجفف دمعتيه بحفنة من العشب الطري، إلا أن الشاعر يقول له إن آخره هو الذي يبكي على الماضي، خاصة وأن "الأنا" يعتبر هذا الماضي هو الحاضر الذي يتجسد أمامه. بينما السائح يعلن انتهاء الزيارة، خاصة وأنه لم يجد ما يصوّره سوى شبح. في حين أن الشاعر لا يرى إلا الغياب، أو الماضي المغيّب، بل إنه يستطيع أن يلمسه ويسمعه، حتى أنه يرفعه إلى الأعلى فيرى السماوات القصية. أي أن الغياب هو أشبه بحالة من التجلي الروحاني الذي يمد الشاعر بسرمدية الحياة، فيصبح كالعنقاء التي تموت لتولد من جديد، وليعود في حلقة دائرية من غياب المنافي إلى غياب الطفولة وبالعكس.
يمكن القول إذن إن "طَـلَـلِـيّـة الـبِـرْوِة" تتشابه مع المقدمات الطَـلَـلِـيّـة في الشعر العربي القديم من حيث تعبيرها عن الحنين للماضي جراء واقع الشاعر المأزوم، ولكنها تتجاوز هذه المقدمات في ترسيخها للانتماء للمكان الذي ارتبط به الشاعر وجدانيًا في طفولته وأصبح معادلًا للوطن الضائع والغائب. ولعل تشظي الذات إزاء أطلال الـبِـرْوِة يظهر مدى عمق الإحساس بغياب مرابع الطفولة ومعالم القرية المهجّرة وحميمية الوطن. ولكن الشاعر يأبى الاعتراف بسطوة الغياب فيسعى لإحياء ذاكرة المكان الطفولية وتعرية الواقع الاستيطاني ليتداخل الحضور والغياب في جدلية أبدية تجسد مأساة الوطن.
5. خاتمة
كانت الـبِـرْوِة قرية عامرة وذات شأن بين قرى قضاء عكا، تجمع بين وعورة جبال الجليل وانبساط السهل الساحلي. وقد انبرى شاعرها الشعبي أسعد عطا الله يفاخر بقريته وأهلها في قصيدته الزجلية الصادرة عام 1930 فيصفها كحاضرة بمعالمها الجغرافية والعمرانية ومكانتها الاجتماعية وتركيبتها السكانية وعاداتها الشعبية وأجواء الألفة والمودة السائدة بين قاطنيها. في هذه الأجواء الحميمية نشأ وترعرع محمود درويش، وأمضى طفولته فيها حتى سن السابعة، فأحب قريته حبًا جمًا وارتبط بها ارتباطًا وثيقًا. لكن أحداث النكبة وما صحبها من تهجير وقتل وتدمير اقتلعت الطفل درويش من مرابع طفولته، كما شردت الحادي عطا الله وسببت بضياع ديوانه، مما أثقل قلبه بالهموم والأحزان التي قادت لوفاته مبكرًا ولخبو نجم سطع في سماء الزجل الشعبي الفلسطيني لفترة طويلة. ولهذا فقد أضحت مفاخرته ببلدته، بعد أقل من عقدين على كتابتها، أشبه بمرثية للقرية وسكانها.
أما درويش فقد حاول، بعد عودة أسرته إلى أرض الوطن من منفاها قصير الأمد في لبنان، أن يستكشف معالم قريته وطفولته، إلا أنه لم يعثر إلا على الركام والخراب. ومع ذلك ظلت الـبِـرْوِة حاضرة في ذهنه ووجدانه طوال حياته، وظلت طفولته فيها أشبه بحياة سحرية أخّاذة، يستذكرها دائمًا في العديد من كتاباته ومقابلاته وأشعاره. ولكنه قبيل وفاته خص قريته بقصيدة "طَـلَـلِـيّـة الـبِـرْوِة" عام 2009. في هذه القصيدة يقف الشاعر أمام أطلال قريته، التي حضنت طفولته الرغيدة، فتتشظى ذاته بين الأنا والآخر، ويتشظى زمانه بين الماضي والحاضر، ويتشظى مكانه بين الحضور والغياب، ولكنه يأبى أن يرى المعالم الاستيطانية التي تحاول محو وطمس مكانه الطفولي، كما يرفض قبول حالة النفي التي يعيشها، مفضلًا أن يتوقف به الزمن ليعيش من جديد طفولته في مسقط رأسه.
