مديحة عتيق - الجزائر
المتلقي في التراث النقدي
كثر الحديث في الأوساط النقدية عن المتلقي بتحديد ماهيته، وإبراز مكانته في العملية الإبداعية، ودوره في الدائرة التواصلية، كما كثر الحديث عن مميزاته، وأنواعه، بل أصبح بؤرة اهتمام كلّ من رفع الحداثة شعارا والتجديد عنواناـ فيسمّيه متلقيا تارة، وقارئا تارة أخرى، ومستقبلا تارة ثالثة، وهذا ما جعلنا نتساءل حول مكانته في تراثنا النقدي العربي، ومدى اهتمام نقادنا القدامى به دون أن يكون في نيّتنا إثبات السبق التاريخي، أو التبجّح بدعاوي المعرفة الشاملة لدى نقادنا القدامى، بل يتحدّد هدفنا أساسا في ربط الحاضر بالماضي، وقراءة التراث أو جزء منه برؤى معاصرة، وهي قناعة أو طموح مشروع، وإن كان البعض يرى فيه تعنّتا وعودة إلى الوراء.
وقبل أن ننبش في تراكمات الماضي لابدّ من إطلالة سريعة على "المتلقي" في النقد المعاصر، وذلك لملامسة الأطر النظرية لهذا الموضوع، وخلفيته الفكرية للتمكن فيما بعد من المناظرة بين الموقف الحداثي والرؤية التراثية لموضوع "المتلقي".
بدأ الاهتمام بالمتلقي ضمن موجات نقدية تمرّدية ضدّ التقاليد النقدية السائدة مجسّدة على وجه الخصوص في الفكر الماركسي الذي قلّص من أهميّة المتلقي، وقزّمه في خانة صغيرة تندرج ضمن الفضاء الاجتماعي الذي يستمدّ معاييره الجمالية من الأطروحات الحزبية والنقابية والنضالية خصوصا مع سيادة فكرة أنّ المؤلف هو وحده من يمتلك الحقيقة الكاملة التي سيمليها لاحقا على المتلقي باعتبار هذا الأخير ذاتا سلبية / متأثرة تملأ بما يراه صالحا ومفيدا.
كانت نظرية التلقي، إذن، صوت احتجاج على التيار الماركسي ذي النظرة الأحادية، وآمنت نظرية التلقي بوثنية النص/ المتلقي مقابل وحدانيته عند الماركسيين "فلم يعد القارئ مجرّد متلق سلبيا أو مستهلك خاضع لسلطة النص، وإنّما هو خالق النص، وبهذا تصبح القراءة عملية إنتاجية، لا عملية تلقّ دون فعل (...) إنّ القراءة خلّصت النص من أسطورة المعنى الواحد التي كانت السلطة السياسية آنذاك تؤكّدها بخلاف اليوم حيث تصدّعت مركزية السلطة، وأفسح المجال أمام الديمقراطيات التي جاءت بحوار والأفراد وبالرأي الآخر"(1). ساعدت دعوة البنويين إلى موت المؤلف على بروز دور القارئ حين رفعت الوصاية عن النص وحررته من الدلالات المحددة مسبقا والتي تملى على القارئ، وكأنّ موت المؤلف هو ضريبة الحياة لميلاد القارئ.
تضافرت هذه الظروف لتخلق نظريات ومدارس تؤسس لجماليات القراءة، وكان على رأسها جماعة كونستانس الواقعة في جنوب ألمانيا على بحيرة بودنزي، طرحت هذه المدرسة من خلال كتابات هانز روبرت ياوس (Hans Robert Jauss) وفولفغانغ إيزر (Wolfgang Izer) نظريات تأسيسية لجمالية التلقي، وكانت في معظمها ردّا احتجاجيا على التصورات البنوية للمتلقي، فالبنوية " تبدأ من النص، وتنتهي به كأنه غاية بحدّ ذاته، وهي ترى أنّ النص يكشف عن بنية محددة، وعن (نسق) أو مجموعة أنساق، وأنّ وظيفة القارئ تتمثّل في الكشف عن شفرات النص و أنساقه المختلفة، ولا ينبغي له أن يضيف شيئا من عنده" (2).
