عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

نذير جعفر - سورية

لبنى تدخل موسوعة غينيس


نذير جعفربطلبه يدي من أخي، قلب فاضل السرحان حياتي، بالأحرى لم يقلبها بل أعطاها معنى جديـدا، ووشّاها بغلالة من الأمل والغموض الساحر. أي مجنون جميل هذا الفاضل حتى يخطر له أن يخطبني ونحن في قلب الخطر وليس على حافته، وتفصلنا جدران وجدران وربما سنوات من الانتظار! راقت لي الفكرة، وداعبت مشاعري الدفينة التي كتمتها طويلا نحـوه. كنت أحبه لكني لم أفصح يوما عن هذا الحب كما أرغب الآن، أريد أن أصعد إلى أعلى قمة في العالم وأصرخ أصرخ حتى يسمع الكون كله بأني أحبّه، أحبه وله وحده أنذر هذا الجسد، الذي لن يكون فيه موضع وردة لسواه.

آه يا فاضل، من أي المعادن أنت؟ وما برجك يا قبلتي وصباحي ونشيدي؟ ها أنا أولد اليوم من جديد، أتعلق بأهدابك، تخرجني من سجني وتعبي ويأسي، تغمر نهاري بأريج عطرك، وليلي بأنوار محبّتك. لم أكن أحسب أني محظوظة بعد النكسات التي عشتها، لكني معك وبك أشعر أن الحياة تعطيني ما أستحقه ولو بعد حين.

قبل أيام عندما أخبرت رفيقاتي أني سأعلن خطوبتي في السجن طار صوابهن، واعتقدت وصال في البداية أني أحكي نكتة سمجة، وعندما أكّدت لها الخبر علّقت:

"ستدخلين موسوعة غينيس كأول عروس تحتفل بخطوبتها في السجن."

أجبتها:

"أليس حدثا استثنائيا ومثيرا؟"

قالت ضاحكة:

"تنقصك التغطية الإعلامية حتى تكتمل الميلودراما."

لا أريد شيئا، ما أريده أن نستمر في الحلم، أليس كل الأعمال العظيمة تنطلق من الأحلام العظيمة؟ ونحن نحلم، نحلم لنحطم الجدران من حولنا، لنزرع الأمنيات في حقول اليأس، لنقول للسجن والسجان لدينا ما نفعله أيضا، ولدينا ما نفرح به.

قرأت رسالة أخي ماجد مرات كثيرة، أخبرني أن أمي دفعت الكثير حتى سمحوا لها بزيارتهم، فقد اهتدت عن طريق جارتها أم عبد الله إلى زوجة أحد المتنفذين، وقدمت لها هدية ثمينة، فهيأت لها تلك الزيارة المعجزة. وأنها تنوي زيارتي في المرة المقبلة عندما تسمح الظروف. وفي نهاية الرسالة كتب لي: "فاضل السرحان يطلب يدك هل توافقين؟"

كيف لا أوافق، فالحياة ينبغي ألاّ تتوقف، هم يريدون لنا أن نهزم، أن نبقى عند خط التماس مع العدم. قلت محدّثة نفسي: بما أنّ الأمهات يلدن في السجون فمن حقنا أن نحتفل فيها بخطوبتنا.

توزعت السجينات المهام، فسعاد المتهمة بالدعارة أحضرت فستان العرس بعدما دفعت المعلـوم، ورفيقتي وصال تكفلت بتطريز الخرز الملون وشك حبات الستراس اللامعة، وهند المتهمة بجماعة الشعب تبرعت بعلبة مكياج، وعفاف المتهمة بجماعة النفير قررت تصفيف شعري، والفنانة لجين المتّهمة بقتل زوجها أهدتني ملابس داخلية جديدة، والبقية توزعن الأدوار بين رقص وغناء وزغاريد.

بعدما اكتملت استعدادات الحفلة نقل أبو الخير رسالتي إلى ماجد وفاضل، والتي لم أعلن فيها موافقتي على الخطوبة فحسب بل حددت موعدها في اليوم التالي ليلا، حتى نسمع أصوات الفرح في التوقيت نفسه.

ذهبت الرسالة وبقيت أنا على قلق حتى الصباح، لا أدري ِلمَ تملكني شعور مفاجئ بالحــزن، حاولت أن أفسّر حالتي فلم أهتد إلى جواب مقنع، قلت ربما لأني لم أستشر أمي في هذه الخطوبة، أو ربما لأن طقوس الفرح في غير مكانها، فالسجن يبقى سجنا مهما تحايلنا على مشاعرنا. لكني تناسيت حالتي وأنا أستعرض ما أنجزته السجينات من عمل خارق في ظروف غير إنسانية، فلم تقتصر الاستعدادات على تجهيز كل ما يخصني إنما تعدت ذلك إلى أعمال المسح والتنظيف والترتيب حتى بدا كل ما في المهجع بصورة أجمل مما هو عليه بمرات.

في العاشرة مساء لبست فستاني على عجل، وتحلقت السجينات من حولي، وبدأن بصوت واحد في الزغردة والرقص والغناء حتى سمعنا الشباب في المهجع المقابل يردّدون: "زين زين مكحول العين يللي يعادينا الله عليه". وبسماع هذا الصوت هاج وماج المهجعان في وقت واحد، فتراءى لي فاضل محمولا على الأكتاف، وعندما اقترب منيّ أمسك بيدي وقبّلها، ثم خاصرني بذراعه اليمنى وراح يطوف بي بين الحضور، فيما كانت أمه ترش علينا حبات الأرز، وأبوه يوزع الحلوى، وأمي وأختي بثينة تقفان مذهولتين مما يحدث.

 - - - -

* فصل من رواية بعنوان تحت سقف واطئ. تصدر قريبا عن دار نون 4 للنشر والتوزيع ـ حلب، سوريا.

D 1 كانون الثاني (يناير) 2008     A نذير جعفر     C 0 تعليقات