هادي اسماعلي - تونس
مأزق العرفان ومحاكمة الميتافيزيقا
تقديم لمسرحية شهرزاد لتوفيق الحكيم
"لا معنى للحياة غير مكتوم سرها مطلوبا فممتنعا"
المقتطف من كتاب "من أيام عمران"
لمحمود المسعدي (مفكر تونسي)
شهرزاد منعطف حاسم في مسيرة المسرح العربي، بلْه في منجز توفيق الحكيم الإبداعي نفسه على امتداد مسيرته الفكرية وتنوع المدارس التي تقلب فيها. فلقد خلصت شهرزاد التوجه المسرحي من خصائص الملهاة وبعدها الترفيهي وعناصرها الفكاهية، ومن المغامرات المألوفة ذات المفاجآت المفتعلة والنهايات الكلاسيكية، ومن فنون الإثارة التي تتجلى بقوة في المسرح البوليسي الذي استشرى في بدايات القرن العشرين، فضلا عن تخلصها من رواسب الفن السهل السريع التي بقيت عالقة بالإبداع أمدا طويلا.
شهرزاد من الفرائد إلا أن على مناظرها السبعة من سيماء النسب للإرث الفكري والتعبيري والروحي الكوني الكثير. إذ لم أواجه في شعاب الإبداع نصا جمعة لنصوص ثقافية متنوعة كنص شهرزاد، تجلت لي ملامحه مزدرعة في مسرح تشيخوف الكاتب الروسي الذي يحفر مسرحه في البعد النفسي العميق باعتماد خطابات عادية بسيطة، ومسرح شكسبير الذي تحول فيه الصراع الدرامي من خارج الذات بين الإنسان والآلهة أو ما شابه ذلك إلى صراع داخلي في نفس البطل، ومسرحيات كورناي وراسين التي يقوم فيها الصراع التراجيدي بين الإنسان وقوى غيبية لا منظورة كالعاطفة مثلا.
واتسعت مسرحية شهرزاد لشظايا الأساطير القديمة والحكايات الشعبية والدينية، فاحتوتها وحولتها. فلقد لاحت لي قسمات إيزيس آلهة البعث في الحضارة المصرية القديمة التي بعثت زوجها أوزيريس بعد أن قتله أخوه وألقى به في نهر النيل، في شخصية شهرزاد التي بعثت زوجها شهريار بعثا جديدا من مستنقع الهمجية والدموية إلى رفعة التأمل والعقلانية.
وبين شهرزاد المسرحية وحرائر الأقاليم والأحقاب السالفة تماثل في السير والمواقف. فلكأنها الصنو. إذ تراءت لي شهرزاد وقد رحل عنها زوجها طلبا للمعرفة في صورة شبيهة بـ"بنيلوب" اليونانية تنتظر عودة زوجها المختفي. وتارة تلبس شهرزاد لبوس فينوس آلهة الحب لما تملك على كل الشخصيات المسرحية القلب والفؤاد والمهجة وتختلس من قلوبهم حبا جنونيا. وتارة أخرى تتبدى بهيأة بخوس آلهة الإباحة متى أظهرت براعة في صنع استراتيجيتها المتقنة في الإغواء وإباحة مشاعر الصفاء لعشاقها. أما وهي تتفنن في مراودة العبد، وسيدها الملك غائب فتضارع امرأة العزيز بطلة الحكاية الدينية التي حوتها الكتب السماوية.
