هادي اسماعلي - تونس
تقديم لرواية نجيب محفوظ الشحاذ
يقولون لي ما أنت في كلّ بلدة --- وما تبتغي ما أبتغي جلّ أن يسمى
أبو الطيّب المتنبّي
هل أشدّ استثارة للذّة القراءة في أدبنا العربيّ المعاصر من رواية الشحّاذ للكاتب العالميّ نجيب محفوظ. فنّ من مألوف الكلم ونصّ فاتن بطارف تقنيّاته الروائيّة ومستحدث طرائق القول، ممتع بشتّى ألاعيب الضمائر وأفانين الخطاب ينشط خلالها الذهن إلى ترتيب الأحداث وإعادة بناء نسغها وتخليص الواقعيّ من الخياليّ وتمييز الحقيقة من الحلم.
وهل من أثر إبداعيّ تناول أمّهات القضايا الذهنيّة دون السقوط في الاستعراض الفجّ للأفكار الفلسفيّة غير الشحّاذ انفرد من بين الأعمال الوجوديّة الرياديّة ببارع القدرة على إجراء الذهنيّ في اليوميّ وصهر الوجوديّ في الاجتماعيّ.
وهل من رواية تخلّصت من الشواغل الفرديّة والاجتماعيّة الضيّقة في سبيل عقيدة مطلقة إنسانيّة شاملة كتخلّص الشحّاذ منها حوّل أزمة البطل الفرد عمر الحمزاوي إلى أزمة الإنسان عامّة بل اصطنع من شوارع القاهرة فضاء يحتضن خيبات الأبطال العابثين الباحثين عن الحقيقة يستبدل من وجوه أساطير البحث عن اليقين في ماضي الوجود البشريّ وجوها مصريّة قريبة منّا شبيهة في العين بوجوه نعرفها من أمد بلغت من القوّة في السبك مبلغا يؤهّلها إلى أن تصير أسطورة الإنسان المعاصر.
وهل تنكّبت الأعمال الذهنيّة عن جفاف الخطابات المجرّدة تنكّب رواية الشحّاذ عنها، انزاحت بعالمها الروائيّ عن البعد الذهنيّ لتضخّ أسئلة الفكر في شريان الواقع وشواغل العصر والمجتمع ولتستحيل المعاني ممكنة دانية بعد أن كانت قصيّة شحيحة مكسالا موغلة في الترميز إلى حدّ الإغماض والفساد أحيانا.
وهل أتاك نصّ روائيّ يفيض فيه بطله فيضانا عارما على العناصر الروائيّة كما في الشحّاذ صارت الكتابة فيه صنو بطلها تتمرّد تمرّده وتشتاق إلى الكون اشتياقه. تسرّبت عدوى القلق الوجوديّ من البطل إلى العالم الروائيّ بأسره إلى أن اصطبغت الكتابة بأصباغه لتمثّل الرواية أنموذجا طريفا لتعالق الفنّيّ والفكريّ.
إنّ رواية الشحّاذ تدعوك إلى مراجعة الذات وقراءة متطلّبات العصر بعيون جديدة. نصّ مفتون بجوهر الحياة إلى حدّ الهوس وقوّة مذهلة من الإبداع تحدّثك عن ذاتك وتحرّك فيك مكامن الشكوى والقلق والسؤال، ومثل بليغ من أدبنا الذهنيّ المعاصر في أتّونه الوافد الفلسفيّ والفكريّ والأسطوريّ والصوفيّ والتراجيديّ تتحرّك جميعها في فضاء اليوميّ العاديّ.
مصنّف يجوز بك أدقّ النزعات النفسيّة والوجوديّة والإنسانيّة عامّة في قريب عبارة وبعيد إشارة. مزاج من الحضور والغياب، هو الشحّاذ، من الوعي واللاّوعي، من الواقع والحلم، ذوب من الفلسفة والحبّ والثورة والتصوّف ومواقف من الحياة والموت تبلغ حدّ التضارب أحيانا لكنّها تتّحد كلّها في مصهر واحد أوحد هو الشحّاذ.
ضرب من كتابة الواقع استوحى فيه نجيب محفوظ كونه الحكائيّ من التحوّلات الاجتماعيّة الّتي يشهدها تاريخ مصر الحديث بله الطور الحضاريّ المصريّ المرتبط بثورة جويلية (يوليو/تموز) 1952 في مركز ثقافيّ واقتصاديّ واجتماعيّ هو الأبرز في مصر ألا وهو العاصمة القاهرة. غير أنّ الكتابة لا تكتفي بالواقع وإنّما تجوز فضاءات الإنسانيّة بأسرها وتجوس في قضاياها مهما تبدّلت الأعصار والأمصار.
فنن من القصّ النفسيّ امتداد لتمرين صعب في الكتابة النفسيّة اجتازه نجيب محفوظ بامتياز في رواية السراب (1943) سداه آليّة الاستبطان تجوس في دروب النزعات الخفيّة للبطل عمر الحمزاوي بغية فهم المرض الّذي استبدّ به واستفحل فيه. وأعراضه عدم الاقتناع بالموجود في مقابل مطاردة منشود يلوح كسراب، ومن أعراضه أيضا الانفصام في الشخصيّة والصراع مع الآخر صراعا داخليّا غير معلن في غالب الأحايين وطغيان الركود وتعكّر المزاج بشكل سريع والقلق من جميع الأشياء وانقلاب المشاعر إلى أضدادها وتضارب أحاسيس المحبّة والكراهيّة وإحساس مروّع بالعفن والاحتباس والاختناق والذبول "وحبست الروح في برطمان قذر كأنّها جنين مجهض واختنق القلب بالبلادة والرواسب الدسمة. وذبلت أزهار الحياة فجفّت وتهاوت على الأرض ثمّ انتهت إلى مستقرّها الأخير في مستودعات الزبالة".
الشحّاذ: نلتقي هناك كلّنا في كثافة إيحاء لوحة الاستهلال المعلّقة في مكتب الطبيب حامد صبري غير أنّها منتقشة في أبعد أغوار الإنسان بصدق تجربتنا الخفيّة عادة والمعلنة في القليل النادر، بشغفنا بكسر المألوف نلعن السهل المنبسط ونركب الخطر، تزعجنا الاستقامة ونهوى التعرّج والعروج إلى سماوات المعنى، وتربكنا نقاوة السماء وصفاؤها وانسجام مكوّناتها وانطباق الأفق البعيد، ويدوّخنا الخواء ورعب السطحيّة وطمأنينة الأبقار لا يزعجها جمر الأسئلة ترعى ولا ترقى إلى معرفة "علم الهيأة ومساحة الأرض".
نـمقت نفاسة الإطار الخارجيّ الّذي لا يخفي إلاّ الوهم والعدم والزيف، ويستهوينا اليسار والصدام وبنا شوق إلى براءة الطفل اللاهي اللاعب ونظرته الجسور الرعناء وننجذب إلى الطفولة التوّاقة إلى الثورة على سكون الطمأنينة وجمود الأخشاب الموات. ويقضّنا الحصان الخشبيّ نودّ أن ننفخ فيه من التمرّد روح ديونيزوس الجامحة تجتثّه من ميّت المنابت الخشبيّة لتطوّح به في مطلق الآفاق في رحلة شبيهة برحلة البراق أو أكبر عتيّا.
في الشحّاذ ما في دواخلك من رفض الامتثال إلى الأشكال والشعارات والمصادرات المغالطات، وفيه ما فيها من تمرّد على الدعاوى المزيّفة إلى استقبال الحياة "كما جاءتك مبتسما" دون التساؤل عن كنهها ومبرّراتها.
إنّنا بإزاء أثر فنّيّ محرج بشتّى المفاهيم يحيّر فيك إشكالات ذهنيّة تهمّ معنى الحياة العائم في سديم ضبابيّ لا يكاد يتفرّس فيه الطالب حتّى تأتي عليه السافيات، كما يطرح عليك مكانة الفنّان في العصر الحديث وما يحيق به من قضايا وإكراهات تحوّل الفنّ بمقتضاها من ذروة القيم السامقة والوظائف النبيلة إلى التسلية الرخيصة السخيفة والمتعة الهابطة.
يلقي إليك بعنف علاقة الفنّ بفكرة الالتزام وبالحياة وبالإنسان وبالمجتمع ويحملك على إعادة تقليب مسألة الانتماء ودورها في الحياة، ويحرجك بإنّيّة مفرطة في الانغلاق على إنّيّتها تقيل الغير وتهدم كلّ أسباب التواصل إلاّ من خطاب كخطاب الصمّ أحاديّ عقيم، ويشيع فيك القلق إزاء المعنى الحقيقيّ للحياة ومراتب اليقين ومكانة البعد الروحيّ في الوجود وصراع العقل والعاطفة فضلا عن إشكاليّة إدراك الحقيقة بالعقل والعلم والعمل.