تجاوزا لهذه الوظيفة البنوية للمتلقي المتمثلة في فكّ شفرات النص، تطرح جماعة كونستانس وظيفة بديلة للقارئ، وهي "الفهم" أو عملية بناء المعنى، وليس الكشف عنه، وتكون عملية بناء المعنى بإدراك العالم الماورائي للنص، واستنطاق المسكوت عنه، وملء فراغاته، وتسويد بياضاته، تختلف هذه الرؤية تجاه المتلقي كثيرا عن رؤى واتجاهات أخرى اهتمّت بالمتلقي كالاتجاه السيميولوجي وعلى ٍرأسهم أمبرتو إيكو الذي يرى " أنّ العلامة تنطوي على شرط أساس من شروط وجوده، وهو تأويل العلامة نفسها (...) التأويل هنا عملية كشف عما تضمره العلامة أو البنية من مضمون إشاري أو من نظام عقلي لا واع تتضمّنه تلك العلامة أو البنية "(3).
وبين "الكشف" البنوي و"الفهم" الكونستانسي تطفو إلى السطح وظيفة ثالثة للمتلقي وهي "الاستحضار" عند بارت الذي يرى النص "نسيجا جديدا من استشهادات سابقة تعرض موزعة في النص صيغ، نماذج إيقاعية، نبذ من الكلام الاجتماعي."(4). وبعبارة أخرى "فالنص مكوّن من كتابات متعددة تنحدر من ثقافات مختلفة، تدخل في حوار مع بعضها البعض، تتحاكى وتتعارض. بيد أنّ هناك نقطة يجتمع عندها هذا التعدد، وهي ليست سوى القارئ، القارئ هو الفضاء الذي ترسم فيه كلّ الاقتباسات التي تتآلف منها الكتابة"(5). وهكذا يمارس القارئ المعاصر القراءة كفعل متشابك ومعقّد ينقل العمل الأدبي من حالة الكمون إلى حالة الإنجاز مستمدّا تجدّده من الإمكانات القرائية اللامتناهية.
اختلفت ماهية المتلقي ووظائفه باختلاف المدارس والرؤى، وإن اتّحدت جميعا في تبيين دوره الحاسم في محاورة النص، وإضاءة مناطقه المعتمة، وسبر أغواره الدلالية، وتفكيك طبقاته اللغوية، مما يجعل القراءة عملية فعالة، برهانها في فعاليتها، ومعاناتها في لغتها، بل أصبحت القراءة مفهوما نقديا، يشبّه في أوضح مفاهيمه بالغوص في مجرى النهر الذي يستحيل أن يتكرّر مرّتين، إذ تتغير اللحظة الزمنية والحالة الشعورية، وعليه فـ"موضوع القراءة ليس إلا النتيجة المعقّدة لمؤثرات عديدة، وبالتالي فإنّ الأثر الذي يحدث عند كلّ قراءة هو أثر جديد يحدث للمرّة الأولى، إننا لا نقرأ نفس النص مرتين"(6).
لقيت هذه النظريات ترحيبا واسعا في أوساط النقد العربي رغم صعوبة ترويضها، وتقليم أظافرها، يتجلّى ذلك في التسميات الكثيرة للمتلقي (المستقبل، المرسل إليه، القارئ، المتلقي) توحّد بينها، وتميّزها أحيانا أخرى، وكانت هناك مساع حثيثة لتأصيل النظرية بالبحث عن جذورها في التراث النقدي، وتندرج ورقتنا ضمن هذا الإطار، وسنبدأ بوضع المتلقي في المرحلة الشفوية ثم الكتابية:
المتلقي في العصر الشفهي
بدءا اخترنا مصطلح المتلقي بدل القارئ لمرونته وسلاسته، إذ يحتوي المقام السماعي /الشفهي كما يصلح للمقام الكتابي/القرائي، ووجدنا في الكتب النقدية التراثية حديثا مبعثرا عن المتلقي في المرحلة الشفهية، وسنبدأ باستنطاق وثيقة بشر بن المعتمر التي يقول فيها "ينبغي للمتكلّم أن يعرف أقدار المعاني ويوازن بينه، وبين أقدار السامعين، وبين أقدار الحالات، فيجعل لكل طبقة من ذلك كلام، ولكل حالة من تلك مقاما حتى يقسّم أقدار الكلم على قدر أقدار المعاني ... ويقسّم أقدار المعاني على أقدار المقامات، وأقدار السامعين على أقدار تلك الحالات "(7).
