عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

فنار عبد الغني - لبنان

ذات القلب الأبيض


فنار عبد الغنياعتبر نفسي محظوظة بالتعرف عليها. كان لقاؤنا في بيت من بيوت الله: مسجد الروضة. من الصعب أن أنسى ذلك اليوم الذي جمعني بها. كان أمراً مقدراً من الله عزّ جل. كنت قد مررت قبل لقائي بها بظروف قاهرة: وفاة والدي ومرض والدتي. وجاء لقاؤنا كنوع من العزاء الإلهي لي، أو مواساة ربانية، جبر خاطري المكسور.

هي سيدة بيضاء اللون، بيضاء القلب، بيضاء الابتسامة، بيضاء الحظ. كان الربيع قد حلّ وبدأت شمسه تشرق فينا، كلقائي بها الذي كان ربيعاً من نوع آخر: ربيع لا ينتهي بإذن الله. كنت قادمة من بيروت وتوجهت للمسجد لأداء صلاة الظهر فور وصولي للمدينة، وكان الوقت يقترب من العصر. كان المسجد فارغاً إلا منها ومن المشرفة على فتح الأبواب وإغلاقها في القسم الخاص بالنساء في المسجد. إنها السيدة مريم.

كانت ذات القلب الأبيض تجلس في مقدمة المسجد تستمع لتلاوة مريم. وما أن أنهيت صلاتي حتى اقتربت منهما، وعرفتها على نفسي وعرضت عليّ في الحال أن تعلمني أحكام التلاوة المباركة، ومنذ ذلك الوقت أصبحنا أخوات بالله.

في كل مرة ألتقي بها، تتكرم عليّ بعلمها وأخلاقها، دائماً ترشدني إلى الخير، دائماً أتعلم منها أموراً جديدة، تضيف إلى شخصيتي وحياتي مالا أتوقعه من الإحسان. لم أشهد لرقتها وعذوبتها مثيلا، لا أستطيع أن أوفيها حقها من الكلام ومن العرفان بالجميل.

ما أجمل قصصها النابضة بنور الإيمان، بالصدق. سبحان الله! تشعر وأنت معها كأنك في الحضرة الشريفة المباركة. أود لو أن وقت اللقاء يطول ولا ينتهي. وهو في الحقيقة لا ينتهي لأن أثره يبقى في القلب راسخاً بإذن الله.

من غرائب ما يحدث معي أنني كلما أتعرض لضيق شديد، تهاتفني فجأة لتطمئن عني، تواسيني، ترفع من معنوياتي، تقول لي: "لا تقولي يا رب صبرني، لأن هذا يعني استمرار العسر، بل اطلبي من الله الفرج القريب".

مرة أخبرتها أنني حضرت درسا قرآنيا في المسجد وشعرت بسعادة لا توصف، فبشرتني أن في الأرض جنة هي جنة الذكر ومن كتب الله له دخولها والشعور بالحبور فيها فهو ممن سيدخلون جنة النعيم. وقالت لي في مناسبة أخرى: "كل إنسان يملك قلباً في جسده أما أنت فكلك قلب". أنا أم أنت يا صاحبة القلب الأبيض؟ تخجلني كلماتها البيضاء فلا أعرف كيف أرد عليها. جزاها الله خيرا.

هي تملك رؤية للعالم وللأشياء مختلفة عمّا نراه، بالنسبة لها لا يوجد أي شر في العالم. كل ما يحدث هو خير لكننا عاجزون عن فهم حقيقة ذلك. وكل ما يسبب لنا الضيق ليس إلا قشوراً سوف تزول ثمّ يكشف الخير عن نفسه. أما سائر منغصات الحياة فهي رسائل ربانية علينا أن نحسن قراءتها وفهمها لكي نسلك السبل الصحيحة.

أكثر ما تردده بعد ذكرها الدائم لله والذي لا يشغلها عنه شاغل: "الله يجبر بخاطركم. اللهم اعف عنا". هي نور أبيض يسري ضياؤه في النفوس والأمكنة التي تحل بها. وأنا لاحظت أنه ما من مكان جمعني بها إلا وحلت فيه رحمة الله وبركاته. حتى الوقت نفسه مبارك معها. هي دائماً تحسم الأمور بشكل سريع وجدي وهذا الأمر أتمنى أن أتمتع به فلا أستنزف وقتي وجهودي عبثاً.

هي لا ترى إلا الجمال في كل شيء. الكون بكل ما فيه عبارة عن مكونات جمالية. أشعر في معظم الوقت أنها تملك روحاً خارقة تصرف التلوث والقباحة عنها وترمي بها بعيداً جداً عن دربها، أو أن الأشياء القبيحة تهرول بعيداً عنها إذا ما صادفتها في حياتها، فلا ترى من القبح شيئاً.

هذه هي صاحبة القلب الأبيض، وما أعرفه عنها لا يذكر، فهي متواضعة ولا تحب أن تتحدث عن نفسها، ولا عن أفعال الخير التي تقوم بها، ليبقى لها أسرار عند الله. أحببت أن أكتب عنها لأذكر نفسي وغيري بأن في هذا العالم لا زالت هناك قلوب ناصعة البياض.

D 1 كانون الأول (ديسمبر) 2021     A فنار عبد الغني     C 0 تعليقات