ويلقي إليك أزمة الذات المعاصرة المستوحشة في غياهب الاغتراب والوحدة ويتدانى بك المؤلّف إلى رؤية إيديولوجيّة هي مزيج من تصوّرات ليبراليّة ونزعات إنسانيّة ونظرة متشائمة لمجتمع اشتراكيّ تلوح ملامحه الأولى في الأفق الاجتماعيّ المصريّ، وهواجس جيل بأسره متوتّر قلق بين موجود آسر ومنشود نفور، أزمة مثقّفي ما بعد الثورة في مصر سقطوا في شباك مرحلة تاريخيّة فرضت فلسفة النعامة وتهافت المبادئ وأفول الثورة.
ثلاثة ورابعهم الحلم: مصطفى المنياوي وعثمان خليل وعمر الحمزاوي "إخوة الجهاد القديم" وثالوث الشعر والفنّ والجمال والثورة وتغيير العالم "اندفعنا برعشة إلى أعماق المدينة الفاضلة، واختلّت أوزان الشعر بتفجيرات مزلزلة. واتّفقنا على ألاّ قيمة البتّة لأرواحنا. واقترحنا جاذبيّة جديدة غير جاذبيّة نيوتن يدور حولها الأحياء والأموات في توازن خياليّ لا أن يتطاير البعض ويتهاوى الآخرون". كانوا أنموذجا للقوّة والوحدة والجماعة والتوقّد في سني الطلب بالجامعة، ثمّ أطبق عليهم سبات ثقيل كسبات أهل الكهف أو أشدّ إظلاما شتّت عراهم فاعترتهم الفرقة والانشقاق والفصام وغدوا كلّ في حال.
مصطفى المنياوي "المراهق الأصلع" بـ"وجهه البيضاويّ الشاحب وعينيه الذابلتين وصلعته التاريخيّة"، حمل شعار الفنّ والثورة الاشتراكيّة طويلا أيّام الشباب، غير أنّه استحال صورة قذرة للانصياع وتقوّس الظهر من فرط السجود في محراب زمن الرداءة. تخلّى عن الفنّ الحقيقيّ الّذي طالما حلم به ورفع راياته، وانصرف ليعمل في الإذاعة يشيد بالأغاني المستهلكة فيما يشبه "الفيديو كليب" في أيّامنا. لقد تخلّى عن مبادئه وترك جوهر الفنّ في سبيل الكتابة الصحفيّة المسلّيّة متعلّلا بواهي المعاذير يقلب مفهوم الفنّ أو يصطنع لنفسه مفهوما مغالطا خوّانا "الحقّ أنّ مفهوم الفنّ قد تغيّر ونحن لا ندري. عهد الفنّ قد مضى وانقضى وفنّ عصرنا هو التسلية والتهريج".
لكأنّ نجيب محفوظ قد استشرف حال مجتمعنا المسطّح اليوم ونفذ إلى صميم الحياة الثقافيّة بقضاياها وإكراهاتها، يصف تدهور وضع الفنّ في عصرنا وقد اعتلى خشبة المسرح زمرة يدعون بـ"النكّاتجيّة" يلقون إقبالا منقطع النظير جمهورهم يبحث عن الضحك والترفيه والسعادة الوقتيّة الظرفيّة الزائلة في حين غربت الأعمال العميقة والنصوص المسرحيّة القادرة على المواءمة بين التعليم والتأصيل والإمتاع. و"المدينة كنّست كلّ المغنّين" وفسحت المجال لاستعراض الأجساد وحركة النهود فضاع وحي الإيقاع وصدق الكلمة نرثي زمن "الستّ" ونتعزّى بصوت فيروز ربع ساعة كلّ صباح جديد. وانظر إلى فضاءات عرض الفنون التشكيليّة تر العجب، فراغ؛ فراغ؛ فراغ. وفنّ الرقص "فزّاني مرتاح". أمّا الأفلام السينمائيّة فمعرض للأجساد يشهد على هبوط الذائقة وتنحّي الصورة عن وظيفة التعليم إلى الإبهار والمخاتلة.
لقد ضاقت غايات الفنّ وانحسرت آفاقه وانسدّت مسالكه إلى جوهر الحياة، والسبب في ذلك حسب نجيب محفوظ يعود إلى ابتناء علاقة عدائيّة بين العلم والفنّ واصطناع فلسفة مغلوطة أفرغت الفنّ من معانيه السامية ووضعته ضديدا للعلم يقع في الضفّة المقابلة له وفي طرفه النقيض. وها هو مصطفى المنياوي يمعن في ردّ قضيّة الغموض في الشعر العربيّ المعاصر إلى حالة من الانتهازيّة يحياها الشعراء الّذين صدموا بالتطوّر العلميّ. فراحوا يردّون الفعل بتعقيد القول الشعريّ وحمله على الإبهام والإغماض استجلابا للأنظار وإثباتا للكيان "ولم يعد هذا مقنعا في عصر الثورات الجذريّة عصر العلم، وقد تبوّأ العلم العرش فوجد الفنّان نفسه ضمن الحاشية المنبوذة الجاهلة، وكم ودّ أن يقتحم الحقائق الكبرى ولكن أعياه العجز والجهل وحزّ في نفسه فقدان عرشه فانقلب غاضبا أو عدوّا للرواية أو لا معقولا ولمّا استحوذ العلماء على الإعجاب بمعادلاتهم غير المفهومة نزع الفنّانون المنهارون إلى سرقة الإعجاب باستحداث آثار شاذّة مبهمة غريبة".
ولا يخفي خطاب مصطفى المنياوي قضيّة أدبيّة تمسّ المؤسّسة النقديّة وهي إشكاليّة تلقّي الشعر العربيّ المعاصر وتعطّل الآلة النقديّة وعدم قدرة الخطاب النقديّ الحديث على الترقّي إلى استيعاب تطوّر الشعر والإبداع. وظلّ النقد يرمي النص الشعريّ بالغموض والشذوذ، ولم يتفطّن إلى أنّ الشعر المعاصر يتطلّب مقروئيّة جديدة بشروط جديدة فرضتها روح العصر وتبدّل الرؤية إلى الشعر والشاعر.
وحكم المنياوي على الشعر بالإفلاس ودعا دعوة صريحة إلى التخلّص من الفنّ وإيلاء العلم مكانة الصدر من اهتماماتنا "يجب أن نتخلّى للعلم عن جميع الميادين عدا السيرك ... وفي رأيي أنّ الترفيه غاية جليلة لمتعبي القرن العشرين وما نظنّ أنّه الفنّ الحقيقيّ ليس إلاّ الضوء القادم من نجم مات من ملايين السنين فعلينا أن نبلغ سنّ الرشد وأن نولي المهرّجين ما يستحقّون من احترام، لقد قضى العلم على الفلسفة والفنّ فإلى مسرّات التسلية بلا تحفّظ ببراءة الأطفال وذكاء الرجال إلى القصص الخفيفة والضحكات المجلجلة والصور الغريبة."
ولم نر في رواياتنا العربيّة واحدة سبقت الشحّاذ إلى طرح قضيّة إفلاس الفنّ في العصور الحديثة وتهميش دور الفنّان وتراجع فعله في الذات وفي المجتمع. ولا مراء أنّ هذه الرواية تشهد على تسوّل الفنّان على قارعة الفكر وزحف تيّار الاستسهال والتفاهة الّذي يبشّر بمستقبل الإنسانيّة القاتم مجسّدا في ابن مصطفى المنياوي "عمر الّذي سمّيته للأسف باسمك فمراهق شكس واهتمامه بالكرة يماثل اهتمامنا القديم بقلب العالم رأسا على عقب".
وبذا أمكن لنجيب محفوظ النقر على فكرة التفاهة والرداءة وترجمتها في مجال أحلام الشبيبة باللعب وبالشهرة السهلة والربح اليسير والاغتناء بالترفيه والتسلية بمنأى عن التفكير البنّاء في "أخذ الدنيا غلابا". ومن ثمّة يتخلّى عمر المنياوي عن وجوده الاجتماعيّ ليتحوّل مرآة عاكسة لمستقبل عقيم ينتظر الإنسانيّة إن هي أدمنت على استبعاد الفنّ عن حقيقة الحياة ما يعكس النظرة المتشائمة للكاتب إزاء تدهور القيم الفنّيّة وتكلّس المحرّكات الوجدانيّة وعتيّ التألية والمكننة وتغييب روح الفنّ عن الحياة.
كما خان مصطفى المنياوي مبادئ الثورة الاشتراكيّة القديمة الّتي ناضل من أجلها طويلا متشدّقا بحكمة غريبة "إنّي أتساءل مادامت الدولة تحتضن المبادئ التقدّميّة وتطبّقها أليس من الحكمة أن نهتمّ بأعمالنا الخاصّة؟" باطلة هذه الحكمة خاسئة، فهي ليست إلاّ قناعا للردّة تتخفّى وراءه الأنانيّة والمصالح الشخصيّة. إنّها حكمة العقلاء الجدد الّذين سقطوا في البراغماتيّة الرخيصة والنفعيّة الضيّقة وأغمضوا الجفنين على ماضي الثورة. وبذا يعبّر مصطفى المنياوي عن تجلّيات زيف الحاضر والتمثيل بأحلام الماضي ومعنى نكران الذات وأكذوبة الشعارات ويراهن على مسايرة تيّار النجاح الاجتماعيّ الرخيص.