قصيدتا عطا الله ودرويش تؤكدان إذن العلاقات الوجدانية الحميمة التي تربط هذين الشاعرين بقريتهما. إذ تمكن الشاعران من التعبير عن جمالية القرية وحياتها المثالية، سواء أكان ذلك من منظور طفل في السابعة أو رجل في الثلاثين، وبالتالي فإنهما يعززان سويًا حضور الـبِـرْوِة كحاضرة. لكن نكبة الـبِـرْوِة ومحاولة طمس معالمها وتغييب ذاكرتها ونفي أهلها وما يمثله كل ذلك من غياب لا يمكن أن يغيب عن ذهن قارئ هاتين القصيدتين. فمتلقي زجلية عطا الله، وخاصة المطلع على حيثيات النكبة، لا بد أن يلاحظ المفارقات المأساوية بين ما ورد في الزجلية وبين ما حل بالقرية وسكانها وبالشاعر وشعره، وما يعنيه ذلك من عمق الغياب. كما أن متلقي طَـلَـلِـيّـة درويش لا بد أن يلاحظ أن الغياب هو صنو الحضور، لأنهما يتداخلان في جدلية دائمة تمليها ذات متشظية بين الأنا والآخر وبين الماضي والحاضر، وطفولة ملتصقة بتراب المكان تزاحمها معالم استيطانية تعيد ترسيم الخريطة والرواية، ووطن أسير يساومه منفى قلق لا يتسع لحجم الحنين.
= = =
هوامش البحث
[1] بعد تهجير سكان القرية شرعت السلطات الإسرائيلية بتوطين أراضيها بمستوطنين من هنغاريا وإنجلترا والبرازيل في كيبوتس يسعور عام 1949؛ ثم بمستوطنين من اليمن في موشاف أحيهود عام 1950. كما بادرت في نفس العام لهدم بيوت القرية ولم يبق منها قائمًا سوى بضع بنايات هي الكنيسة، المدرسة، مقام الكيّال، معصرة زيتون لآل الإدلبي، إضافة لمقابر القرية، لكن هذه البنايات والقبور تهدمت بمعظمها نتيجة تخريبها المتعمد وعدم صيانتها. منذ سبعينات القرن الماضي تمت إقامة منطقة صناعية شرقي موقع القرية، ضمت لاحقًا عام 2001 مصنعًا للألبان تابعًا لشركة شتراوس. في نهاية عام 2007 تم تجريف وطمر بعض مواقع القرية ومقابرها من أجل إقامة حظائر أبقار حديثة تابعة للموشاف.
[2] وُلد أسعد عطا الله في قرية الـبِـرْوِة في مستهل القرن العشرين لأسرة من طائفة الروم الأرثوذكس التي ينتمي إليها جميع مسيحيي الـبِـرْوِة. والداه هما يوسف ولطيفة عطا الله، وله شقيق منهما اسمه إلياس. وقد تعلّم مع اترابه في مدرسة القرية في مرحلة لم يتجاوز فيها التعليم الصف الرابع الابتدائي. تزوج من وديعة خوري، ابنة عيسى ونورة خوري، ورزقا بعدد من الأبناء والبنات، من بينهم يوسف وناصيف اللذان تعلما في مدرسة القرية. عُيّن في أواخر الثلاثينات من القرن الماضي ولفترة قصيرة مختارًا للطائفة المسيحية، ولكنه في أواسط الأربعينات قرر الانتقال إلى حيفا، وهناك عمل خادمًا (قندلفت) في كنيسة الروم الأرثوذكس. واستمر في عمله هذا حتى دفعته أحداث النكبة في حيفا للعودة إلى قريته. ولم يطل به الأمد في القرية حتى باغتته أهوال النكبة ثانية فارضة عليه التهجير والتشرد والغربة، فأضطر للنزوح مع أسرته إلى قرية رميش في جنوب لبنان، ومن ثم إلى قرية جلّ الذيب قرب بيروت. وهناك وافته المنية بعد عامين فقط من نزوحه عن فلسطين وهو في حوالي الخمسين من عمره. تجدر الإشارة إلى أننا اعتمدنا في سرد سيرة حياته على شهادات أهالي القرية، وكذلك على مقال يوسف نعمان ناصر بعنوان "ديوان شاعر الـبِـرْوِة الشّعبيّ أسعد عطا الله"، المنشور بتاريخ 24.12.2015 في الموقع التالي (شوهد بتاريخ 12.3.2019):
https://www.farahnewsonline.com/?mod=news&id=49264&rp=0&act=print&rf=1
[3] في كتاب ساهرة درباس حول الـبِـرْوِة تم التأكيد على أن عطا الله نظم عام 1931 "كتاب حدا وأشعار شعبية نشره ووزعه في أنحاء البلاد. كما درسه الطلاب في المدارس. وقد ضم الكتاب مدائح للعائلات، غزل، وصف لبلده ووطنه." (درباس، 1992، ص 24). ويبدو لنا أن الباحثة تبالغ في حديثها عن رواج هذا الديوان، لا سيما وأنه لم يكن من السهل العثور عليه.
[4] إذا اتبعنا معايير اللغة العربية الفصحى فإن الأصح لغويًا أن تكتب "نشء" وليس "نشأ". ومع ذلك فقد قررت، هنا ولاحقًا، الإبقاء على النص كما ورد في هذا الديوان، دون تعديل أو تصحيح، خاصة وأنه بمعظمه باللغة العامية، سعيًا مني للأمانة العلمية في نقل النص الأصلي.