نخلص من هذه المقولة إلى أنّ المتلقي كان يؤخذ بعين الاعتبار بسبب طبيعة المقام السماعي–الشفهي الذي يفرض شكلا معينا من العلاقة بين الأديب والمتلقي/السامع، إذ تطفو على السطح معاني الآنية، والاتكاء على الذاكرة، وضرورة المباشرة، وتلافي الغموض، فعلى الأديب أن يراعي هذه العوامل، ويضع في حسبانه كلّ حيثيات عملية التلقي، فيتفادى الغموض قدر الإمكان ليحقق أكبر مردودية جماهيرية.
ركّز النقد العربي القديم على توضيح الوسائل التي تمكّن الأديب من أن يؤثّر على متلقيه تأثيرا خاصا إمّا بإقناعه عقليا أو استمالته عاطفيا إن لم ينجح الإقناع، يتعلّق الأمر بغرضين أساسين هما: الخطابة، والشعر التكسّبي/المديح، إذ تستوجب الأولى استجابة فورية، ويقتضي الثاني دواعي الحاجة الآنية، وأسست الخطابة مقولة أشبه بالنظرية وهي "لكل مقام مقال" التي أشار إليها بشر بن المعتمر، وأكّدها الجاحظ لاحقا.
على الخطيب أن يلتقط أدقّ الانفعالات الشعورية لدى متلقّيه، وأن يرصد ذبذبات كلامه في صدى السامعين منتبها لمدى استجابتهم أو نفورهم ليضع لنفسه استراتيجية معينة تمكّنه من المحافظة على جسر التواصل مع الآخر، هذا المتعدد لغوي، وثقافي، وطبقي، وعصبي، وينطبق الحكم نفسه تقريبا على موقف الشاعر التكسّبي تجاه متلقيه/الممدوح، فعلى الشاعر أن يضع بعين الاعتبار هذا المتلقي "الخاص" "فعلى المبدع أن يتحرّك في مفتتح قصائده حركة حذرة فلا يقدّم بناء تعبيريا يتطيّر منه، أو يبعث الجفوة فيمن يواجهه كذكر البكاء، ووصف إقفار الديار، وتشتت الآلاف، ونعي الشباب، وذمّ الزمان، وخاصة إذا كان هناك مناورة داخلية بين المطلع والبناء الأصلي كأن يرد ما سبق من دلالات في إطار المديح أو التهاني لأنّ الخطاب الأدبي إذا كان مؤسسا على هذا وجد حائلا بينه وبين المتلقي حتى ولو كان هذا المتلقي على وعي بأنّ هذا المدخل الشعري هو نوع من محاورة الشاعر لذاته"(8).
تقودنا هذه الإلزامات والتشديدات إلى تصوّر مكانة مرموقة أو وضعا متميزا للمتلقي في الفترة الشفهية بما يكتسبه من صلاحيات وامتيازات تسمح له بتقييم النص، ومن ثمّ الشاعر وإعطائه صفة الإبداعية بل شرعنته، وإضمامه إلى منطقة الإبداع بل لديه الحق في تصحيح أخطاء المبدع ولفت انتباهه إلى هناته وهفواته، ولا أدلّ على ذلك من قصة النابغة الذبياني مع جمهوره حين أنشد بيتيه الشهيرين:
أمن آل ميّة رائح أو مغتد = = عجلان ذا زاد وغير مزوّد
زعم البوارح أن رحلتنا غدا = = بذلك خبّرنا الغراب الأسود
أحسّ الجمهور بأنّ هناك خللا ما، فعرض الأمر على جارية لتنشده، وعرف النابغة خطأه العروضي الذي سمّي لاحقا "الإقواء"، فصحّحه، لذا لم يتردد الجاحظ في أن يبجّل المتلقي على المبدع والنص معا بما يمتلكه من صلاحيات الانتقاء، والاصطفاء، والإقصاء، وما يبديه من ردود أفعال تجاه النص ردودا تتراوح ما بين القبول والإعجاب الذي يضفي على النص أدبيته، أو الرفض والنفور الذي يقصي النص ثمّ الأديب من دائرة الإبداع، وهذا ما يجعله ذاتا إيجابية لا تكتفي بالاستهلاك السلبي بل تطالب بحقها في إرساء التقاليد الشعرية انطلاقا من ردود أفعالها المختلفة لذا فـ"الاتكاء على رصد ردود الفعل كان هو الوسيلة لتجليات المتلقي في الدرس النقدي القديم، وتغلبه – كما قلنا – لا على المبدع ذاته، وإنما إلى النص مباشرة، وهو نوع من التوجيه الصحيح إلى حصر دائرة الاهتمام في الخطاب ذاته، ورصد كثافته الشعرية من خلال انعكاسها في مرآة المتلقي"(9).