وفي طرف نقيض حضر عثمان خليل "ربعة متين البنيان، شاحب اللون، كبير الوجه، حليق الرأس، قويّ الفكّين والأنف، يشعّ من عينيه العسليّتين نور حادّ"، هو الصفيّ الأوحد للمبادئ ولرفاق الدرب، ضحّى بسني الاغتراب في السجن من أجل صادق الوعد قطعه مع الرفاق. داوم على وطيد العلاقة بالشعر والفنّ والإبداع "لا شيء غير الشعر (...) وأنت تعلم أنّ الشعر هو حياتي وأنّ تزاوج شطرين ينجب نغمة ترقص لها أجنحة السماوات".
وحافظ عثمان خليل على طموحاته الاشتراكيّة، ومازال يؤمن بالمدينة الفاضلة حتّى حبس ولم تضرّ السنوات العشرون الّتي ابتلعته في غياهب السجون بالطموح النبيل الّذي نشأ عليه، ولم يفتّ الإقصاء من نشاطه إلى المدينة الفاضلة ورغبة التمرّد والتغيير. وبقي إلى آخر الرواية وجها للإصرار والثبات على الموقف الفكريّ برغم الهزّات والخيانات.
وانفتحت الرواية على خروجه من السجن فمثّل عثمان بؤرة للتوتّر وشخصيّة قادحة للأحداث تتطوّر بمقتضاها حركة الرواية. أفاق من سبات أهل الكهف يخال أنّ العالم لازال كما تركه وأنّ الصحب لازالوا على العهد. بيد أنّ صدمته كانت عظيمة في الرفاق وفي الدرب "يا لفداحة الفشل. لا أصدّق ما حلّ بكما من تدهور". لقد تأكّد من تحوّل الجماعة عن المبدأ فراح يهزأ من مزعم التطوّر الّذي يواري خلفه صديقا النضال القديم خياناتهما "تطوّرتما إلى الوراء".
احتفل الصحب بخروج عثمان خليل من السجن وأثناء المأدبة تعرّف إلى بثينة ابنة عمر الحمزاوي المتحمّسة للفنّ والشعر كما كان أبوها قبل عشرين عاما. هي نسخة مطابقة للماضي تلحّ على الحاضر فتقرع ضمير الحمزاوي التائه في بحر المعنى لا يتبيّن اليقين في حياة سداها المتناقضات يطلب إلى ابنته أن تحقّق المعادلة العويصة بين الفنّ والعلم لينفكّ التناقض، فيترجّاها: "بثينة، هل أطمع أن تعديني بألاّ تفرّطي في دراستك العلميّة؟" فتجيبه: "أظنّ ذلك ولو أنّ الشعر سيظلّ أجمل ما في حياتي." عندها يردّ الأب القلق "ليكن، لن أجادلك في ذلك، ويمكن أن تكوني شاعرة وفي ذات الوقت مهندسة مثلا". وحينئذ يصير يسيرا إدراك حجم الصراع بين بثينة وأبيها. إنّه صراع بين تصوّرين للحياة متناقضين الحسم في شأنهما مهمّة خطيرة. تصوّر بثينة للوجود تصوّر "ديونيزوسيّ" يستكنه معنى الحياة في النشوة والفنّ والخروج عن الآلة العقليّة الصارمة وإطلاق العنان للإحساسات والوجدانات، أمّا تصوّر والدها فـ"آبولونيّ" يرى السعادة الحقّ في النظم العقلانيّة والقواعد العلميّة والقوالب الجاهزة. وصراع الديونيزوس والآبولون قديم قدم الميثولوجيا الإغريقيّة، فهل لنجيب محفوظ منه فكاك اليوم؟
وبذا استيقظت بثينة على ضياع الأب، مجازا، واتّساع الهوّة بينه والفنّ والجمال والشعر. فتمتّن لديها شعور لا يقهر بأنّها جاءت بعد فوات الأوان متى أقلع أبوها عن طموح الشباب الأوّل وعن إيمانه بأنّ الشعر مفتاح حقيقيّ لاستكناه جدوى الوجود.
ولقد كان خروج عثمان خليل من السجن مناسبة استعادت من خلالها بثينة، مدفوعة بعقدة "إلكترا"، حلم أبيها التائه ووقر في صدرها أنّ صديق والدها هو ماضي عمر الحمزاوي يتجلّى من جديد. لقد صار بالنسبة إليها المعادل الرمزيّ للضمير الحيّ والطموح الحقّ، فتطوّرت العلاقة بينهما إلى الزواج ثمّ انتظار مولود هو زواج الشعر والثورة، هو زواج الحاضر والماضي لإخصاب المستقبل، هو أمل الحياة بعد أن أتى الموت على كلّ شيء.
وقد أجشم نجيب محفوظ نفسه في بناء شخصيّة عثمان خليل لتكون قادرة على تبليغ الصورة الحقيقيّة للمثقّف المنشود كما أراده الكاتب من خلال الطرادات التقريريّة الثابتة ولهجته الحاسمة ووضوح رؤيته إلى الأشياء في العالم فضلا عن إدراكه لمعنى الحياة وامتلاكه لليقين المنشود. وتوفّر عثمان خليل على الشروط الأخلاقيّة والإيديولوجيّة والنظريّة اللازمة للانخراط في مطلب الكلّيّ، مطلب البلوريتاريا الواسعة والفئات المستضعفة، شعاره "الإنسان إمّا أن يكون الإنسانيّة جمعاء وإمّا أن يكون لا شيء".
ومن ثمّة ينشأ فينا اعتقاد راسخ أنّ عثمان خليل هو المثقّف الطرازيّ الّذي يجب أن يكون، يختزن في ذاته الجماعة بآمالها وتطلّعاتها، متحمّلا مسؤوليّة الآخر التابع المفتقر للوعي التامّ. وعثمان إلى ذلك مصاب بالنرفانا الاجتماعيّة استبدّت الغيريّة بإنّيّته وتمرّدت عليها فمحقتها، تناسى عثمان ذاته ووهبها للآخر "عندما نعي مسؤوليّتنا حيال الملايين فإنّنا لا نجد معنى للبحث عن معنى ذواتنا".
أمّا عمر الحمزاوي صاحب السيّارة "الكاديلاك" الفخمة والعمارات الثلاث ومكتب المحاماة الناجح فهو تاريخ طويل من الالتزام ورثه عن سلفه "وقديما قطع الشابّ النحيل ابن الموظّف الصغير القاهرة طولا وعرضا على قدميه دون تذمّر. وسلسلة طويلة من آبائه وأجداده تهرّأت أقدامهم من معاندة الأرض ثمّ تساقطوا من الإعياء".
كان في أوّل عهد الشباب شاعرا مناضلا صاحب مبدأ صائب وفكر قويم وكده تغيير العالم وإعلاء صوت الرفض. ولقد بلغ بتميّزه من أنداده أنّه بقي عالقا بذاكرة الدكتور حامد صبري "كنت تظهر لنا بأكثر من وجه، الاشتراكيّ المتطرّف، المحامي الكبير، ولكنّ وجها منك رسخ في ذاكرتي أقوى من أيّ سواه، هو عمر الشاعر".
لكنّ البطل عدل عن المهجة الأولى وتنكّر إلى مبادئه وتولّى عن الفنّ مقدّرا أنّه "عبث طفولة لا أكثر ولا أقلّ". سكن إلى زوج وأسرة وانقطع إلى العمل في مكتب المحاماة ولاقى في ذلك موفور النجاح والربح المادّيّ وعاش في بحبوحة متواصلة انقطعت فجأة لمّا أشرف الحمزاوي على العدم وتناهبته أحاسيس السآمة ومرارة الزيف وإحراج الضمير وقلق برجوازيّ رهيب يسخر من تقنين الحياة في سطور واضحة. وتبدأ الرواية مع هذا الانقلاب على الذات لتصير مسرحا لبحث جادّ عن المعنى الحقيقيّ للحياة.
وقد سلك البطل في سبيل اليقين مسالك صعبة مثل "فاوست" بطل المسرحيّة الشعريّة الّتي ألّفها "غوتيه"، بطل ملحميّ أصاخ إلى المجهول فلبّى النداء وشغف بالمعرفة شغفا تضمحلّ عنده الحدود. وكذلك عمر الحمزاوي يجهد ليلقى لذاته متنفّسا من ضيقها يقفو خواطره على غير مثال ويتّبع بواديه بلا هاد، ينشد بكر السبيل إلى معنى "جلّ أن يسمى"، يطوّح به التسآل بين مكتبه وبيته والكاباريهات وشوارع القاهرة وملاهيها والخلاء الصحراويّ المرعب.