[5] العتابا هي على البحر البسيط (أحد عشر مقطعًا في كل شطرة) والبيت الواحد فيها مكون من أربع شطرات تكون ثلاث منها ذات كلمات متجانسة اللفظ ومتباينة المعنى في خاتمتها، بينما الشطرة الأخيرة تكون مختومة بباء ساكنة أو ألف. أما الميجنا فهي على البحر اليعقوبي (اثنا عشر مقطعًا في كل شطرة)، وهي تشبه العتابا من حيث شطراتها ولكنها تختتم بحرفي النون والألف (نا) (الأسدي، 1976، ص 44-45). لا بد من الإشارة هنا إلى أن بعض الباحثين يحيلون أوزان الشعر الشعبي عامة، والعتابا والميجنا خاصة، إلى الأوزان الشعرية الكلاسيكية. انظر، على سبيل المثال، خوري، 2013، ص 109-115.
[6] هي عتابا منسوبة إلى عشيرة الجبّور في منطقة الخابور في العراق وترد فيها عادة ألفاظ السقي والري (خوري، 2013، ص 108)، إلا أن شاعرنا استخدمها لشعر الحماسة والفروسية والفخر.
[7] هي مواويل مكونة من سبع شطرات، قوافي الثلاث الأولى منها بنفس الكلمات المتجانسة، وقوافي الثلاث الأخرى بكلمات متجانسة مغايرة، أما الشطرة السابعة فتكون مطابقة في قافيتها للثلاث الأولى. انظر: خوري، 2013، ص 155-156؛ قلعه جي، د.ت.، ص 14.
[8] في الفصل الخامس الذي سماه "في تحليل قصيدة المرحوم شهيد الوطن السيد فؤاد حجازي من صفد" (عطا الله، 1930، ص 19-21)، قام الشاعر بإعادة صياغة قصيدة "يا ظلام القبر خيّم"، التي تحولت إلى ما يشبه النشيد الوطني (الكرمل، 1930)، بأسلوب العتابا. لمزيد من التفاصيل حول ثورة البراق وإعدام الشهداء الثلاثة، انظر: السفري، 1981، ص 124-128، 139-140.
[9] يروي أهالي الـبِـرْوِة عن كرامة للشيخ محمد الكيّال مشابهة لتلك التي تروى عن جد أكثر قدمًا لآل كيّال هو الشيخ إسماعيل ابن السيد علي مهذب الدولة الرفاعي وهو المعروف بالكيّال والمتوفى عام 1286م والمدفون في قرية الترنبة من أعمال مدينة حلب. إذ يقال إن الشيخ إسماعيل أراد أن يرفع ظلم مملوك الملك الظاهر عن أهل قريته عندما شاع المحل وحل الضيق بهم فجعل القمح يتدفق في خليات القمح والكيل يكتال بنفسه. راجع، على سبيل المثال، مادة "قبيلة الرفاعي" في موقع "عريق" (شوهد بتاريخ 13.1.2023):
https://areq.net/m/الرفاعي_(قبيلة).html
[10] هناك حكاية معروفة تناقلها الناس بشأن تعيين خوري الـبِـرْوِة من قبل مسلمي القرية يظهر من خلالها مدى الألفة والمودة اللتين سادتا بين الطائفتين الإسلامية والمسيحية في الـبِـرْوِة (انظر، على سبيل المثال، إبراهيم، 1985).
[11] لمزيد من التفاصيل عن تسميم مياه عكا، انظر: سلمان أبو ستة، "إسرائيل أول من استعمل الحرب الجرثومية في فلسطين وأكبر خازن لها"، موقع هيئة أرض فلسطين، 1 فبراير 2003، شوهد في: 23.11.2022، في:
[12] هذه الواقعة سرد تفاصيلها جميع من كتب عن تاريخ القرية، انظر، مثلًا، دبدوب، 2002، ص 66-67؛ درويش، 2006، ص 29. كما استلهمها أدبيًا بمعظم تفاصيلها شقيق الشاعر الكاتب زكي درويش في قصته "الخروج من مرج بن عامر" (درويش، 1983، ص 192).
[13] سليمان جبران، "عودة أخيرة إلى "الأخطاء" في مجموعة درويش الأخيرة؛ "لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي"." نُشر في موقع "قديتا" بتاريخ 27.3.2011، شوهد بتاريخ 23.4.2023، في:
https://www.qadita.net/featured/عودة-أخيرة-إلى-الأخطاء-في-مجموعة-دروي/
ويشير جبران في مقاله إلى مقالين تناولا الأخطاء الواردة في ديوان درويش الأخير، الأول لشوقي بزيع "عندما لا يضع محمود درويش لمساته الأخيرة على ديوانه"، المنشور في جريدة "الحياة" بتاريخ 26.3.2009؛ والثاني لديمة الشكر بعنوان "مقارنة بين المخطوط الأصلي والديوان المطبوع، محمود درويش لا يخطئ في الوزن"، المنشور في جريدة "الحياة" بتاريخ 1.4.2009.
