عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

عدلي الهواري

كلمة العدد الفصلي 31: قيم لا قيمة لها


عدلي الهواريثمة ظاهرة مرتبطة بالدول التي تعرف معا بالغرب تتمثل في أنها لا تكف في الأوقات العادية عن الحديث عن قيم إنسانية نبيلة، وتنسى كل ذلك عندما تحدث أزمة أو حرب يكون الغرب فيها طرفا مباشرا أو غير مباشر.

هذه الظاهرة وجهها الأول الخطاب الإنساني العالمي الذي يحث على وجود الحريات بأنواعها، واحترام حقوق الإنسان، والالتزام بالقانون الدولي، وغير ذلك من قيم مجسدة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، ووجهها الثاني وضع هذا الخطاب في سلة القمامة واستبداله بخطاب عنصري تصل عنصريته إلى حد قبول وتبرير إبادة شعب أو مجموعة من البشر، واعتبار ذلك قائما على أسس سامية، رغم التشابه في الموقف مع ما مارسه النازيون والفاشيون في الماضي.

بنو البشر جميعا متساوون. لا يوجد فئة من الناس أفضل من أخرى، إما بسبب لون البشرة، أو الدين، أو التقدم العلم والتقني، أو غير ذلك. لكن للأسف العالم مليء بالأفكار والممارسات العنصرية التمييزية، ويسعى من يؤمن بها إلى الإمساك بالسلطة لتحويل الفكرة العنصرية إلى ممارسة رسمية على مستوى الدولة. حصل هذا في ألمانيا، عندما سيطر النازيون بزعامة هتلر، على الحكم في ألمانيا. وحصل أيضا في إيطاليا عندما سيطر على الحكم فيها الفاشيون بزعامة موسيليني.

القضاء على حكم النازيين والفاشيين لم يجعل العالم خاليا من العنصرية. وفي كل مرة تظهر حركة تؤمن بما آمنت به النازية أو الفاشية تتعرض للانتقادات، وتجري محاولات لمنعها من الوصول إلى السلطة. ولكن هل العنصرية والتمييز لا يمارسهما إلا من يعلن أنه يؤمن بالنازية والفاشية؟

إن الدول التي لا تتوقف عن الحديث عن الحريات وحقوق الإنسان هي مجموعة الدول التي تعرف معا باسم "الغرب" وهي تشمل الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا والدول الأوروبية الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وأخرى غير منضمة للاتحاد، وأستراليا. فور حدوث نزاع مع دولة ليست غربية، ولكن لسبب أو لآخر يتبناها الغرب ويعتبرها امتدادا لمصالحه ولـ"قيمه"، تتحول هذه الدول إلى كتلة متراصة وتضع القيم الإنسانية جانبا، وتكشر عن أنيابها، وتستعرض عضلاتها، وتسعى إلى هزيمة خصمها هزيمة منكرة.

من أوضح الأمثلة المعاصرة على ذلك الحرب الروسية-الأوكرانية. كل الموارد المتوفرة لدى الغرب وضعت في خدمة دعم أوكرانيا وإلحاق هزيمة منكرة بروسيا، التي لو لم تكن دولة كبرى جغرافيا، ومتقدمة علميا وتعتمد بالتالي على أسلحة من صنعها، لكانت الهزيمة المؤكدة من نصيب روسيا خلال أسابيع أو شهور قليلة. الاستنفار الغربي الشامل شاركت فيه وسائل الإعلام. وتمت مصادرة حرية التعبير عن الرأي التي نتوهم في الأوقات الخالية من الأزمات أنه حق مطلق ومقدس في دول الغرب ولا تجرؤ الدولة على المساس به.

ولكن كون المبادئ الإنسانية في واد والممارسة والخطاب السياسي في واد آخر غير مقتصر على أوقات الأزمات. لنأخذ على سبيل المثال بريطانيا في بضع السنوات الأخيرة تحديدا.

عندما فاز اليساري جيرمي كوربين في عام 2015 بزعامة حزب العمال، قامت الدنيا ولم تقعد. في أول انتخابات عامة (2017) جرت في فترة زعامته، حصل الحزب على عدد أكبر من المقاعد في مجلس العموم (النواب). أما في الانتخابات العامة الثانية (2019)، فقد تعرض الحزب لهزيمة قاسية، حيث خسر مقاعد في مناطق كان تعتبر قبل ذلك قاعدة تأييد راسخ لحزب العمال.