يلحّ على معنى الحياة بشبه ابتسامة غامضة تشي بالضياع والفقد والارتباك. حيثما حلّ يحلّ معه السؤال يستنطق الأشياء ويناجي الحقيقة المتحجّبة، يخوض مياه الحياة في جوف الظلام الوجوديّ وكده أن يرى، يأكل داخله الشكّ ولا يرتاح إلى مرفأ إلاّ ليشقى مجدّدا ولا يشعر بالاكتمال والتمام إلاّ ليشرف على هاوية الافتقار والنقصان من جديد.
ولا يلقى عمر الحمزاوي الشفاء من نداء الحياة الغامض لا في ماضي الشعر والفنّ الّذي تجدّد مع ابنته بثينة الشاعرة، ولا في الالتزام الاشتراكيّ والثورة الأبديّة الّتي يحلم بها عثمان، ولا في العلم كما يدّعي الدكتور حامد صبري، ولا في البرجوازيّة المتخمة الّتي راهنت عليها زينب ولا في استسهال الحياة وبيع اللبّ والفشار كما يرى مصطفى المنياوي ولا في طمأنينة الحسّ العابرة مع وردة ومرغريت ولا في وضع الاعتزال والانفراد الّذي اختاره لنفسه في آخر الرواية.
والسرّ في تقلّب الحمزاوي بين هذه الوجوه دون التوصّل إلى معنى الحياة أنّه يرى أنّ كلّ الشخوص قد أغرتهم الحلول الجزئيّة الجاهزة وتقبّلوا نظرتهم إلى الحياة كما تشكّلت لديهم أوّل وهلة ولم يخضعوها إلى محكّ الشكّ والامتحان ولم يجدّوا في البحث عن اليقين، وأنّ كلّ واحد منهم، مهما بلغت ثقته بالطريق المتّبعة، فإنّه يبقى مبتسر الرؤية يتلطّخ في إسار النسبيّ، يتوهّم في رأيه النضج والنبوغ فيما يفتقر إلى التعامل مع الشيء ونقيضه ولا يمتلك معتقدا كاملا شاملا عن اليقين يرقى من خلاله إلى الحكم المطلق.
وتنفتح الرواية على أزمة البطل الصحّيّة "خمود غريب وموت الرغبة في العمل بحال لا تصدّق" هذه هي أعراض المرض الّذي خاله الحمزاوي مرضا عضويّا يعالج بحبّة بعد الأكل أو ملعقة للنوم، فإذا "المسألة خطيرة مائة في المائة، لا أريد أن أفكّر أو أن أشعر أو أن أتحرّك، كلّ شيء يتمزّق ويموت، فخطر لي على سبيل الأمل أنّني سأجد لذلك سببا عضويّا" لكن هيهات، فالطبيب صديق الطفولة أسرّ إلى الحمزاوي بمرض برجوازيّ خطير هو إرهاق سني العمل المديدة وإرهاصاتها على النفس والشعور "أنت رجل ثريّ نسيت المشي أو كدت تأكل فاخر الطعام وتشرب الخمور الجيّدة وترهق نفسك بالعمل إلى حدّ الإرهاق، ودماغك دائما مشغول بقضايا الناس وأملاكك" .
ومن ثمّة ينشأ الخلل منذ بداية الرواية عن مرض لا هو في المظهر ولا في العرض ولا في الشكل، ترهّل نفسيّ وانقباض داخليّ ماتت بمقتضاه الجهات الستّ وتوحّد الماضي والحاضر والمستقبل في نقطة واحدة متنكّرة للمراجع والمواقيت والمقاييس، وبهتت تصوّرات الحمزاوي للفنّ، للجمال، للأسرة، للحبّ، للحياة، وخاب ظنّه بالمستقرّات الشعر والنضال والنجاح الاجتماعيّ.
إنّ مرض عمر الحمزاوي في الروح الّتي أتى عليها التكلّس والتجمّد، مرض في أعماق النظر إلى الأشياء. طغت فيه المتناقضات، فتاق إلى جهة يسائلها "أين مصطفى لأسأله عن معنى هذه المتناقضات؟". علّة الحمزاوي تتمثّل في مراجعته المفاجئة لذاته، علّته رفض السبل الممهّدة والرغبة في امتهان العقبات وركوب الأرياح العاتية: ما الجدوى من وجودي؟ ما معنى أن أكون؟ أين الحقيقة؟ كيف السبيل إلى اليقين؟
وبدت أزمة الحمزاوي حالا من أحوال النفس عصيّة انقلب البطل بمقتضاها من الحبّ إلى الكراهيّة. ولقد كان هذا الطور الأوّل طورا قادحا لمسيرة عمر الحمزاوي الّتي جاءت لسدّ الخلّة من خلال السعي إلى اختبار مسالك مغرية بالخلاص من مرضه الّذي تضاعف بدنوّ خروج عثمان خليل رفيق نضال زمن الشباب من سجنه "وقريبا سيخرج الماضي من السجن فيتضاعف عذاب الوجود" وما يستتبع ذلك من ثورة على النفس الخوّانة وحوار طويل مع ضمير خمد منذ حين ومحاسبة ذاتيّة يجريها الحمزاوي يستمع إلى صدى دواخله ويهمس بخفيّ الحقائق المبكيات. فكيف الهرب من عذابي الماضي والحاضر؟
ومن هذا السؤال تندلع شرارة إشكاليّة مكانة الانتماء وقيمته في الحياة. فمنذ بدء النصّ الروائيّ يتملّص البطل من كلّ انتماء: الماضي والزوجة والأسرة والعمل. يلغي جميع محدّدات كيانه. وكان أوّل الطريق إلى معنى الحياة عنده تجريب الحسّ والحبّ والجنس مع مرغريت ووردة وسائر بائعات الهوى فغزا نساء الملاهي ثأرا من عنف الزوجة يغريها كلّ برّاق من متاع الدنيا وتعزف عزوفا عن السعادة الحقيقيّة تريده عبدا للأوامر البرجوازيّة وقوانين الإنتاج وبارقات الزخارف والأنموذج البرجوازيّ المقيت والعرف الأسريّ الخانق.
تلك هي زوجته زينب الحمزاوي "اكتظّت وجنتاها بالدهن، وقفت كتمثال ضخم مليء بالثقة والمبادئ، وضاقت عيناها الخضراوان تحت ضغط اللحم المطوّق لهما"، وجه الترف الماديّ والبروتوكول الشكليّ وتصنّع النجاح الاجتماعيّ في الواجهة البرجوازيّة اللمّاعة، جسّدت أنموذج الاكتمال الاجتماعيّ. طاقة تدفع زوجها إلى العمل والإنتاج لاتكلّ ولا تملّ مدبّرة حكيمة تفكّر في الاستثمار والمردود بعقليّة مادّيّة صارمة. "تزوّجت قلبا نابضا لا حدود لحيويّته وشخصيّة فاتنة حقّا وتلميذة مثاليّة للراهبات، مهذّبة بكلّ معنى الكلمة ومدبّرة حكيمة كأنّما خلقت للتدابير والحكمة وقوّة دافعة للعمل لا تعرف التواني، ونظرة ثاقبة في استثمار المال".
أسلم عمر الحمزاوي على يدي زينب إلى خضمّ الثروة عساه يتعزّى بها عن خيبة الثورة البائدة "ارتفعت في عهدها من غمار العدم إلى التفوّق الفريد والثروة الطائلة، وجدت في حرارة حبّها عزاء الفشل والشعر والجهاد الضائع ورمز الجنس والمال والشبع والنجاح". فانتشى البطل في غمار البرجوازيّة وتجلّى له اليقين وضّاحا لألاء طيلة عشرين سنة ظفر فيها بالمال والمنصب وحقّق فيها توازنا أسريّا، وكذلك بقي كائنا روبوتيّا ما زالت تجرّه الحياة بقبضتها المتينة جرّا حتّى استيقظ على شبع البطن لكن على جوع الروح وصدى النفس إلى حقيقة ضاعت وحياة أشرفت على الأفول. ولم يبق للحمزاوي إلاّ التسوّل "التسوّل في الليل والنهار، في القراءة المجدبة والشعر العقيم، في الصلوات الوثنيّة في باحات الملاهي الليليّة، في تحريك القلب الأصمّ بأشواك المغامرات الجهنّميّة."
ومن ثمّة أزمع عمر الحمزاوي على النهوض بأن يشفي نفسه بنفسه بالفعل الحرّ المسؤول دون حاجة إلى طبيب معالج "من الآن فصاعدا أنت الطبيب. فأنت حرّ. والفعل الصادر عن الحرّيّة نوع من الخلق". ومن هذا المنطلق بدأ البطل بالتحرّر من شواغل العمل والقيود الأسريّة الضاغطة الملزمة زاهدا في متاع الغرور "الفقه لا يهمّ والحكم لصالح موكّلي لا يهمّ وإضافة مئات جديدة لحسابي لا يهمّ ونعمة البيت السعيد لا تهمّ وقراءة عناوين الصحف لا تهمّ، فما رأيك في رحلة إلى الفضاء، في ركوب الضوء".
