فنار عبد الغني - لبنان
أمي تقاوم
تقطعت السبل بيني وبين أمي. انقطعت أخبارها عني، فؤادي يتهشم يومياً من شدة القلق عليها، وأقاوم بشدة لكبت مشاعري وقمعها. لكن وجهي يشي بي. أتابع أخبار أمي من قنوات الأخبار ومن مواقع التواصل الاجتماعي المتعددة والمختلفة، وأنتقل من واحدة إلى أخرى على أمل أن أعثر على خبر يبعث الطمأنينة في نفسي.
وعلى الرغم من أنني لا أثق كثيرا بمواقع الأخبار، إلا أنه لا يمكنني الاستغناء عنها، فمن سيوافيني بما يحدث في غزة غيرها؟ فلا أحد يستطيع الوصول إلى هناك، ولا حتى المردة من الجان. وربما سينظمون ذات يوم سباقاً عالمياً لمن يستطيع خرق ما لا يخترق للوصول إلى هناك، وسيرصدون أيضا جوائز عالمية كتلك التي يمنحونها في سباقات الوصول لأعلى القمم أو أعمق المحيطات.
ربما سيمنحون جوائز لمن سيكسر الحصار الثقيل، لمن ستلامس قدماه أرض غزة العزة. وعلى الرغم من ذلك، كشفت لي القنوات والمواقع ووسائل التواصل الاجتماعي التفاصيل اليومية لما يجري هناك من كوارث إنسانية.
كنا قبل عصر الانفلاش الإعلامي هذا نعيش الأوهام، ولا نملك إلا تصديق ما يخبرونا به، لأنها كانت الوسيلة الوحيدة المتوفرة لذلك. اليوم، مع تزايد القنوات والوسائل، تهاوت إمبراطوريات الإعلام المزيفة، وتكشفت الحقائق أمام أعيننا. وما يحدث لأمي هو حقيقة وليس وهماً رغم أني لا أدري أين هي الآن في غزة.
لبسني الأسود وتمسك بي. شعرت أنه اللون الوحيد الذي يليق بحالتي النفسية، حاولت أن أستبدله بلون آخر كاللون الكحلي، لكن بعد رؤيتي لجثث الشهداء المحترقة عدلت عن ذلك. سارعت إلى السواد والتحمت به. ليتني أعلم أين أمي الآن؟ لقد عانت حصاراً خانقاً وطويلاً لمدة سبعة عشر عاماً رغم أمراضها المستعصية المعقدة. صمدت في وجه نوائب الدهر.
أتخيلها مع كل خبر يصلني عنها، أتصورها وقد قصف الطيران الحربي الأحياء السكنية على رؤوس ساكنيها وهي تذكر الله تحت الركام والمنقذون يستبسلون لإخراجها. ربما أخرجوها حية فاقدة لأحد أطرافها، وربما لم يوفقوا لإخراجها فبقيت تحت الأنقاض، تفوح منها رائحة المسك، وربما انهارت عليها الأنقاض بعد أن تزلزلت المباني نتيجة القصف الشديد المتواصل والمتصاعد، أو وردتها أحد الكلاب الضالة الجائعة فنهشت منها ما نهشت.
تنتابني حالات شعورية غريبة يمتزج فيها الحزن مع الخيبة والاختناق كلما فكرت بذلك، ثم أنتقل إلى تخيل صورة أخرى لها. أتصورها وقد وفقت بالخروج من بيتها قبل أن يدكه الطيران الحربي، وقد تسترت بحجابها وحملت مصحفها ونزحت إلى مدرسة قريبة أو مستشفى قريب، ثم تهاجم ذاكرتي سيول من صور قصف المستشفيات وإبادة النازحين المحتمين فيها، وصور الشهداء المتفحمين وصور الأشلاء، وصورة ذلك الأب الذي يبحث عن أشلاء أطفاله حاملاً كيساً كبيراً.
جف الدم في عروقي. أمسكت بكوب ماء، وما إن قربته من شفتي حتى حاصرني السؤال التالي: هل أمي لديها ماء لتشرب؟ لقد قطعوا مصادر المياه والدواء والكهرباء عنها. رباه رحمتك بغزة!
أهرع إلى هاتفي النقال وأبدأ بالتنقل بين المواقع الإخبارية. يردني خبر عن قصف مستشفى الشفاء. ماذا لو كانت أمي هناك جريحة أو مصابة أو محاصرة مع مئات من الأطباء والممرضين والمرضى والجثث التي تنتظر فرصة وقف إطلاق النار من أجل دفنها؟
ربما كانت أمي تحت الركام، وربما كانت في أحد المستشفيات أو في إحدى المدارس التي لم تسلم أيضا من القصف. وأينما كانت، فهي محرومة مثل غيرها من الماء والدواء والغذاء والكهرباء والأمن. لا أعرف أين اختفت جمعيات حقوق الإنسان وحقوق المرأة وحقوق المسنين وحقوق الطفل وكل من ينادي ويتشدق بالحديث عن الحرية والحق والحريات والقوانين والعدالة والديمقراطية والإخوة.
أمي هي مدرسة في الصدق والكرامة والأخلاق قبل أن يخترعوا الأحرف وقبل أن يخترعوا القلم. ستبقى صامدة بمشيئة الله لتعلّم القادم من الأجيال دروساً عن قيمة الإنسان بغض النظر عن عرقه وجنسه ودينه، وعن صراعه من أجل البقاء والحفاظ على أرضه، ومن أجل الحق والخير ومقاومة الاستعباد والتغريب. حفظك الله يا أمي.
◄ فنار عبد الغني
▼ موضوعاتي