عدلي الهواري
الطائر المهاجر
أيام دراساتنا في الجامعة، كانت ليلى قائدة مجموعتنا، فهي الأقوى شخصية بيننا، والأثرى، وأكثرنا تدينا والتزاما بالواجبات الدينية. وكانت أيضا الأجمل بين شابات المجموعة. كان يأتي لها الخطاب، ولكنها كانت ترفض الزواج قبل أن تتخرج، حتى ولو وعد الخاطب بعدم منعها من إكمال دراستها. كانت ليلى محظوظة لان أهلها لم يضغطوا عليها، وتركوا لها هامش حرية كبيرا لاتخاذ قراراتها بنفسها. كانت بحق أميرة نفسها وقرارها.
وكانت ليلى أيضا محبة للأدب، وبشكل خاص الشعر. تحفظ الكثير منه، وخاصة أشعار الحب والغزل العفيف. كانت تحدثنا عن قصص الحب التي عاشها أدباء وشعراء، كقصة الحب بين الدكتور زكي مبارك وشابة اسمها سعاد. وقد كتب عن الحكاية كتابا بعنوان مجنون سعاد. كانت تتمنى أن تكون موضوعا لقصيدة، ملهمة لشاعر.
قاد حب ليلى الشعر والأدب إلى التراسل مع صحفي سوداني يعيش في أميركا، اسمه قيس. وكانت غايتها تبادل القصائد والنصوص الأدبية وتبادل الآراء حولها. وبعد أسابيع من التراسل أرسلت له هدية. لم يخطر ببالها أن الهدية ستفتح بوابة عالم لم تتصوره في خيالها.
كانت الهدية في رأيها عادية جدا، قطعة تذكارية دينية، وقارورة عود. أكدت لنا أكثر من مرة أن الهدية كانت شيئا عاديا. القطعة لتذكيره بدينه، والقارورة لتطلعه على أحد تقاليد أهل الخليج. وكانت النتيجة غير المتوقعة أثر الهدية في نفس قيس، فقد جلس أياما يصوغ قصيدة هي الأولى في حياته ليشكر ليلى على هديتها. وأرسل لها القصيدة. كانت مفاجأتها كبيرة، فأولا تحققت لليلى أمنيتها أن تكون موضوع قصيدة، وثانيا اكتشفت أن لدى قيس موهبة شعرية، فازدادت فخرا لإحسانها اختيار من تتراسل معه، إذ فرحت أنه ليس صحفيا فقط، بل هو أيضا شاعر.
جاءت إلينا بالقصيدة وهي تعتز بها. سماها في القصيدة زهرة العباد. أعجبها اللقب كثيرا.
كنا نقول لها: "ليلى ماذا تعرفين عن قيس؟" فترد "إنه كريم النفس والخلق، وشاعر رقيق." عرفنا بعد أسئلتنا الكثيرة أن قيسا كان يكبرها سنا بكثير. وإضافة لذلك هو من جنسية مختلفة ويعيش في بلد آخر بعيد. كل هذه عوامل كانت تعني أن ليلى وقيسا لا حظ لهما في أن يلتقيا. بل وكانت ليلى متأكدة من ذلك.
"هل تعرفين شكله يا ليلى؟" سألناها.
"نعم إن صورته على أحد المواقع في الإنترنت." ردت ليلى.
"وماذا إذا كانت الصورة قديمة؟"
"لقد أكد لي أنها حديثة." قالت ليلى.
"وهل أرسلت له صورتك؟"
"طبعا لا. أنتن تعرفن أنني لم ولن أفعل ذلك."
رغم انه لم ير صورتها، إلا أنه واصل الرد على رسائلها. ولم تتوقف قصائده. لم تكن قصيدته الأولى الأخيرة أيضا. واصل كتابة الأشعار الرقيقة، وكانت تأتي لنا أو تتصل بنا وتقرأ ما كتبه لها. مع كل قصيدة كانت تزداد اقتناعا بأنه شاعر، وتزداد تعلقا به. ثم اتصلت بي ذات ليلة وقالت "خلاص يا جوهرة، أنا الآن غطست في بحيرة الحب."
"ماذا جرى؟" سألت ليلى.
"أرسل لي قصيدة جديدة، وبحت له بعدها بأني احبه."
لم اصدق أذني. ليلى صاحبة الشخصية القوية، والناضجة، والمدللة تحب رجلا غريبا بعيدا. ولكن هذا ما حدث. وعندما أسألها "ما مصير حبك يا ليلى؟" كانت تقول "لست أدري، لا تسأليني."
أسرت لي ليلى بأنها بحثت مصير حبها مع قيس، وقال لها إن أغلى أمنياته أن يكلل هذا الحب بالزواج. قالت له إن هذا مستحيل، لأنه في بلد بعيد، وغير خليجي، وأكبر منها سنا بكثير. هذه عقبات لن يزيحها الأهل من الطريق. قال لها ليس هناك ما هو مستحيل. المهم أن تكون ليلى راضية، وبعد ذلك هو يجد الوسيلة لإقناع أهلها.