ولم يلق الحمزاوي بالا إلى يأس عثمان خليل من إمكانيّة إدراك الحقيقة بالقلب "القلب مضخّة تعمل بواسطة الشرايين والأوردة، ومن الخرافة أن نتصوّره وسيلة إلى الحقيقة، والحقّ أنّي أقترب من فهمك، فأنت تتطلّع إلى نشوة، وربّما إلى ما يسمّى بالحقيقة المطلقة، ولكنّك لا تملك وسيلة ناجعة للبحث فتلوذ بالقلب كصخرة نجاة أخيرة ولكنّه مجرّد صخرة، وسوف تتقهقر بك إلى ما وراء التاريخ، وبذلك يضيع عمرك هدرا".
ولم تفتّ هذه المعاني المتشائمة من الوعيد والنذير من حماسة الحمزاوي إلى تحريك القلب و"كلّ ليلة يذهب بامرأة من هذا الملهى أو ذاك أو حتّى من الطريق"، فتفتّح البطل على أسباب النشوة الحسّيّة في الملاهي وانخرط في لذائذ الدنيا وانفتح على جمال الوجود في الكاباريهات بشبق "زوربا" إلى افتضاض بكارة الحياة وقصف عذريّتها. ومن أجل عشيقته وردة، أقلع عمر الحمزاوي عن نداء العقل والواجب والضمير، وانساق وراء رغبة حسّيّة رعناء وجد فيها كيانه الخالص. ولقد مثّلت وردة بالنسبة إليه فسيفساء من الحواسّ أحيت فيه ميّت المشاعر "العنبر والمسك والعود قد نشرت فيه وألوان الطعام قد صفّفت ودعت بالأفواه وأطيب النبيذ والريحان قد اضوّع وفاح، فيضيء انشراحا".
وأمام إلحاح ابنته بثينة لمعرفة سرّ التغيّر الطارئ على سلوكه صارح أمّها في غير استحياء بدخول العشيقة لسدّ خلل السنين الخوالي "أجل، هناك امرأة ما دمت تصرّين على أن تعرفي. والكراهيّة نبتت في مستنقع آسن مكتظّ بالحكم التقليديّة والتدبير المنزليّ. ولا عزاء فيما بلغناه من ثراء ونجاح. فالعفن قد دفن كلّ شيء". وقسا قلبه وتحجّر "ابكي ما شاء لك البكاء ولكن عليك أن تسلّمي بالأمر الواقع".
وإلى ذلك، فقد صالحت مرغريت إحدى بنات الليل في ذات الحمزاوي متناقضاتها ووجد في حبّها منفذا من أرزاء الوجود بل وفّر له الحسّ معنى لحياته "كلّما رأيتك ازددت شهوة وكلّما ازدادت شهوتي زاد لهيبي ... ما أكثف الظلمة حولنا، تكاثفي تكاثفي حتّى ينسانا العالم وليختف كلّ شيء عن العين الضجرة، آن للقلب وحده أن يرى النشوة كنجم متوهّج".
ولكنّ وردة خاضت في خطاب وعظيّ لم يرق لعمر الحمزاوي لأنّ فيه إغراء بالعودة إلى حضن زوجته وابنته والرباط الأسريّ المقدّس والمؤسّسة المسطّرة. ولقد أدرك الحمزاوي أنّ وردة ذات مسطّحة محدودة الفكر ضعيفة المنهاج وقدّر أنّها تكتفي بالحسّ والحبّ والجنس ولا تروم اليقين الحقيقيّ "هذا يعني أنّ الحياة عندك هي الحبّ؟"، لقد فهم البطل حينها قصور وردة على الترقّي إلى أسئلة الكائن وعلى استيعاب مرضه الوجوديّ وقلق المعنى عنده وحيرة اليقين لديه ومشكل اختناقه من القرار والسكون، فطرحها طرحا ورحل عنها بلا رجعة.
وفضلا عن ذلك، سرعان ما اكتشف البطل بطلان النشوة الحسّيّة "نشوة الحبّ لا تدوم ونشوة الجنس أقصر من أن يكون لها أثر"، فأشرف على العدميّة والعبث، واستبدّت به عقيدة مفادها أنّ الجسد أوهى من أن يضطلع باصطناع مفهوم للحياة. فخامره القلق "على هذا القلب أن يهتزّ أو أن يموت. لا الشعر ولا الخمر ولا الحبّ فأيّ نداء تلبّي تلك النشوة المستعصية".
تضاعف في داخل البطل السؤال واستبدّ القلق المعرفيّ ترجمه إلى استفهامات طرحها جزافا "خبّريني يا وردة لماذا تعيشين؟ (...) خبّرني يا مسيو يازبك ماذا تعني لك الحياة؟". وهي في جملتها أسئلة إنكاريّة تتقاطع في معنى الحياة. في مدلولها عجب من القنوع بربط معنى الحياة باللهو والغيّ ما من شأنه أن يمهّد لارتحال البطل فيما بعد إلى تجربة أخرى أقوى نفاذا إلى جوهر الحياة.
يخاطب وردة: "أحبّك لكن عاودني المرض". لقد نشأ لدى البطل شعور عميق بأنّ الجسد لن يقدر على اختزال الذات الّتي عاودها المرض، فاض كيان الحمزاوي الحسّيّ وماتت فيه كلّ رغبة وعاف وردته وتحوّلت مكوّنات العالم الحسّيّ في رأيه إلى قيد آسر وقوّة جاذبة إلى الوراء تدعوه إلى العودة إلى دفء أسرته وحضن زوجته وتريده أن يسكن إلى غلالة القيم العائليّة والأعراف الاجتماعيّة والتفاصيل اليوميّة المضجرة.
فعاوده المرض وانتفت كلّ صلة له بالعالم والأشياء من حوله، وحالت حؤول متينة بين الحمزاوي ووردة الّتي ارتدّت فصارت عنده ثمرة جافّة ميّتة آن وقت سقوطها من حياته. أعياه التهيام بين الكاباريهات والملاهي وتلبّس به شعور عقيم بأنّه يدور في دوائر من العبث وخنقه دوار من الوهم والقنوط واعتراه خوف رهيب من الموت وشعور يائس بفقدان المعنى وتكسّر الأمل على ضفاف العلاقات العائليّة والجنس والخمر.
فلم يبق للبطل غير تشقيق الضجر وتجنيسه إمعانا في السآمة "ضجر يضجر اضجر فهو ضجر وهي ضجرة والجمع ضجرون وضجرات" ووعى بأنّه كسيزيف بطل الميثولوجيا الإغريقيّة في عذاب صخريّ متواصل والنهاية لانهاية، ضاق بالعشيقة فكان الرحيل إلى عشق سماويّ بديع. ضاق بالغريزة وعنفوان الجسد فكان الرحيل إلى الطاقة الروحيّة. ضاق بمحبس الفرد فكان الرحيل إلى المطلق الرحيب.
وفي "ليلة التحوّل العظيم" انفتح عمر الحمزاوي على "الكشف الأكبر" "فجأة رقص القلب بفرحة ثملة واجتاح السرور مخاوفه وأحزانه وشدّ البصر إلى أفراح الضياء يكاد ينتزع من محاجره وارتفع رأسه بقوّة تبشّر بأنّه لن ينثني وشملته سعادة غامرة جنونيّة آسرة وطرب رقصت له الكائنات في أربعة أركان المعمورة وكلّ جارحة رنّمت وكلّ حاسّة سكرت واندفنت الشكوك والمتاعب وأظلّه يقين عجيب ذو ثقل يقطر منه السلام والطمأنينة وملأته ثقة لا عهد له بها وعدته بتحقيق أيّ شيء يريد ولكنّه ارتفع فوق أيّ رغبة وترامت الدنيا تحت قدميه حفنة من تراب".
وانطلقت الرواية انطلاقة جديدة بنور قذف في صدر الحمزاوي دفع به بوجدان متوتّر في اتّجاه الكيان الروحانيّ الخالص لمّا آمن البطل بالعزلة طريقا إلى اليقين وبالفردانيّة معنى للحياة لعلّه يشفي ظمأ الاندماج في الحياة والانسجام مع مكوّناتها. "لا شيء لا أسأل صحّة ولا سلاما ولا أمانا ولا جاها ولا عمرا ولتأت النهاية في هذه اللحظة فهي أمنية الأمنيات (...) هذه هي النشوة."
واستأنف رحلته الوجوديّة في خضمّ وسيع خامرته فيه نشوة روحيّة ليست تقهر "وآمنت ساعتها بأنّ الحركة أو النشوة هي مطلبي لا العمل ولا الأسرة ولا الثراء ... هي هذه النشوة العجيبة الغامضة كأنّها النصر الدائم وسط الهزائم المتلاحقة ... وهي الّتي سحقت الشكّ والخمول والمرارة".