تولى زعيم حزب المحافظين، بوريس جونسون، رئاسة الوزراء بعد هزيمة حزب العمال. ومع أن ظاهر الأمور يشير إلى تنوع عرقي في مجلس الوزراء، حيث تولى وزارات مهمة مهاجرون أو أبناء مهاجرين من دول آسيوية وأفريقية، إلا أنك سرعان ما تلاحظ أن أفكار هؤلاء متطابقة مع التيار اليميني المتعصب في الحزب تحديدا، وفي بريطانيا عموما. خير مثال على ذلك وزيرة الداخلية، سويلا برافرمان، فهي آسيوية الأصل، ومع ذلك هي مصابة بهوس منع دخول اللاجئين إلى بريطانيا بطريقة غير قانونية، ونقلهم إلى رواندا لتدرس حالاتهم هناك قبل السماح لهم بالمجيء إلى بريطانيا.

ووجهت نقدا لا يجوز لمسؤول توجيهيه إلى فئة من فئات الشعب، عندما زعمت أن الرجال الباكستانيين هم أكثر من يعمل على استغلال الفتيات البريطانيات جنسيا، مع إن الإحصائيات لا تؤيد هذا الادعاء. وزعمت أن فئة من المجتمع (المقصود بذلك المسلمون) "لا يشاركونا قيمنا، ويرفضون الاندماج"[1]. وهي أيضا وجهت سهامها للمحامين الذين يدافعون عن حقوق المهاجرين واللاجئين، واعتبرتهم "محامين يساريين". ومن الواضح أن صفة يساري صارت تحمّل بالكثير من العيوب، وتؤدي إلى تعريض حياة اليساري الحقيقي أو المتهم بذلك للخطر. ولن يكون مستغربا أن يأتي يوم سيصبح كون المرء يساريا، أو مجرد اتهامه بذلك، سببا كافيا للتعرض إلى عقوبة ستسن لها قوانين في ظل حكومة يمينية من هذا النوع.

وسط هذه الأجواء المشحونة بالخطاب العنصري داخليا، وخطاب يريد الحاق الهزيمة بروسيا، وإضعافها، جاءت أحداث غزة، التي بدأت باجتياح مقاتلين فلسطين قواعد الجيش الإسرائيلي والمستوطنات التي تخنق قطاع غزة، علما بأن القطاع الصغير محاصر منذ عام 2006، بعد أن جاءت نتيجة الانتخابات الفلسطينية مخالفة لما يرضي إسرائيل والدول المؤيدة لها. وتعرض قطاع غزة بعد الحصار إلى اعتداءات كل واحد منها كان أشد من سابقه ابتداء من عام 2008 وحتى الآن (2023).

الخطاب السياسي والإعلامي المعادي لروسيا تحوّل ولكن بدرجة أعلى بكثير إلى الفلسطينيين. وكالعادة، مارس الغرب عنصريته متدثرا بأحد المبادئ الإنسانية وهو حق الدفاع عن النفس، وهذا في سياق حقوق الفرد يعتبر عذرا مقبولا في المحاكم، ولا يعتبر من يَقتل دفاعا عن نفسه قاتلا، ولا يعاقب على ذلك. كذلك الأمر بالنسبة للدول، لها الحق في الدفاع عن النفس. لكن هذا الحق على مستوى الأفراد ليس حكرا على أفراد فئة بعينها من المواطنين في دولة ما، فإذا قتلَ شخصٌ أسود آخر أبيض دفاعا عن النفس، لا يجوز أن يعاقب لأنه أسود، وإن كانت حالة القتل معكوسة، يطلق سراح الأبيض القاتل دفاعا عن النفس. كذلك، حق فرد في الدفاع عن النفس لا يشمل الذهاب إلى بيت وقتل من فيه، أو حرقه، أو تدميره. ويجب أن يكون الأمر كذلك في حال حق الدول في الدفاع عن نفسها.

أصبحت عبارة "حق إسرائيل في الدفاع عن النفس" تتكرر على ألسنة السياسيين والإعلاميين وغيرهم، بما في ذلك سياسيون كانت مهنتهم المحاماة قبل التفرغ للعمل السياسي. زعيم حزب العمال، كير ستارمر، من هذه الفئة، وهو أحد مؤلفي كتاب عن الحقوق والحريات السياسية[2]. ومع ذلك، قال في مقابلة إذاعية إن لإسرائيل الحق في قطع الماء والكهرباء والوقود على غزة.