ناقشته كثيرا في العقبات وخاصة فارق السن، ولكنه أقنعها بأن فارق السن ليس عقبة، وخاصة عندما يكون هناك حب، فالسن يكون عذرا مقبولا لو كانت مرغمة من أهلها على الزواج. ثم ماذا لو تزوجت شابا وتوفي فجأة؟ أليست الأعمار بيد الله؟ وهل تفضل أن تتزوج شابا لا تحبه؟ بعد تردد وتفكير طويل، اقتنعت ليلى بان لقاءهما كان مشيئة الله.
سعى قيس إلى عمل في الخليج، وحصل على تأشيرة للمجيء للعمل في إحدى الصحف. ووجد لنفسه وسطاء خير ليخطبوا له ليلى. وقد أثنى الوسطاء كثيرا عليه وعلى أخلاقه، وقال أهلها إن الأمر في نهاية المطاف يرجع إليها، فان هي وافقت لن يقفوا في الطريق.
سرى بين شابات المجموعة خبر مجيء قيس إلى البلاد، وموافقة أهل ليلى من حيث المبدأ على الخطبة، شريطة أن توافق هي. وكنا نعلم طبعا أن هذه أمنيتها. وبقيت الخطوة الأخيرة في طريق الخطبة أن يلتقيا. وقبل أن يحصل اللقاء خطرت لنا فكرة شيطانية. قلنا لليلى هذا الذي يحبك ولم يرك من قبل دعينا نجرب عليه هذه اللعبة. ثلاث منا، أنت إحداهن، سنقدم له القهوة والفاكهة والحلوى لنرى إن كان سيعرف من هي ليلى الحقيقية. أقنعناها بالفكرة، واتفقنا أن يجرى ذلك في بيت أخيها محمد الذي قابل قيسا، واقتنع به زوجا لأخته، خاصة لأنه علم من ليلى أنها مقتنعة بما هي مقدمة عليه.
في اليوم المتفق عليه ذهبنا إلى بيت أخيها محمد. ورحبت بنا زوجته. واتفقنا على تفاصيل الخطة.
وصل قيس إلى البيت، ورحب به محمد. وبعد دقائق رن هاتفه الجوال، فاستأذن قيسا ليخرج للرد على الهاتف.
بعدئذ بدء تنفيذ الخطة. دخلت سميرة أولا، حاملة القهوة وقالت:
"السلام عليكم، أهلا بك في بلدنا ودارنا. أنا ليلى، هل تحب القهوة بالسكر أم بالحليب؟"
"أشكرك،" قال خافضا رأسه. "بالحليب لو سمحت. هل لي أن أسألك إن كنت ليلى، ما هو اسمي الخاص عندها؟"
تلعثمت سميرة، وفكرت، وقالت "أنت سميتني زهرة العباد."
قال "نعم، هذا أحد الألقاب التي أطلقتها عليها؟ ولكن ماذا كان لقبي عندها؟"
"لقبك هو الشاعر الرقيق."
"أشكرك يا أختاه على القهوة. أنت لست ليلى."
خرجت سميرة من الغرفة بعد أن ناولته القهوة، وراح يشرب قهوته على مهل. بعد قليل، دخلت نادية تحمل بعض الفاكهة.
"السلام عليكم،" قالت نادية. "أهلا بك في بلدنا ودارنا. أنا ليلى، هل تحب نوعا بعينه من الفاكهة؟"
"كل أنواعها لذيذة. سآكل تفاحة بعد قليل. هل لي أن أسألك إن كنت ليلى: ما هو الاسم الخاص الذي لي عند ليلى؟"
"وهل هناك حاجة إلى السؤال؟ أنت سميتني زهرة العباد، وأنا سميتك الشاعر الرقيق."
"شكرا على الفاكهة يا أختاه. لست ليلى."
ابتسمت نادية، وخرجت من الغرفة. بعد دقائق، دخلت ليلى إلى الغرفة تحمل صينية الحلوى.
"السلام عليكم. أهلا بك في بلدنا ودارنا. أنا ليلى، أحضرت لك الحلوى لتأكلها مع القهوة."
"شكرا. هذا كثير. إذا كنت ليلى، هل لك أن تقولي لي اسمي الخاص عندها؟"
"أنا سميتك الطائر المهاجر. الحمد لله. لقد عدت."
"أنت ليلى فعلا. ما شاء الله! تبارك الله! يا له من يوم عظيم! كنت مستعدا لانتظار هذا اليوم بقية العمر. أرجو من الله أن يتمم بخير."
تزوجت ليلى قيسا رغم كل العقبات التي كانت في الطريق. وكانت في زواجها سعيدة.
◄ عدلي الهواري: بحوث ومقالات وقصص
▼ موضوعاتي