لقد آثر عمر الحمزاوي أن يشقّ إلى الحقيقة درب التصوّف وصمّم على مقاطعة عالم الدنيا والناس والتوجّه إلى القفر المجهول حيث لازالت الأشياء أبكارا والعوالم أطفالا، فتسرّبت إليه طمأنينة النفس لانصب يبدو ولا شكوى، فلاح له ضوء خلّب يوهمه أنّه بدأ في التطهّر من أعباء الماضي والكشف عن أسرار الوجود "شعرت بوثبة تبشّر بالنصر وشاع في صدري شعور غامر بالسعادة. وتذكّرت الإحساس الباهر الّذي سبق الرؤيا ساعة الفجر بالصحراء. ولم أشكّ في أنّ النشوة آتية بموسيقاها".
وفي حال النشوة الروحيّة تصاقبت الحقيقة والخيال، وشفّت الستائر بين الأنا والآخر، والواقع والغيب وازّيّن الوجود وامّحت الحدود بين عالم الطبيعة وعالم النفس "رقّ الظلام وانبثّت فيه شفافيّة وتكوّن خطّ في بطء شديد ومضى ينضج بلون وضيء عجيب (...) انبعثت دفقات من البهجة والضياء والنعسان (...) رقص القلب بفرحة ثملة".
لكنّ مطاردة اليقين في غمرة الروح والتصوّف لم تكن بذات بال ولم تهيّء للبطل البلسم الشافي، واستفحل الحلم بصاحبه و"ماذا يعني هذا الحلم إلاّ أنّني لم أبرأ بعد من نداء الحياة؟". ولم تستطع تجربة الزهد في الناس والأشياء أن تكشف عن جدوى الحياة، إذ سرعان ما طغت الكوابيس ففقد البطل التوازن وضاق بخلوته الصحراويّة وغلّقت دونه الأبواب واستعصى عليه التشوّف إلى اليقين وشقّ عليه هجران الحياة يتفجّر صوتها في قرارة نفسه معاتبا لائما "إن تكن تريدني حقّا فلم هجرتني؟" فعظم الداء إلى أن أيقن الطالب أنّ ما هو فيه بسبيل ليس إلاّ كإغراء الآل في قيعة.
وانغلقت الرواية على تكثّف الأحلام والرؤى وطغيان مساحة المحتمل المنشود على مساحة الموجود فكانت تقنيّة الحلم سبيل البطل لريادة طرق أبكار بمنأى عن الزمان والمكان والمنطق والواقع والأعراف. فاشتدّ نزوع الرواية إلى ظاهرة القلب الّتي طالت الأشياء والأشخاص، فاختلّت المراجع وارتبكت الدوالّ وطغى الريب بين الدالّ والمدلول ومال النصّ إلى الإغراب والتعجيب وعادت الحركة إلى مسالك عابثة ضاربة في الإغراب "تبدّت زينب برأس وردة ووردة برأس زينب ولبس عثمان صلعة مصطفى ونظر مصطفى إليّ بعيني عثمان. وإذا بسمير يثب إلى الأرض متّخذا من رأس عثمان رأسا له ثمّ يحبو نحوي".
وأمعن الحمزاوي في العبث بالموجودات وتقمّص فعل الخلق الجديد "سمعت صفصافة تترنّم ببيت من الشعر. واقتربت منّي بقرة قائلة إنّها سوف تتوقّف عن درّ اللبن لتتعلّم الكيمياء. وزحفت حيّة رقطاء ثمّ بصقت أنيابها السامّة وراحت ترقص في مرح. وانتصب الثعلب حارسا بين الدجاج. واجتمعت جوقة من الخنافس وغنّت أغنية ملائكيّة. أمّا العقرب فتصدّت لي في لباس ممرّضة" وهذه الفقرة آية في بيان احتدام التصارع بين الأضداد فيما يشبه المخاض وآية في عفاء الحدود بين الأشياء والتناغم المثاليّ بين عناصر الكون الافتراضيّ المتشجّر في المستحيل بغية بلوغ الاكتمال والتوق إلى تجربة شاملة واسعة.
لقد انتهت الرواية بضياع البطل عمر الحمزاوي في الحياة وفنائه في المعنى وولوج حالة لا يعرفها إلاّ المتصوّفة فيها من نشوة الشوق إلى تحقيق الاسترسال بين الذات والكون نصيب وفير، فاتّسعت الهوّة بين الداخل والخارج، وبين الماضي والحاضر والمستقبل، وبين الحمزاوي ومطلب اليقين، كما انغلقت المسيرة الوجوديّة على تعمّق معاني الفرقة والاستلاب والاغتراب بعودة الشحّاذ من مسيرة ملء الكيان مدحورا حسيرا. والنهاية ارتداد من الخيالات إلى الواقع عاد إثره البطل صاديا بل أشدّ صدى إلى اكتشاف ذاته والسيطرة على اليقين.
هذه مسيرة بطل الشحّاذ اعتورها التقديم والتأخير لكنّ فضل الاجتهاد في التبويب والترتيب يسمح بابتكار ضرب من التسلسل له بالتطوّر الزمنيّ لعمر الحمزاوي متين علاقة: تجربة الثورة والفنّ والشعر والنضال في فجر العمر، فتجربة البرجوازيّة والعمل والنجاح الاجتماعي ثمّ تجربة الحسّ والحبّ والجنس انتهاء إلى تجربة الزهد والاعتزال.
ولا يعزب عن المتأمّل في الحركة الداخليّة لكلّ تجربة من التجارب أن يلمح أنّ رواية الشحّاذ مأساة متكاملة البنيان توافق القانون الأرسطيّ الصارم. تبدأ في كلّ تجربة بمقدّمة هي طور الطمأنينة، سرعان ما تعقبها لحظة حافزة يتوهّج بمقتضاها الفعل الدراميّ ويتوثّب للنشوة الّتي تعتري البطل باتّجاه الذروة الّتي نعدّها نقطة فاصلة واصلة تتصارع فيها الأضداد تضع حدّا للفعل المتنامي وتحدث منعرجا في البناء الدراميّ تذوي خلالها التجربة في فعل منحدر يجسّده الفيض والرحيل والانقطاع في كلّ تجربة. وينتهي البناء المأسويّ بالإشراف على النهاية الفاجعة الكارثيّة واكتشاف وهم التجربة وعتمة اليقين.
رواية الشحّاذ: كأنّها نبذة من المسرح الإغريقيّ، سمة بطلها التمرّد والعصيان والإصرار والتحدّي، ومآله الخيبة والعجز مثل أبطال الميثولوجيا الإغريقيّة يجدّون في تعقّب الطموح والهدف متمرّدين على العراقيل متردّدين بين منزلة محدودة منقوصة مرفوضة ومنزلة منشودة تتوق إلى الإطلاق والكمال. ويتلخّص ذلك في عبث الأسئلة بالبطل واحتجاب الأجوبة، فمسيرة بطل الشحّاذ مسيرة دائريّة عابثة ملتوية كثيرة المنعطفات انعقدت على السؤال بدءا ومنتهى. في البدء يسأل الحمزاوي في عيادة الدكتور حامد صبري: "لمن اللوحة الكبيرة يا ترى؟" وفي الختام يتدفّق صوت مجهول "إن تكن تريدني حقّا فلم هجرتني؟" وبين الاستفهامين الأوّل والأخير ما يناهز مائتي سؤال أخذت في النموّ التدريجيّ بحسب تطوّر تجارب البطل الّذي دفعته اللهفة إلى ما يكون به الإنسان إنسانا إلى أن يعيش "في مقام السؤال ولكن بلا جواب".
- غلاف: رواية الشحاذ
ومتى استقام لنا هذا التصوّر، تغادر شخصيّات الرواية بعدها الاجتماعيّ الضيّق لتعانق البعد التراجيديّ المأسويّ، فتتحوّل من عنصرها البشريّ إلى قوى مجرّدة تنشئ صراعا غير متكافئ مختلّ الموازين ضدّ البطل المريد. فالحمزاوي طيلة المسيرة ينازل قوى لا منظورة قاهرة لا تغلب، ينازل الزمن ممثّلا في عثمان خليل رمز الماضي الدفين ومصطفى المنياوي رمز الحاضر المشوّه، أمّا عمر ابن مصطفى والجنين الّذي في بطن زينب والجنين الّذي في بطن بثينة جميعهم رموز للمستقبل الغامض والمصير المربك.
ويتجسّد الصراع المأسويّ في أقوى أشكاله بتمرّد الحمزاوي على السلطة بكلّ تجلّياتها سلطة العرف الاجتماعيّ ممثّلا في زينب وبثينة، وسلطة الجسد والرغبة وسطوة الحسّ متجسّدة في وردة ومرغريت وسائر بائعات الهوى، والبطل في كلّ مرّة يلوذ فرارا من سلطة الموت تتمثّل له بهيأة واحدة من الشخصيّات تجتاحه في كلّ حين اجتياحا مباغتا. وقائمة الصراع ضدّ المجرّدات تطول وتتجدّد مع كلّ قراءة جديدة لتجعل من نصّ الشحّاذ مأساة الإنسان في العصر الحديث بامتياز.
