عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

سالم ياسين - لبنان

كلمات في جدران لاجئة


هناك نشأت، في مخيّم للّاجئين الفلسطينيّين، بين أحد عشر أخا وأختا، والشّمس والقمر، في مسكن من ثلاث غرف، وسقف من صفيح، كان وراء اختبائي خلف صوت خافت يكاد لا يسمع، ويكاد أن يختفي في أيام الشتاء، فصوت ارتطام المطر على السّقف، وضوضاء الحشد والحشر تخنق الأصوات الخافتة وتمنعها من وصول مبتغاها.

ولدت في العام التّاسع قبل اشتعال الحرب الأهلية اللبنانيّة، والتي كان فيها للفلسطينيين حصّة كبيرة، وقودا ونارا، وعشت لهيبها رهين المخيّم بين حدود بيت أم أنور إلى خلّة أبي نعمة. صور للشّهداء تعرّش على الجدران وقوفا، وأصداء مكبّرات الصوت لأناشيد ثوريّة تمتزج في ذاكرتي، بين هدير "بوسطة عين الرمانة" ورزمة العيون في الصورة المحدّقة بالمارّة، لطنين كلمات تقول: "يبقى شعبي فوق الأرض، وتبقى ثورتنا حمراء."

أيام الطفولة والمراهقة قضيتها بين أزقّة المخيم، حيث نشأت أحلامي وأزهرت عواطفي وطموحاتي بين كتل الإسمنت والحجارة القاتمة والرّطوبة الثّقيلة على الصدر والقلب.

وهناك شهدْت أيّام الحرب والموت والحزن. وعشت أيّام السّلام والحب والقبلة الأولى. وردّدْت أغنيتي باختناق مع الشّيخ إمام في ليالي السّهد تحت شجرة التّوت:

يقول الشّاعر المجروح فؤاده = = من الأنذال ومن عشق الصّبايا

غرامي في الحروب يسبق سلامي = = وأملي في الشعوب يخلق غنايا

وعشقي للكلام غالب سكوتي = = وكرهي للسّكات جالب شقايا

في المخيّم، وقبل أن أعرف يساري من يميني، عرفت اتجاهات الطرق في الأزقة من أنابيب المياه البارزة، وسرت في شتى الاتجاهات مع امتداد "مجارير" المياه الآسنة المكشوفة في تلك الأزقّة التي طالما غالبتها وأنا فتى، لأمرّ بعربة أكياس طحين الإعاشة، فغلبتني وغلبتها مرة بعد مرّة.

وهناك، في مدارس وكالة الغوث، تلقّيْت دراستي الابتدائية والمتوسّطة، حيث بدأت ألمّ بالكتابة والقراءة، ما مكّنني من ملاحظة الكتابات على الجدران الباردة بإدراك جديد. لم تعد تلك الكلمات الرّموز طلاسم تلتصق بالحيطان منذ الأزل، وتلد كل يوم نقوشا جديدة أكثر بريق، وفهمت أنها كلمات جريدتنا الشعبية الحرة، وكلما عشنا حدثا، يصرخ أحدنا صمتا بكلماته على أحد الجدران، بعفوية كلمات قد تحمل أحيانا أخطاء في القواعد أو الإملاء.

الأصوات الخافتة، تسمع على جدران البيوت ذات الصفيح. كلمات يختفي توقيع صاحبها برقابة ذاتية، لكنها صادقة كاملة المعنى، باختلاف الجريدة الرسمية، حيث تذيّل الكلمات العجاف بأسماء فاخرة وتحت رقابة أمنيّة لمحتوى مخادع وغير مكتمل.

كلمات الجدران ترتبط بالناس، بالزمن وبالأحداث. ولكن لماذا على الجدران؟ وما هي الجدران في المخيّم؟ أهي فقط أسس بناء للسّكن كما عهدنا أصول المدنيّة والرقي بعد خيام اللجوء والأوتاد؟ إن كانت كذلك، فلماذا تختلف كل الاختلاف عن كل جدران الدّنيا؟

لطالما امتلكت شعورا أن جدران المخيم حية ترزق، تولد وتموت، وتنمو عشوائيا كشجيرات العلّيق، في أبعاد تتنافى مع كل فنون العمارة المعهودة، وبعيدة كل البعد عن "كان ياما كان في قديم الزمان" وقصصنا الشرقيّة التي ترقد بسبات أهل الكهف لآلاف من الأماني في قعر "فانوس علاء الدين".