[14] انظر كذلك: جهاد فاضل، "طَـلَـلِـيّـة الـبِـرْوِة"، نُشر في جريدة "الرياض"، ع 15862، بتاريخ 28.11.2011، شوهد بتاريخ 13.5.2021، في:
https://www.alriyadh.com/686615
[15] انظر: عادل الأسطة، "طَـلَـلِـيّـة الـبِـرْوِة.. طَـلَـلِـيّـة الوطن"، نُشر في جريدة "الأيام" بتاريخ 31.5.2009، شوهد بتاريخ 13.5.2021، في:
https://www.al-ayyam.ps/ar_page.php?id=66973fby107574267Y66973fb#
[16] انظر: محمود مرعي، "طَـلَـلِـيّـة درويش.. بعد 60 سنة.. غزالة فلسطينية تعيد محمود درويش إلى طفولته في الـبِـرْوِة"، نُشر في صحيفة "دنيا الوطن" بتاريخ 4.3.2011؛ شوهد بتاريخ 13.5.2021، في:
https://pulpit.alwatanvoice.com/content/print/221919.html
[17] المقصود الآية القرآنية (41) من سورة العنكبوت (29): "وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ".
الملاحق
.
الملحق الأول
أسعد يمدح بلدته الـبِـرْوِة وسكانها[1]
أسعد عطا الله
.
بَلَدْنَا مَلْجَأ القُصَّاد والجَاه = = = مَرْفُوعَا القَدِر والشَان والجَاه
تَحْلِيل العُسُر لَلْيُسُر والجَاه = = = تْفَكْفِك لَمَعَاضِيل الصّعَاب[2]
بَلَدْنَا خَرَج مِنْهَا كُل رَجْلَاه = = = إنْ حَضَر لَلْمَعْرَكِة الكُون رَجْلَاه
إذَا خَطَى نَواحِي الضِّد رِجْلَاه = = = يقْلِبْهَا يَمِين ومَيسَرَا[3]
جُور الزَّمَن سَوَّحْنَا بِلْدِنَاي = = = عَجِنْس التَّنَك لَم يرْكَب بِلَدْنَاي
يَا رَبِّي تْعَمِّر البِرْوِة بَلَدْنَاي = = = ومِنْهَا تُخْرُج اسْبَاع الفَلَا[4]
لَادْرُجْ مَدِحْهَا، والنَّظِم بِرْوَاي = = = بِهَا مَنْهَل إلَى الظَّمْآن بِرْوَاي
انْوَجَد فِيكِي أَلَا بِاجْدَار بِرْوَاي = = = فَطَاحِل كَالأُسُود ابْوَسَط غَاب[5]
بْمَدْحِك قَد نَظَمِت أَنْغَام شَتَّى = = = ورِجْع عَقْل الذِّي مِن الرَّاس شَتَّى
الكَرَم والجُود مِنْكِ المُزْن شَتَّى = = = ومِنِّك يكْتِفِي العَايز مَيَا[6]
بَذْكُر مَدْحِك فِي نَغَم مَعَنَّاي = = = واشْواقًا لِكِ انْوجَد مَعْنَاي
نْحَيِّيكِ ونْحَيِّ بَعِد مَعْنَاي = = = مِن حُولِك مَسَافِة مِن الوَطَا[7]
بَلَدْنَا عَالْيه ابْرَاس رَابَاي = = = وفِيكِ مْحِمَّد الكَيَّال رَابَاي
بِيدُو لَو لَمَس للْمَاء رَابَاي = = = صبّحْ كاللبن تحويل المَيَا[8]
مِن بَعْدُو طِلِع سْيَاد واعْلَام = = = ابْمَقَامُو انْوَضَع رَايَات واعْلَام
بَانَتْ مِن فْنُونِي ارْمُوز واعْلَام = = = تْحَيِّي آل كَيَّال ابْهَلَا[9]
غرّب عَابَنِي دَرْويش تَغْرِيب = = = يُوسِف كَان يسِن أَحْكَام تَغْرِيب
وكُل مِنْهَا الشَّمِس بِأَمْس تِغْرِيب = = = أحْمَد يلْتِقِي اضْيُوف المَسَا[10]
صَالِح يا الَّذِي جِدَّك رَمَاضَان = = = يَعَابِد رَبَّك وصَايم رَمَاضَان
مَا عُمْرُوا بِوسْطُه فِكْرُو رَمَاضَان = = = الا ابْحَسَب ظَنُّو ينْتَشَا[11]
بَنِي هَوَّاش مَع عَلِي ذِيب وسْعَاد = = = زَهِيًا وقْتِهُم بِالعَيش وسْعَاد
صَالِح وأَحْمَد والعَبِد وسْعَاد = = = وسَلِيم وقَاسِم مِن أَهْل النَّخَا[12]
تَحْيَا يَا نَسِل قَاسِم مِعَارَاي = = = وِجْدَان الرَّجُل مِنْكُوا مُعَارَاي