ومزيّة نجيب محفوظ تكمن في استرفاده البعد التراجيديّ المأسويّ دون تعسّف. بل يتجلّى الفضل كلّ الفضل في رفض الكاتب الضمنيّ تشكيل مأساة لقيطة مستوردة وافدة من بلاد غير بلادنا ومن حضارة غير حضارتنا تنقطع عن شواغل إنسان النصف الثاني من القرن العشرين في الوطن العربيّ. وفي مقابل ذلك اهتدى بروح الابتكار إلى استنبات المأساة من التربة المحلّيّة المصريّة بصادق خصائصها وقريب مضامينها.
وإلى جانب ذلك فلقد تميّز عمل نجيب محفوظ بتحميل البعد المأسويّ شخصيّات من لحم ودم لا كائنات خرافيّة ليس لها بواقعنا وشيجة صريحة إلاّ ما يولّد توليدا قسريّا من بعض أدبيّاتنا النقديّة الّتي تنطق النصّ بما ليس منه وتوجّهه وجهات واهية وتلوي عنق الأثر الذهنيّ الجافّ وتحمله حملا متعسّفا بدلالات اجتماعيّة وسياسيّة ما أنزل بها من سلطان.
وقد يتراءى للقارئ بون شاسع بين عنوان الكتاب ومتنه. وقد يتبادر إلى ذهنه أوّل وهلة أنّ هذا العنوان لا يعدو أن يكون إلاّ تجوّزا بالعبارة أو شطحا لغويّا ليس له بمغامرة الرواية إلاّ وشائج واهية. بيد أنّ النظر الحديد في أعماق الرواية يكشف عن شحّاذين: عمر الحمزاوي شحّاذ اليقين في مطلق المعنى متقلّبا بين مجالات معرفيّة شتّى عساه يظفر بسرّ الكيان، ونجيب محفوظ شحّاذ أدوات الكتابة الروائيّة القادرة فعلا على طرح شواغل الذهن وقضايا المجتمع. كلاهما يغامر، البطل والكتابة من أجل تشكيل الكيان والبحث عن معنى جديد للذات وللحياة.
ولم نعرف في أدبنا العربيّ شحّاذا للكتابة احتفى بشحّاذه البطل مثلما صنع نجيب محفوظ ببطله عمر الحمزاوي نصّبه أميرا على الشخوص الروائيّة لا تكاد تظهر في فضاء النصّ إلاّ بقدر وفائها إلى وجه من وجوه الشحّاذ المتبدّلة بحسب التجارب الّتي خاض غمارها. فكلّ الشخصيّات إذن أبعاد لعمر الحمزاوي ورموز له.
فعمر الحمزاوي طاغية مستبدّ على العالم الروائيّ بأدقّ تفاصيله. إنّه البطل الواحد الأوحد مهما اختلفت الوجوه وتبدّلت الألوان، هو كلّ الشخصيّات عثمان ومصطفى وزينب وبثينة ووردة والآخرون يلتقون معا في مفرد بصيغة الجمع. والكاتب الروائيّ يصرّف ملامح شخصيّاته بقدر خدمتها لإضاءة ملامح عمر الحمزاوي. ولا تحضر شخصيّة إلاّ في حدود صلتها بالحمزاوي ثمّ يلفّها الهباء تنتظر إشارة من البطل لتطفو مجدّدا على ظهر النصّ.
وبذا تعدّ الشخصيّات لعب "ماريونات" بين أنامل نجيب محفوظ يدعوها إلى ركح الرواية بشكل يرجّع صورة البطل في كلّ مرّة. فهو هم وهم هو. هم أشكال تتبدّل وهو المعنى. هو السؤال وهم إجابات مبتسرة. هم جمهور غفل إلاّ ممّا يتعلّق بشخصيّة عمر، فزينب الحمزاوي مثلا هي الوجه البرجوازيّ المترف المتخم لعمر. وعثمان خليل هو الوجه العنيف القويّ لعمر الحمزاوي الشابّ الحامل لمبادئ الاشتراكيّة التوّاقة إلى تغيير العالم. ولا نكاد نعرف من مصطفى المنياوي إلاّ الوجه التافه الخائن للمبادئ والمنطلقات بيانا لتشوّه حاضر عمر الحمزاوي. أمّا بثينة فهي استعادة لوجه أبيها الشاعر الحلوم، ووردة ومارغريت وبائعات الهوى كلّهنّ عمر الحسّ والحبّ والجنس.
ولم يكتف نجيب محفوظ ببسط نفوذ البطل على الشخصيّات الروائيّة، وإنّما مدّد هذا النفوذ ليسيطر البطل على الطبيعة من حوله أيضا. إذ ليس للطبيعة من استقلال بكيانها الخالص، فهي لا تتبدّى لنا إلاّ بحسب ما يراها البطل. وانظر مثلا إلى وثيق الوشيجة بين الحالة النفسيّة السيّئة لعمر ووصف الطبيعة من حوله "اربدّ قلبه (...) فتجهّمت الدنيا وتجلّى الخريف في الجوّ وانتشرت في أعالي الشجر اصفرار باهت وعكست قوافل من سحب بيضاء نصاعتها فوق الماء الرصاصيّ" ولا يخفى في هذا المقطع ربط السبب بالنتيجة ما يؤهّل الحمزاوي إلى الاضطلاع بوظيفة تحويليّة تفعل في الطبيعة ما يجيش في نفس البطل فتسير بها إلى الموت والضجر والشحوب والنهاية. إنّ محفوظ قد طلع علينا في هذه الرواية بفائق القدرة على فتح دواخل ذات البطل على الأشياء في الطبيعة حتّى لكأنّها منه.
والأمكنة تتشكّل كلّها بحسب إحساسات البطل الحمزاوي. وتنتفي الحدود بين الأماكن وعالم النفس. بل المكان وجه من وجوه البطل. ففي حالات النشوة تتفتّح الأمكنة وتتجمّل وتتطيّب وفي حالات القنوط تنكتم وتتغلّق. فالأماكن الّتي يطوّح بها البطل هي عصارة الانفعالات الداخليّة ومرآة واضحة صافية لما يجيش في سراديبه الروح من الخواطر والهواجس. ففي طور النشوة والراحة والمتعة تصير الأماكن رحبة واسعة متحرّرة مكثّفة. أمّا في طور الفيض والتأزّم والضيق والاحتباس والرتابة تسيّج الأمكنة بأسلاك شائكة من الرعب والقلق وتشبع بدلالات القسر والعدوان والنفور. وعندما يمرق البطل عن سلطة العرف والمركز والقانون والعادة ينفتح الفضاء على المطلق إيحاء بانعتاق الروح من السجن المطبق. بيد أنّه لمّا يقع البطل تحت طائلة السجون الاجتماعيّة والأخلاقيّة يضيق الفضاء ويتعتّم ويتهافت البنيان. بل مرّ وجدان البطل من نشر الكون النفسيّ على العالم والأشياء إلى مرحلة الخلق والابتكار من خلال اصطناع أمكنة لا وجود لها وإنّما هزّت عرصاتها في نفس البطل فقط مثل أرض النبّوّات والفلسفة الشرقيّة بلاد الهند وفارس يرتحل إليها الحمزاوي رحيلا خياليّا روحيّا.
ولا تعجب إن اقترنت الأزمنة كذلك بعالم الشخصيّة النفسيّ الداخليّ. فكلّما اجتاحت البطل مشاعر الوحشة والغربة والقلق لفّ الليل بمشيراته الزمنيّة مسرح الأحداث ليعمّق الأزمة وليدلّ على تهافت البناء واختلال التوازن. وكلّما احتدمت في ذات البطل الآمال والتطلّعات والأحلام حضر الفجر حضورا قويّا إيحاء بالولادة والخلق.
وجاءت الوسائل الفنّيّة تنشد الخلاص وتقطع مسيرة التجريب وتمتهن بكر السبيل خشية السقوط في مطبّات الكتابة الروائيّة المستهلكة أو المعارض الذهنيّة المنبتّة عن واقع الكاتب والكتابة. لقد جسّدت الكتابة صراعها وهي تجاهد كي تكون مهجوسة بالتجديد تفتّش عن كيانها وتجرّب الأشكال بحثا عن معنى يقينيّ لحياة الخطاب.
والنظرة نلقيها على البناء تسمح لنا باعتباره منطلق العدوى. فقد استمدّ البناء قلقه من الحمزاوي. لبّى البناء نداء بطله القائل في أوّل النصّ "إنّي أشمّ في الجوّ شيئا خطيرا، ويرعبني إحساس حركيّ داخليّ بأنّ بناء قائما سيتهدّم" كأنّ البناء ائتمر لأمر البطل، فراح ينهدم تلقائيّا ويعبث بكيانه عبثا رهيبا. وآية ذلك تنكّبه عن المسار الخطّيّ الّذي تواضعت عليه الأدبيّات السرديّة، فلقد جاء البناء مختلفا غريبا يأبى الالتزام بسنّة البنية الثلاثيّة. بناء الرواية ضليع بطله مسكون بالتطاول والجموح وشوّشت الكتابة التراتب وعبثت بالتلازم وأقصت منطق الوحدة العضويّة.