المتلقي في العصر الكتابي
مع بداية عصر التدوين عرف النص الشعري عالما جديدا يخرجه من المباشرة والإحالات الفورية، والارتباط بقيود الزمان والمكان، والعرضية، والخصوصية إلى فضاء أوسع، فضاء الكتابة التي تصونه من الضياع وتقطع صلته بمؤلفه ونواياه، وتضمن له بعدا شموليا بما تحققه من شريحة قرائية واسعة عبر الزمان والمكان كما اقترب الشعر من لغة النثر الذي يبدو أكثر حميمية والتصاقا بالكتابة بفضل بعده الفلسفي واتساع موضوعاته، فقد احتل النثر مكانة أبعد خطرا في البنية السياسية لنظام الحكم العباسي، فازدادت مساحة التدخّل بينه وبين الشعر، وتنامت قدرته على التأثير فيه، فلم يستطع كثير من الشعر في هذا العصر أن يفلت من أسر القيم الفنية المائزة للنثر كحث الفكر على التوليد، واستقصاء الموضوعات، واستخدام المنطقية، وإقامة الحجج، واستخلاص النتائج بوصفه صادرا عن العقل متوجها إليه "(10).
ولا ننسى طبعا دور الاعتزال وروحه الجدلية في تحويل الشعر من مرحلة القبول إلى مرحلة التساؤل ساعيا من وراء ذلك إلى تحقيق دور معرفي بل فلسفي على وجه التحديد وهذا ما أربك العلاقة التواصلية السابقة، وأحرج المتلقي الذي لم يعد وصيا على النص الأدبي بعد أن أضحى هذا الأخير خطابا غريبا عنه، متعاليا، بل متحديا له بسبب تعقيداته المجازية، وتجاويفه الرمزية، فـ " النص المكتوب يقع بين يدي القارئ، مقطوعا عن وسطه المكاني بعيدا عن محيطه الزماني فلا يشترك القارئ والكاتب في شبكة واحدة من المرجعية، فما يخيّل إلى أحدهما يجهله الآخر، وعليه فإنّ القارئ يتكئ على بنية النص أي على نسيج علاقاته الداخلية كي يخلق السياق العام الضروري لفهم النص ’(11) فيصيب حينا ويخطئ أحيانا أخرى حين يصطدم بنصوص مراوغة غيّرت مركز الثقل من الوضوح والمباشرة إلى الغموض والتعقيد، فتؤدي إلى خرق أفق التوقعات – بلغة العصر الراهن – وكسر عمود الشعر –بلغة النقد القديم – فالشعر المحدث كثيرا ما يتجاوز بنود عمود الشعر المتعارف عليها وهي الإجادة في التشبيه، وشرف المعنى، وصحته، وتعاليه عن السخف والجهالة، والخطأ بالإضافة إلى جزالة اللفظ واستقامته، ومشاكلته للمعنى لذا " عدّ عمود الشعر معيارا جماليا للتشكيل الشعري المقبول، والخروج عنه انحراف (أو انزياح) في التأليف الشعري لا يتخذ سمة القبول عند متلقيه "(12) بعبارة أخرى " هو أعراف الكتابة (والقراءة) الشعريتين في آن واحد، لذا فإنّ أيّ تغيير في الصوغ الشعري يستلزم تغييرا في نظام قراءته "(13).
فعمود الشعر باعتباره مجموع السنن الشعرية الراسخة هو المصطلح القديم لمصطلح "أفق التوقع"/ أفق الانتظار الذي " بعني الاستعداد العقلي الذي يمكّن فردا افتراضيا من مواجهة أي نصّ، ولكي يواجه أيّ منّا نصّا من النصوص لا بدّ من توافر الشروط التالية:
= وجود تجربة قبلية عن الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه النص.
= وجود علاقة بين النص المقروء وما قبله من النصوص.
= المقابلة بين العالم التخيلي والواقع اليومي أو بين اللغة الأدبية واللغة العملية.
هذه الشروط المذكورة تتعلق بمرجعية النص المقروء، إذن فإن أفق التوقع محكومة بأمرين: ما يعرفه القارئ سابقا عن اللغة وعن الواقع، وما يجده في النص"(14).