بدا السياسيون والإعلاميون محدودي التفكير ومفتقدين للمشاعر الإنسانية وللجرأة الأخلاقية والسياسية، ومثيرين للغضب والسخرية عند مشاهدتهم وهم يردون على كل سؤال: "لإسرائيل حق الدفاع عن نفسها".

قبل ظهور الإنترنت ووسائل التجهيل الجماهيري اللااجتماعي لم يكن يظهر مدى انتشار النزعات اليمينية العنصرية في المجتمع نظرا لوجود عدد محدود من وسائل الإعلام. أما في الوقت الحاضر، حيث لكل شخص صفحة في وسيلة أو أكثر من وسائل التجهيل اللااجتماعي، فقد اتضح مدى انتشار الأفكار العنصرية. بعض التعبيرات عنها منظمة، وبعضها ليس كذلك. ورغم القيود التي تفرضها شركات وسائل التجهيل اللااجتماعي على ما ينشر فيها، وتحديدا ما يتعلق بكشف حقيقة ما يجري في غزة من إبادة، فإن الفيديوهات التي تظهر حجم الدمار في غزة، وقطع الماء والكهرباء والوقود والإنترنت عن شعب يتعرض لقصف وحشي تدميري، أيقظ الكثير من الضمائر التي صارت تعلن معارضتها لذلك، وتطالب بوقف إطلاق النار في غزة.

ولكن كما حدث في حالة الحرب على العراق عام 2003، عندما لم تفلح كل المظاهرات، بما في ذلك مظاهرة مليونية، في منع وقوع الحرب التي كان معروفا أن تبريريها بوجود أسلحة دمار شامل في العراق كان تبريرا كاذبا، من غير المستغرب أن تخفق المظاهرات المتعاطفة مع أهالي غزة والمحاولات الهادفة إلى الضغط على السياسيين لدفعهم إلى مطالبة إسرائيل بوقف إطلاق النار.

وهكذا، نكتشف مرة أخرى أن القيم الغربية قيم لا قيمة لها، فهي قيم تستخدم في أوقات السلم للضغط على المنافسين والخصوم. وفي أوقات الحرب، ترمى في سلال المهملات وتستبدل بخطابات وممارسات عنصرية لا تمت للقيم الإنسانية بصلة.

= = =

الهوامش

[1] أجرى رئيس وزراء بريطانيا، ريشي سوناك، تعديلا وزاريا يوم الاثنين، 13 تشرين الثاني (نوفمبر) 2023. التعديل شمل خروج وزيرة الداخلية، سويلا برافرمان، من الحكومة، ودخول رئيس الوزراء السابق، ديفيد كاميرون، الذي عين وزيرا للخارجية. عزا البعض في العالم العربي خروج برافرمان من الحكومة إلى المظاهرات التي شهدتها لندن تعاطفا مع أهالي غزة. لكن الواقع لا يسمح بهذا الاستنتاج، فهي شخصية مثيرة للجدل، وسبق أن أرغمت على الاستقالة من حكومة لز تراس لمخالفتها مدونة السلوك الوزاري. وعندما تولى ريشي سوناك رئاسة الوزراء، عينها وزيرة للداخلية، وعرفت بتصريحاتها اليمينية المتطرفة مثل المذكورة في المقالة وغيرها. وقد وزعت الاتهامات يمنيا وشمالا، فهي أرادت من الشرطة أن تحقق في جميع حالات السرقة، ثم أرادت من الشرطة أن تظهر شدة أكبر في تعاملها مع المشاركين في المظاهرات المتعاطفة مع أهالي غزة. أما القشة التي قصمت ظهر البعير فهي مقالة نشرتها في صحيفة "ذا تايمز" وكررت فيها اتهام الشرطة بأنها تتعامل بشكل مختلف مع المظاهرات. وكان طلب منها تعديل محتوى المقالة، لكنها لم تعدل كل ما طلب منها. لذا، اعتبر نشر مقالتها أنه تم دون موافقة الحكومة عليه، وخارجا عن الموقف الحكومي.

[2] Klug, F., Starmer, K., and Weir, S. 1996. The Three Pillars of Liberty: Political Rights
and Freedoms in the United Kingdom
. New York: Routledge.

[أركان الحرية الثلاثة: الحقوق والحريات السياسية في المملكة المتحدة]

D 1 كانون الأول (ديسمبر) 2023     A عدلي الهواري     C 0 تعليقات