واللبنة الأسّ للبناء جاءت متصدّعة متشقّقة خرق خلالها الكاتب الاستهلال الأليف في هذا الضرب من الكتابة. فانفتحت أبواب الرواية عمّا يسمى بالتوتّر أو بلحظة التأزّم الّتي عادة ما تتوسّط سيرورة سرد الأحداث في الأعمال "الكلاسيكيّة"، ثمّ تشظّى النسق السرديّ في اتّجاه الماضي والمستقبل معا بأفانين الاسترجاع والاستباق.
وقد يشقّ على الكاتب الغضّ هذا النوع من البناء لما يستوجبه من وافر الجهد في وصل الظواهر بعلاّتها واستحداث منطق خاصّ لاسترجاع الأسباب واستشراف النتائج دون المساس بالوحدة العضويّة للمعنى. غير أنّ نجيب محفوظ قد أبدى براعة متناهية في استنبات النظام من داخل العدول بل يسّرت الكتابة لنفسها التسلّل السريع إلى منعطفات العالم الروائيّ دون عسف قد يغبن القارئ متعة ابتناء عالم الحمزاوي ابتناء ذاتيّا خالصا.
والسرد من معدن الحمزاوي قلق متفتّت لا يحفل بنظام، متداخل الأنساق، سريع التقلّب. ممزّق الأحداث، يتخلّى في غالب الأحايين عن المتابعة الآنيّة للأحداث في خطّيّتها ليعود السرد إلى ماضي الشخصيّة المحوريّة مسايرة لتيّار الوعي الباطن للحمزاوي أيّام الشباب زمن النضال ثمّ سرعان ما يجوز إلى المستقبل لاستشراف الممكن من الأحداث على مقول الحمزاوي تشوّفا للمصير وتطلّعا لتجاوز الأزمة الخانقة وتنبّؤا بما سيؤول إليه في كلّ محطّة من مسيرته الوجوديّة.
ولعلّ من آي الذهول الغفلة عن تصدّع بنية الضمائر في رواية الشحّاذ وخضوعها إلى منطق مشوّش محتدّ التضارب. إذ يلقى القارئ عقبة كؤودا في تحديد ضمير السرد الّذي يبقى متملّصا عنيدا يتأبّى عن التحديد، فهو تارة ضمير الغائب "هو" وطورا ضمير المتكلّم "أنا" وتارة أخرى ضمير المخاطب "أنت". لكنّ هذا التلاعب بالضمائر يستنكف عن أن يكون مجرّد ظاهرة فنّيّة جماليّة عليقة بالشكل. وإنّما يتجاوز ذلك ليصير برهانا ساطعا على توتّر البطل وتداخل الأشياء في ذاته وتصادم الوجه والقفا والأنا والآخر والماضي والحاضر. والرأي عندنا أنّ ظاهرة تداخل الضمائر لا تعكس اغتراب الحمزاوي وانفصامه بقدر ما تكشف عن رؤية نجيب محفوظ الذهنيّة الّتي تتوق إلى محو الفواصل المزعجة وبناء كون التآلف والتناغم والتصاهر والوحدة في أعماق الأشياء رغم ظاهر التمزّق.
واتّسم الوصف بدوره بالسرعة في العرض وبالقفز غير المبرّر مجاراة لنسق البطل، فهو تارة مكثّف مغرق في التفصيل كوصف لوحة الطبيب وتارة أخرى شتات سطحيّ عابر نزر قليل لا يبلّ الغلّة. وهو حينا يحفر في أعماق الشخصيّة محتفلا بالأجواء النفسيّة وحينا آخر يأتي على العناصر الخارجيّة كالمكتب والملاهي والصحراء.
وحضر الحوار حضورا مطّردا في الرواية ينمو شيئا فشيئا في الفصول الأولى فتتنامى معه معاني الفرقة والمباعدة والوحدة والاغتراب بين الحمزاوي وسائر الشخصيّات لـما حملته الطرادات من أشكال المصادمات والتعارض، وسرعان ما يتقلّص حيّز الحوار النصّيّ داخل الخطاب وتتناقص مقاطعه ويتقلّص حضوره ليضاعف الهوّة بين البطل والشخوص والأشياء من حوله.
بيد أنّه في المقابل اتّسعت رقعة الحوار الباطنيّ واستطالت وامتدّت لتغزو متن الخطاب فتعكس توتّر البطل عاد على ذاته يحاورها كقوله معاتبا "وأرهقك الصمت وألحّ عليك الحرمان، وفتح الحبّ ذراعيه، وأثبت الشعر أنّه لا قدرة له على الامتلاك" ولا يخفى أنّ هذه التقنيّة في هذا المثال تشطر الذات شطرين وتدفعها إلى التصادم بين الحاضر المأزوم وماضي الشعر والفنّ. والحوار الباطنيّ مثّل بالنسبة إلى البطل ملاذا من المواجهة وسدّا لعجزه على المجاهرة بصوت مرتفع أمام ذاته وأمام الآخر وأمام الضمير.
وعدلت الكتابة عن الواقع وتاقت إلى الحلم والرؤيا هازئة من أسوار الأزمنة والأمكنة والأعراف. بل إنّنا نعدّ الشحّاذ من أروع الروايات استخداما لتقنيّة الحلم. وليس أروع من هذا المقطع تعبيرا عن الإبداع في الإقامة في عالم خياليّ يطفح بالعبث الوجوديّ "فانحسرت هالة من الظلام عن رجل عار وحشيّ الملامح مسدل الشعر حتّى المنكبين، يقبض بيمناه على عصا من الحجر الصلد ويتحفّز للقتال. ووثب نحوه وحش لم تره عينيّ من قبل كأنّه تمساح ولكنّه يقوم على أربع أرجل طوال وله وجه ثور. ودارت بينهما معركة دامية انتهت بسقوط الوحش وتراجع الرجل مترنّحا والدماء النازفة تخضّب وجهه وصدره وتسيل فوق ذراعيه، ولكنّه رغم آلامه ابتسم" وعسى هذا المقطع الروائيّ أن يجسّد ولوج الحمزاوي إلى مضارب عجائبيّة غرائبيّة تشي برغبة البطل الوجوديّ الباحث عن اليقين في كسر المألوف من المواضعات والأعراف والحدود بغية ملامسة وحدة الوجود في عذريّتها.
"وقلت له: تصوّر أن تكسب القضيّة اليوم وتمتلك الأرض ثمّ تستولي عليها الحكومة غدا. فهزّ رأسه في استهانة، وقال: المهمّ أن نكسب القضيّة، ألسنا نعيش حياتنا ونحن نعلم أنّ الله سيأخذها؟" تفجؤك هذه السطور أينما جبت في عالم الرواية. نصّ نواة يختزل رواية الشحّاذ بأسرها. هو نصّ داخل النصّ. هو جزء ينوب عن الكلّ. هو هاتف وكلّ الرواية رجع صدى. هو موّال والشحّاذ الأغنية. هو الإيقاع والشحّاذ القصيدة. هو البداية وهو النهاية والخضمّ. يتعاود هذا النصّ القصير المشحون المكثّف في كلّ حين. تفجؤك في ساعات قنوط البطل وفي طور الأمل والتطلّع حكمة قرويّ بسيط لم يتعلّم الفلسفة في المدارس كلامه كأنّه الوحي وألذّ ما فيه الاستفهام الإنكاريّ الّذي يعكس وعي الفلاّح الثابت أنّ الوجود عبث وأنّ لغز النهاية أدقّ من أن يشفّ وأنّنا نبني للخراب، ومهما كانت الخيبة ثقيلة المهمّ في كلّ ذلك شرف التجربة "والمهمّ أن نكسب القضيّة" وأن نناضل من أجل الاختيار نضالا حرّا مسؤولا وأن نجهد في طلب المعنى طلبا حثيثا في مجالات شتّى من هذا الوجود. ها هي الحكمة الحقيقيّة، ها هو اليقين، وها هو معنى الحياة وجوهر الوجود يقرع ذهن الحمزاوي في كلّ مرّة. ومازال المثقّف يبحث عن المعنى الأثيل للحياة في التهويم الفلسفيّ وفي الأشياء المجرّدة البعيدة دون أن يدرك أنّ كنه الحياة الحقيقيّ يأتي على ألسنة البسطاء والناس العاديّين الّذين صارعوا الحياة فعلا فقبضوا عليها في عقرها وما هجروها "وإن تكن تريدني حقا فلم هجرتني؟" صوت الحياة تفجّر في قرارة نفس الحمزاوي وألذّ ما فيه ضمنيّ الإغراء بالإرادة وبالإقبال على الحياة.