فأفق التوقع أو عمود الشعر هو مجموع المعايير الجمالية التي تشكّلت على ضوء تراكمات نصوصية طوال مدّة ما، فحدّدت معايير إنتاجه، وعبّدت الطريق نحو معانيه المختلفة، وكان الشاعر المحدث خروجا على عمود أو خرق لأفق الانتظار مما أربك العلاقة بين الشاعر القديم ومتلقيه، ولا أدلّ على ذلك من تلك العلاقة المتوترة بين أبي تمام وجمهوره، إذ اشتكى هو من عجزهم على محاورة النص، واشتكى الجمهور بدوره عن عجز الشاعر على إفهامهم والتأثير فيهم.
أدّى هذا الارتباك إلى إبراز التفاوت في أنواع المتلقين، أو لنقل تنويعا في طبيعة المتلقين، إذ صنّفوا حسب مستوياتهم المعرفية واللغوية إلى نوعين رئيسيين هما: المتلقي الاعتيادي، والمتلقي النموذجي، ومسّ النوع الأول شريحة كبيرة من الجمهور الذي لم يتمكن من ملاحظة دلالات النص المتمنعة، وسهر جرّاها يختصم، إذ لم يستطع تشقيق أغلفة النص للوصول إلى نواته الكامنة في عمقه، فحال عجز المكابدة عن تذوّق حلاوة الوصول، وذلك ما أشار إليه الآمدي في حديثه عن المعارضين عن شعر أبي تمام، يقول الآمدي "وإنما أعرضوا عن شعر أبي تمام من لم يفهمه لدقة معانيه وقصور فهمهم عنه، وفهمه العلماء والنقاد في عالم الشعر، وإذا عرفت هذه الطبقة فضيلته لم يضرّه طعن من طعن "(16).
يتحدث الآمدي عن تلاعب النص بأعصاب القارئ، ويعدّ هذا التلاعب من منظور معاصر أجمل مفاتن القراءة التي تجاوزت طفولتها الساذجة حين كانت معنى جاهزا يقدّم للقارئ مما يفقده متعة القراءة وسحرها، فالآمدي يشجع نوعا خاصا من القراءة وهو "القراءة النقدية " التي تنوء بنفسها على أن تكون عملية اتكالية أو انعكاسية للكتابة بل ترمي لأن تكون عملية إنتاجية تستسيغ الصعب، وتستعذب المكابدة والعناء، ولا يمكن أن تكون القراءة في هذا المستوى ما لم يمتلك المتلقي مؤهلات إنتاج النص من جديد، ومن ثمة طالب النقاد المعاصرون بقرّاء ممتازين سمّاهم وولف "القارئ المرتقب" ودعاهم ريفاتير "القارئ المتفوّق"، وأطلق عليه فيش "القارئ المثالي"، وناداه بارت " القارئ غير البريء"، وقد ناداه الآمدي وغيره من النقاد المعاصرين له واللاحقين كابن طباطب، والمرزوقي بـ "القارئ الخبير"، واشترطوا فيه إتقان اللغة العربية، معرفة أسرارها، وحفظ الشعر العربي قديمه ومحدثه، والإلمام بعلوم اللغة نحوها وصرفها وبديعها وحقيقتها ومجازها وأساليب بلاغتها ومعرفة تاريخ العرب، أيامها والإلمام بالنظريات النقدية السائدة آنذاك، لذا كثيرا ما نجد في تراثنا النقدي عبارات تصف هذا القارئ الخبير على غرار "العقل الصحيح"، و"الفهم الثاقب"، و"الدراية".
لا تختلف صفات هذا المتلقي الخبير عن صفات القارئ المبدع الذي دعا إليه أعلام نظريات التلقي وهي " أن يكون ذا حظ كبير من الوعي الجمالي والأدبي واللغوي، وأن يكون واسع الاطلاع على الثقافة والعلوم الإنسانية، ملما به، مفيدا منه، فالمعارف الأولية بالعلوم الاجتماعية، والاقتصادية، والنفسية، والبيولوجية تساعد كثيرا في فهم النص (...) كما أنّ إطلاع المتلقي على الآداب الأجنبية يساعده على فهم الظواهر الأدبية ومقارنة الأدباء ومعرفة تأثرهم ببعضهم البعض" (17).