النّاظِم فِكْرُه اتْهَيَّأ مِعَارَاي = = = يحَيِّ اشْيُوخْكُم ثُمَّ الشَّبَاب[13]
مْسَدَّس مِن فُنُون وسَبِع عَثْمَان = = = يمْدَح بِالنَّظِم لآل عُثْمَان
مَا نِرْهَي بِهِم بِالسُّوم عَثَمَان = = = وكْرَام ويلْتِقُوا اضْيُوف المَسَا[14]
وبَاقِيت البَلَد مَع دَار عِيشَان = = = كْرَام ويطْعَمُوا الضِّيفَان عِيشَان
بَذْكُر كُل مَن فِي البَلَد عِيشَان = = = مِن كْهَال وأَطْفَال وشَبَاب[15]
يَا مُخْتَار البَلَد للْفِكِر مِنْشُور = = = وصَفَائِح قَلِبْنَا مِن الوَجِد مَنْشُور
عَلَى بُرْج الحَصِينَا صَار مَنْشُور = = = عَلَمْكُم والوَمِض يحْمِي اجْنَاب[16]
لَامْدَح يَا بَنِي إدْلِب نَسِلْكُم = = = الكَرِيم وبِالدَّجى يلْمَع نَسِلْكُم
ابِن يُوسِف مَا ظَنِّي نَسِلْكُم = = = حَتَّى يُوم دَكَّات الحْسَاب[17]
الغَوادِي الخَطَّطُوا يا شِيخ بِسْمَاك = = = مَا يضَعْضِع بُحُور اللُّطُف بِسْمَاك
لَبْرُم بِالوَغَا واصِيح بِسْمَاك = = = الشَّرِيف ومَبْسَمَك لِلُّطُف جاب[18]
يَنَاجِي يَا سَعِد مَن كَان لَو جَار = = = ابْيسْعَي عَاظَنَّك الدَّهِر لَو جَار
بْيَمِينُو مُرْهَف الحَدِّين لَو جَار = = = الأَعَادِي اتْصِيح أَبُو يُوسِف أَجَا[19]
لَكَ يَا أَحْمَدًا أَشْوَاق قَدْمَاه = = = بِهِمَّا بَاسْلِة مَا خَل قَدْمَاه
لَكَ مِنِّي جَزِيل الشَّوق قَدْمَاه = = = خَلَق رَب السَّمَا والكُون جَاب[20]
بِقِي عَلِينَا مْحِمَّد عَبِد حَالِيم = = = رَفُوقًا بِالنَّوا والطَّبِع حَالِيم
هَاتِف قَد أَتَانِي وصَر حَالِيم = = = شَخْصُو قَد أَتَانِي بِالكَرَى[21]
لَامْدَح لِلَّذِي تَابْعِين مَاسِيح = = = زَادُو عَلَيَّ جَنَف ورُحِت مَاسِيح
كَم لَخَمْنِي لَجَنْبِي صُرِت مَاسِيح = = = وأَقُول أنْصَارِنَا ايرُدُو النَّوَا[22]
لَامْدَح حَضِرْتَك يَا عَم سَالِيم = = = عْيُونِي لَاجِل حُبَّك دَمِع سَالِيم
عَسَاك مِن رَزَايَا الدَّهِر سَالِيم = = = وبِطُول العُمُر مَا يطُولَك غَشَا[23]
لـَمْــدَح حَضِرْتَك يَا أَب جُبْرَان = = = صُرِت كَاهِن عَن [ا]لدُشْمَان جُبْرَان
جَدَّك لَلْخَواطِر كَان جُبْرَان = = = نِقُولَا فَكْفَك أُمُور الصْعَاب[24]
بَلَغْنِي الْبِسِت ثُوب العِز حَلَّاك = = = يبَاهِي عَالمُنِيرَه اللُّطُف وحَلَّاك
إِذَا أَقْثَم دُجَا الدَّيجُور وحَلَّاك = = = جَبِينَك عَن بُزُوغ البَدِر نَاب[25]
عِيسَى يَا أَبَا وَدِيع عَمْنَا = = = لْطَافَك في بَحِرْهَا جَد عُمْنَا
الكَرَم والجُود مِنَّك مُزْن عَمْنَا = = = كَسَاك الرَّب حُلَّة مِن البَهَا[26]
أَبُو تَوفِيق نِعْمَ الجَار جَارَاي = = = يصْفَح لَلْمَرِء لَو كَان جَارَاي
أَمَا تِعْلَم بَأَنَّ الفِكِر جَارَاي = = = بِمَدْحُو أَلَّف النَّاظِم عَتَاب[27]
= = =
هوامش الملحق الأول
[1] عطا الله، 1930، ص 25-28. (ملاحظة: تشكيل النص هو من اجتهادي الشخصي ولم يرد في النص الأصلي، م.ك.).
[2] والجَاه1= الجاهي أي الآتي علانية؛ والجَاه2= المنزلة والقَدْرُ؛ والجَاه3= الجاهة أو الوجهاء.
[3] رَجْلَاه1= رَجُل؛ رَجْلَاه2= رجّ له؛ رِجْلَاه3= مثنى رِجْل.
[4] بِلْدِنَاي1= بالدنيا؛ بِلَدْنَاي2= لدان أي لين ومرن؛ بَلَدْنَاي3= بلدنا.