ممنوعة من الانتشار توسعا أفقيا بحكم القيود وحرس السّلطان، فتنمو جدراننا عاموديا، من الأرض باتجاه السماء، بعكس اتجاه أمطار رحمة الله، أو تغوص عميقا في الأرض لتشكل قبر شهيد، أو ملجأ لطفل في أزمنة الحرب.

للجدران هنا ثلاثة أوجه. الوجه الخارجي المخدّش بالكلمات، والوجه الداخلي المزدان غجريا بصور الشهداء وكلمات الرب والشعارات الثورية، ووجها الجدار يتكئان على أكتاف تتكئ على أكتاف، لتشكل بُعدا ثالثا للأزقة، التي تتشابك خطوطا ودوائر مختلفة، حيث تغيب الطرقات عن إدراك العين ليدركها فقط القلب الذي يألفها ألفة الأوردة والشّرايين.

في مخيم شاتيلا كتب أحدهم: "فلسطين يا جرح الزمان الدائم."

وكتب آخر في مخيم البداوي: "أحبك" مع رسم لقلب ينزف دما، ووردة بلا لون، والأحرف الأولى لأسمي العاشقيْن، بينهما خريطة البلد الضّائع في وعي من الزمان وعيون الأنظمة الفارغة.

ثالث كتب في مخيم الرشيدية: "يا جماهير شعبنا ثوروا لتحرير فلسطين."

الجدران هي ذات الجدران، وإن اختلفت الكلمات من مخيّم لآخر فإنها تصب في نفس البحر. وكل جملة خطت بسواعد الرجال كانت بمثابة "البيان رقم واحد" أو مسوّدة وصيّة استشهاد لصاحبه، أو للحدث أو للجدار أو للكلمات نفسه، ليبقى المعنى في أعماق ذلك البحر. فلسطين يا "بحرنا الميت" الهائج المائج أبدا. "وإن متنا فلا نرتدّ عن عينيك، بل إنا إلى عينيك نرتدّ."

الأطفال في مساكنهم "يخربشون" كلمات على الجدار من الدّاخل، وبحكم "التطور والارتقاء" الطّبيعي ينتقلون لاحقا للوجه الخارجي. تعلّق هذه الكلمات أيقونات على جدران "الزّواريب"، التي يتوه فيها كل غريب شاعرا بالدّوار في تجواله بعكس عقارب الزمن. و"يا ساير يا داير يا بو المفهوميّة، ما فيش لك دليل غير عيون الكلام."

الجدران في المخيّم محكومة بالموت، بالسجن حصارا بحدود ثابتة لعقد إيجار لم يلحظ ببراءة مصطنعة من طّرفي الاستضافة والإغاثة، كيف يُفرّخ الناس بعد "مائة عام من العزلة"، أو تسعة وتسعين عاما كي لا يُضْحي مُلكا بحكم القانون الغبي لأمّة ترى الغد في مجد أمسه، مقابل مشعوذين يبنون الماضي حاضرا في كرات البلّور لمئات من "سنوات التّيه" القادمة.

هذه الجدران الصامتة المتشدّقة بالكلمات بشارة ونذير، تحفظ كل أسرارنا، بدءا بهمسات الحب التي تشكّل حياتنا، وانتهاء بوقوفها شواهد على أضرحة موتنا الصامتة.

تبقى الكلمات وشوما غائرة على السّواعد أو الجدران، بين نكسة ونكبة وهزيمة ومجزرة وعشق وثورة، في زمن مهزوم يمنّي النّفس بـ "حق القسم تحت ظل العلم". وتبقى الكلمات في ارتحال مضن يأخذها من الصّدور إلى جدران بلا سطور، مرورا بكل الحنين الغاضب والآمال المتكسّرة.

كل منا يعيش بطريقة مختلفة، ويحمل مشاعره وطرقه الخاصة للتعبير. الحرب تفرّق بين الناس، فهل تفرّق بين قلوبهم؟

القلوب يلتئم شملها بإنعاش تلك الكلمات التي تذوي أبدا على جدران اللجوء، حين نقرئ السّلام كلماتنا الموءودة، عسى أن تنفخ فيها الروح، فتعيد شبك القلب بالقلب، حينها فقط يُسمَعُ نبض الكلمات جهرا بصوت يعلو فوق كل الحدود، ويدرك العالم أجمع: "نحن نكتب، إذا نحن موجودون."

= = =

شاهد فيديو قصير من إعداد سالم ياسين عن زقاق المخيمات في العدد 21.

D 1 تشرين الثاني (نوفمبر) 2010     A سالم ياسين     C 0 تعليقات