خاتمة
يمكننا في الأخير رصد بعض الملاحظات في نهاية المداخلة، ومنها:
إنّ علاقة المتلقي بالنص في تراثنا هي علاقة أحادية في غالب الأحيان أي تتحرك في اتجاه واحد مفتقدة بذلك بعدا حواريا/ جدليا، ففي المرحلة الشفوية كانت حركة التواصل تنطلق من القارئ في اتجاه النص حيث يفرض عليه سلطته، ووصايته وبالتالي كان على النص أن يكون في مستوى توقعات المتلقي، وفي المرحلة الكتابية انقلبت الآية، وانتقل مركز الثقل إلى النّص الذي تعالى على المتلقي مراوغا متمنعا، وهذا ما جعل ناقدا حديثا وهو الدكتور محمد عبد المطلب يصرّح قائلا "إنّ مقولة القارئ لم يتحدد له وجودا واضحا في الدرس القديم لأن القراءة الحقة تقتضي حركة معاكسة من القارئ إلى النص"(18) وفضّل لذلك أن يستعمل مصطلح "المتلقي" بدل "القارئ".
إن وظيفة المتلقي هي وظيفة كشفية أي فكّ شفرات النص وحلّ ألغازه وإضاءة تعتيماته، ولم يعامل المتلقي إطلاقا على أنه مبدع أو مؤلف ثان يمكنه أن يضيف إلى النص من عندياته، أو أن يقرأه باحثا عما يريده، وهذه الصلاحية /الوظيفة هي أحدث ما انفردت به نظريات التلقي المعاصرة.
استطاع التراث النقدي أن يؤسس مفاهيم قرائية واضحة المعالم، مثل عمود الشعر الذي يقترب من نظيره الحداثي "أفق التوقع" و"القارئ الخبير" الذي يتماشى مع مفهوم "القارئ النموذجي" ولعلّ ما خفي أعظم.
إنّ موضوع "التلقي" وإن لم يحظ باهتمام مستقلّ، إلا أننا يمكننا أن نعتبره محور القضايا النقدية المطروحة آنذاك مثل السرقات، الغموض القديم والحديث، فكلها تطرح ضمن ثنائيات (المؤلف-النص)، (النص-القارئ)، (المؤلف-القارئ).
أخيرا كانت هذه الورقة محاولة متواضعة لقراءة جانبا من التراث النقدي برؤية معاصرة، وهي محاولة تثير الأسئلة، وتطرح الإشكاليات، وتمتنع عن الوقوف على حافة الإجابة الختامية.
= = =
الهوامش
1. محمد عزام: سلطة القارئ في الأدب، مجلة الموقف الأدبي، ع 377،
2. محمد عزام: سلطة القارئ في الأدب (مرجع سابق).
3. ناظم عودة خضر: الأصول المعرفية لنظرية التلقي، دار الشروق، الأردن، 1997، ص 123.
4. رولان بارت: نظرية النص، ت/ محمد خير البقاعي، مجلة العرب والفكر العالمي، ع 3، لبنان، 1988، ص 96.
5. رولان بارت: درس السيميولوجي، ت/ عبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، ط3، المغرب، 1998 ص 87.
6. حسن مصطفى سحلول: نظريات القراءة والتأويل (دراسة) موقع اتحاد الكتاب العرب، دمشق (موقع سابق).
7. الجاحظ: البيان والتبيين، ج1، تحقيق عبد السلام هارون، ص 88.
8. محمد عبد المطلب: قضايا الحداثة عند الجرجاني، الشركة المصرية العالمية للنشر، ط1، مصر، 1995، ص 239.
9. محمد عبد المطلب: قضايا الحداثة عند الجرجاني، ص 329.
10. مصطفى أبو الشوارب: شعرية التفاوت، دار الوفاء، مصر، 2001، ص 71.
11. حسن مصطفى سحلول: نظريات القراءة والتأويل (دراسة).
12. بشرى موسى صالح: نظرية التلقي، المركز الثقافي العربي، المغرب، ص 71.
13. بشرى موسى صالح: نظرية التلقي، ص 75.
14. صالح مفقودة: القارئ والنص، أعمال ملتقى "النقد العربي المعاصر" المنعقد بالمركز الجامعي خنشلة، 22-23 مارس 2004، طبعة دار الهدى الجزائر، 2004، ص 205.
15. الآمدي: الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري، ج1، تحقيق أحمد صقر، ط4، دار المعارف، مصر، 1992، ص 21.
16. الآمدي: الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري، ج2، ص 125.
17. محمد عزام: سلطة القارئ في الأدب (مرجع سابق).
18. محمد عبد المطلب: قضايا الحداثة عند الجرجاني، ص 234.