[5] بِرْوَاي1= أروي؛ بِرْوَاي2= يروي الماء؛ بِرْوَاي3= البروة.
[6] شَتَّى1= شَتَّى أي متنوعة؛ شَتَّى2= شتّ أو تشتت؛ شَتَّى3= أمطر.
[7] مَعَنَّاي1= المعنّى وهو نوع من الزجل؛ مَعْنَاي2= معنا؛ مَعْنَاي3= المعناية وهي مساحة من الأرض.
[8] رَابَاي1= رابية؛ رَابَاي2= ربا الرابية أي صعد فوقها؛ رَابَاي3= راب وأصبح كاللبن. المقصود هنا الشيخ محمد الكيّال الجد الأكبر لآل كيال، الذي يعتبر وليًّا صالحًا وكان له مقام في وسط القرية.
[9] واعْلَام1= أسياد؛ واعْلَام2= رايات؛ واعْلَام3= علامات.
[10] تَغْرِيب1= غربًا أو باتجاه الغرب؛ تَغْرِيب2= نفي أو إبعاد؛ تِغْرِيب3= تغرب غروبًا. الممدوحان هما يوسف وأحمد درويش.
[11] رَمَاضَان1= رمضان (اسم علم)؛ رَمَاضَان2= شهر رمضان؛ رَمَاضَان3= رمى ظن أي ظن ظنًا ما. الممدوح هو صالح رمضان.
[12] وسْعَاد1= سعد (اسم عائلة)؛ وسْعَاد2= سعداء؛ وسْعَاد3= أسعد أو سعيد (اسم علم). العائلات الممدوحة: هوّاش، ذيب وسعد ووجهاؤها صالح وأحمد هواش، وعبد وسعيد ذيب، وسليم وقاسم سعد.
[13] مِعَارَاي1= ميعاري (اسم عائلة)؛ مُعَارَاي2= مُعار أي مستمد منكم؛ مِعَارَاي3= المعرّي (الشاعر المعروف). الممدوح هو قاسم الميعاري وعائلته.
[14] عَثْمَان1= عَثَمْثَم أي قوي شديد؛ عُثْمَان2= عثمان (اسم عائلة)؛ عَثَمَان3= على ثمن؛ مْسَدَّس= (في العروض) بيت شعري يبنى على ستة أجزاء؛ نرهى= نرضى؛ السوم= المساومة. العائلة الممدوحة: عثمان من آل سمري.
[15] عِيشَان1= عيشان (اسم عائلة)؛ عِيشَان2= عشاء؛ عِيشَان3= يعيش. العائلة الممدوحة: عيشان.
[16] مِنْشُور1= نقدم المشورة؛ مَنْشُور2= مقطع الأوصال؛ مَنْشُور3= يرفرف عاليًا. الممدوح هو المختار صالح أحمد كيال.
[17] نَسِلْكُم1= ابناؤكم؛ نَسِلْكُم2= نصلكم والنصل هو حديدة الرمح والسهم والسكين؛ نَسِلْكُم3= نسيكم؛ بَنِي إدْلِب= آل الإدلبي؛ ابن يوسف= شاعرنا أسعد عطا الله.
[18] بِسْمَاك1= تسميمك؛ بِسْمَاك2= بسمائك؛ بِسْمَاك3= باسمك؛ الغوادي= الأوغاد. الممدوح هو الشيخ بشير الإدلبي (1886-1957)، الذي كان مأذونًا وإمامًا وقاضيًا شرعيًا في عكا.
[19] لَو جَار1= لو كان جارًا؛ لَو جَار2= لو ظلم؛ لَو جَار3= لو اعتدى؛ أبو يوسف هو الشاعر. الممدوح هو ناجي الإدلبي.
[20] قَدْمَاه1= قديمة؛ قَدْمَاه2= رجلاه؛ قَدْمَاه3= بقدر ما. الممدوح هو أحمد الإدلبي.
[21] حَالِيم1= حليم (اسم علم)؛ حَالِيم2= حليم أي صبور؛ حَالِيم3= حالم. الممدوح هو محمد عبد الحليم [حسين] من سكّان شعب ولجأ إلى الـبِـرْوِة نتيجة خلافات عائلية (انظر: علي، 2007، ص 167).
[22] مَاسِيح1= المسيح؛ مَاسِيح2= كدت أسيح؛ مَاسِيح3= ماسح.
[23] سَالِيم1= سليم (اسم علم)؛ سَالِيم2= سال؛ سَالِيم3= سالم. الممدوح هو سليم نقولا الخوري.
[24] جُبْرَان1= جبران (اسم علم)؛ جُبْرَان2= يعفو ويصفح؛ جُبْرَان3= يواسي؛ الدُشمان = (بالفارسية والتركية) العدو أو الخصم. الممدوح هو خوري الـبِـرْوِة الأب جبران سليم نقولا الخوري (1902-1977).
[25] حَلَّاك1= جعلك حلوًا؛ وحَلَّاك2= حلولك؛ وحَلَّاك2= أحلك أي اشتد سواده؛ أَقْثَم= أبطأ؛ دُجَا= دُجَى أي سواد الليل وظلمته؛ الدَّيجُور= الظلمة.
[26] عَمْنَا1= عمّنا؛ عُمْنَا2= سبحنا؛ عَمْنَا3= شملنا. الممدوح هو عيسى الخوري (أبو وديع) وهو والد زوجة الشاعر.
[27] جَارَاي1= جاري؛ جَارَاي2= جائر أي ظالم؛ جَارَاي3= منساب. الممدوح هو رضوان عودة سكس (أبو توفيق) جار الشاعر.
.
الملحق الثاني
طَـلَـلِـيّـة الـبِـرْوِة[1]
محمود درويش
.
.
أمشي خفيفًا كالطيور على أديم الأرض،
كي لا أوقظ الموتى. وأُقفلُ باب
عاطفتي لأصبحَ آخَري، إذ لا أحسُّ
بأنني حجرٌ يئنُّ من الحنين إلى السحابة.
هكذا أمشي كأني سائحٌ ومراسلٌ لصحيفة
غربيةٍ. أختارُ من هذا المكان الريحَ...
أختارُ الغياب لوصفِهِ. جَلَس الغيابُ
محايدًا حولي، وشاهده الغراب محايدًا.
يا صاحبَيَّ قِفا... لنختبر المكان على
طريقتنا: هنا وقعت سماءٌ ما على
حجر وأدمته لتبزغ في الربيع شقائق
النعمان... (أين الآن أغنيتي؟). هنا
كسر الغزال زجاج نافذتي لأتبعه
إلى الوادي (فأين الآن أغنيتي؟) هنا
حملت فراشات الصباح الساحرات طريق
مدرستي (فأين الآن أغنيتي؟)
هنا هيأتُ للطيران نحو كواكبي فرسًا
(فأين الآن أغنيتي؟). أقول
لصاحبيّ: قفا... لكي أزنَ المكانَ
وقفره بمعلّقات الجاهليين الغنيّة بالخيول
وبالرحيل. لكُلِّ قافية سننصبُ خيمةً.
ولكل بيتٍ في مهبِّ الريح قافية...
ولكني أنا ابنُ حكايتي الأولى. حليبي
ساخن في ثدي أُمي. والسرير تهزُّهُ
عصفورتان صغيرتان. ووالدي يبني غدي
بيديه... لم أكبر فلم أذهب إلى
المنفى. يقول السائح: انتظر اليمامة ريثما
تنهي الهديل! أقول: تعرفني
وأعرفها، ولكن الرسالة لم تصل.
ويُقاطع الصحفيّ أغنيتي الخفيَّة: هل
ترى خلف الصنوبرة القوية مصنع
الألبان ذاك؟ أقول كلّا. لا
أرى إلا الغزالة في الشباك.
يقول: والطرق الحديثة هل تراها فوق
أنقاض البيوت؟ أقول كلّا. لا
أراها، لا أرى إلا الحديقة تحتها،
وأرى خيوط العنكبوت. يقول جففْ
دمعتيك بحفنة العشب الطريّ. أقول:
هذا آخري يبكي على الماضي...
يقول السائحُ: انتهت الزيارة. لم
أجد شيئًا أصوِّرُهُ سوى شبحٍ.
أقول: أرى الغياب بكامل الأدوات،
ألمسه وأسمعه، ويرفعني إلى
الأعلى. أرى أقصى السماوات القصيّة.
كلما متُّ انتبهتُ، وُلِدتُ ثانيةً وعدت
من الغيابِ إلى الغياب.
.
= = =
هوامش الملحق الثاني
[1] درويش، 2009، ص 109-111.
المراجع
بالعربية
إبراهيم، حنا، 1985. "حكاية خوري الـبِـرْوِة." الاتحاد، 26 تشرين الثاني، ص 4.
الأسدي، سعود، 1976. أغاني من الجليل: أشعار زجلية. الناصرة: مطبعة وأوفست الحكيم.
باشلار، غاستون، 1987. جماليات المكان. ترجمة: غالب هلسا. بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، ط 3.
حبيبي، إميل، 1977. الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل. القدس: منشورات صلاح الدين.
حمودة، حسين، 1995. "مسار النأي مدار الغياب: عن شهادة محمود درويش في ديوانه الأخير "لماذا تركت الحصان وحيدًا"." مجلة القاهرة، ع. 151، 15 يونيو، ص 44-53.
الخالدي، وليد، 1997. كي لا ننسى: قرى فلسطين التي دمرتها إسرائيل سنة ١٩٤٨ وأسماء شهدائها. ترجمة حسني زينة؛ تدقيق وتحرير سمير الديك. بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية.
الخلايلة، محمد خليل، 2009. "قراءة في ديوان "لماذا تركت الحصان وحيدًا؟" لمحمود درويش." مجلة جامعة أم القرى لعلوم اللغات وآدابها، ع.1 (محرم 1430هـ.، يناير)، ص 258-300.
خوري، إلياس، 2009. "الديوان الأخير: حكاية هذه المجموعة." الكرمل (رام الله)، ع. 90، ص 23-36.
خوري، جريس نعيم، 2013. الفولكلور والغناء الشعبي الفلسطيني: دراسة في التاريخ، المصطلح، الفن، والظواهر الخاصة. حيفا: مجمع اللغة العربية.
دبدوب، محمد، 2002. الـبِـرْوِة: قرية فلسطينية محفورة في القلب. طرابلس (لبنان): مكتبة الحوار.
درباس، ساهرة، 1992. الـبِـرْوِة: وطن عصي على النسيان 2. د.م.: د.ن.
درويش، أحمد، 2006. حزيران البارد في الـبِـرْوِة. جديدة-المكر: مطبعة البلد.
درويش، زكي، 1983. "الخروج من مرج ابن عامر." الكرمل، ع. 10، ص 169-195.
درويش، محمود، 2001. لماذا تركت الحصان وحيدًا. بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، ط.3.
درويش، محمود، 2004. لا تعتذر عما فعلت. بيروت: رياض الريس للكتب والنشر.
درويش، محمود، 2006. في حضرة الغياب. بيروت: رياض الريس للكتب والنشر.
درويش، محمود، 2007أ. حيرة العائد. بيروت: رياض الريس للكتب والنشر.
درويش، محمود، 2007ب. يوميات الحزن العادي. بيروت: رياض الريس للكتب والنشر.
درويش، محمود، 2009. لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي. بيروت: رياض الريس للكتب والنشر.
درويش، محمود والقاسم، سميح، 1990. الرسائل. بيروت: دار العودة.
رحاحلة، أحمد زهير، 2015. "تجليات التناص في ديوان محمود درويش الأخير "لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي"." دراسات، العلوم الإنسانية والاجتماعية (الجامعة الأردنية)، ج 42، ع 2، ص 463-473.
الزوزني، أبو عبد الله الحسين بن أحمد، د.ت. شرح المعلقات السبع. عكا: مكتبة ومطبعة السروجي.
السفري، عيسى، 1981. فلسطين العربية بين الانتداب والصهيونية. القدس: منشورات صلاح الدين.
شمالي، نظير، 2004. "تحت غبار الذاكرة: عتابا للزجال أسعد عطا الله." الصنارة، 6 آب، ص 37.
الشيخ، خليل، 1998. "السيرة في إطار الشعر: قراءة في ديوان محمود درويش "لماذا تركت الحصان وحيدا؟"." مجلة أبحاث اليرموك: سلسلة الآداب واللغويات، ج 16، ع 2، ص 139-191.
عطا الله، أسعد يوسف، 1930. كتاب نشأ الفن في أقوال العتابا. عكا: مطبعة النجاح.
عطوان، حسين، 1970. مقدمة القصيدة العربية في الشعر الجاهلي. القاهرة: دار المعارف بمصر [مكتبة الدراسات الأدبية، 50].
علي، ياسر أحمد، 2007. شعب وحاميتها: قرية شعب الجليلية والدفاع عنها. بيروت: المنظمة الفلسطينية لحق العودة (ثابت).
عويضة، إيناس عايد، 2018. البنية النصية في شعر محمود درويش، "لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي" أنموذجًا. أطروحة ماجستير. الخليل: جامعة الخليل.
غوادرة، معتصم، 2021. "مفارقاتُ التحوُّلِ في فضاءِ القريةِ بين السياب ودرويش: دراسةٌ في قصيدتي مرثية جيكور وطَـلَـلِـيّـة الـبِـرْوِة." مجلة جامعة النجاح للأبحاث (العلوم الإنسانية)، ج 35، ع 3، ص 329-352.
فضيلي، أم السعد، 2017. من أسرار الشّعریة الدّرویشیة وسیكولوجیة الصورة الشّعریة في الدّیوان الأخیر (لا أرید لهذي القصیدة أن تنتهي). أطروحة دكتوراه. المسيلة (الجزائر): جامعة محمد بوضياف بالمسيلة.
قلعه جي، عبد الفتاح رواس، د.ت. دراسات ونصوص في الشعر الشعبي الغنائي. د.م.: د.ن.
الكرمل، 1930. ----------. "نشيد الشهداء، نظم خصيصًا للشهداء." الكرمل، 27 حزيران 1930، ص 2.
لجنة مهجري الـبِـرْوِة، 2002. الـبِـرْوِة في القلب: 54 عامًا على الترحيل والاغتراب. د.م.: د.ن.
لحمداني، حميد، 1991. بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي. بيروت: المركز الثقافي العربي.
محاميد، خالد كساب، 2007. "بروتنا محمود درويش و"دم لا يجففه الليل"." الحياة الجديدة، 12 تموز 2007، ص 20.
المعري، أبو العلاء، 1957. سقط الزند. بيروت: دار بيروت ودار صادر.
نمر، حنا، 1982. دراسات في الأدب والفن. بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع.
English References
Westphal, Bertrand, 2011. Geocriticism: Real and Fictional Spaces, trans. by Robert R. Tally Jr., New York: Palgrave Macmillan.