حافر يقع على حافر، وشهريار والساحر كأنهما فرعون ذو الأوتاد وساحره هامان. وهما في الحكاية الدينية كما في المسرحية من معدن الجبروت والرهبوت. ولاح شهريار، وهو يراجع مقترفاته ويتشوف إلى المصير بعد أن سئم إفناء أجساد العذارى، مثل هملت واقفا على رأس يورك. ثم امتهن شهريار الرحيل فبات رحالة من أبطال أدب الرحلة في موروثنا الثقافي العربي والكوني بإطلاق أو مثل سندباد الحكاية الشعبية يهوى الترحال في طلب سر عظيم ليس يدرك إلا بعد ضنى. ولشهريار بنرسيس الميثولوجيا الإغريقية صلات قربى لا ترد. فشهريار صنو عاشق وجهه في المرايا تاه بنفسه يختال فظن المعرفة ملْك يمينه وسر الحياة هينا كما يتهيأ له، أغرته أوهام النرجس وأضلته عن الوجوه الأخرى الممكنة لحقيقة سر شهرزاد المتحجب، فارتد إلى الخسران. وما أشبه مأساة شهريار بمأساة مجنون ليلى والحلاج والرومي. كل يطلب الفناء في الآخر عشقا ينتهي إلى أقصى تخوم المعرفة، لكن حؤولا شتى تحول دون هذا المطلب العزيز.
ولا مراء أن هذا الأثر المسرحي الفذ قد أضحى قاعا استنبت فيه الحكيم، تحت ضغط الإلهام، قسمات تراثية أجْلاها صورتان متناقضتان مستنسختان من أدب القرن الأول في الحجاز أشعارا وأخبارا. أما الأولى فصورة حية لملامح منظومة قيم العفة في الشعر البدوي مثلها الوزير قمر المحب العذري لسيدة القصر شهرزاد. وأما في الطرف المناقض تماما فصورة مفضوحة للمغامرات العاطفية الإباحية التي تطالعنا في أشعار عمر بن أبي ربيعة وأخبار وضاح اليمن ومن لف لفهما، جسدها العبد الخسيس يغتصب فراش سيده في غفلة منه، والكل نيام.
ولا يعزب عن الناظر في مجريات أحداث هذا العمل الدرامي أن يلحظ أن ذا النص المسرحي جملة من النصوص الفلسفية بعضها بسبب من بعض وبعضها يستوي تكوينه من أشلاء ما سبقه. يطالعنا النص محملا بملامح الفكر الفلسفي النيتشاوي أثناء تصور العوْد الأبدي الحاضر بشدة في المسرحية، إلى جانب الحضور المعلن لفكرة الإنسان الأعلى النيتشوية التي جسدها شهريار وقد استوى ربا للكون متحررا من ربقة النزعات الإنسانية.
وعسى هذا أن يدل على التعاضل بين النصوص الفلسفية والتقاطع بينها في صلب مسرحية الحكيم. وذا يتعزز أيضا باستحضار نظرية برغسون التي تعطي مكانة كبيرة للحدس في حقل المعرفة. ومن ثمة كان دوران المسرحية على قيمة الحدس باعتباره مصدرا أساسيا للمعرفة متجسدا في الوزير قمر المؤمن بقدرة القلب على امتلاك سر شهرزاد سر الحياة.
كما نسجت المسرحية علاقات متشابكة مع فلسفة ديكارت التي نادت بفصل المادة عن الشعور، وأفكار الفلاسفة الذين انتبهوا إلى صراع العقل والمادة أمثال أفلاطون وشبنهاور. وقد تجسد الفصل في المسرحية بين هذه المكونات: المادة والشعور والعقل، كأروع ما يكون في صراع درامي تراجيدي أجراه الحكيم بين الغريزة الجسدية ممثلة في العبد وقوة الشعور بالحب الروحي ممثلة في الوزير قمر والطاقة العقلية في شهريار. ويبقى الرهان على اختلاف السبل امتلاك الحقيقة واليقين والسيطرة على المعرفة بسر الحياة سر شهرزاد.
وعسى التنافذ بين مسرحية شهرزاد والنصوص المتوارية في أحشائها أن يعبر عن التقاء حاجات جمالية وفكرية في مفرق ما داخل حرم الكتابة الإبداعية. على أننا لا نتردد في الجزم بأن النفاذ إلى أعماق هذه المسرحية يبقى رهين الإلمام بنظرية توفيق الحكيم التعادلية التي وضح معالمها في مصنفه النقدي الأشهر "التعادلية".
ولعلنا نهضم نص شهرزاد حقه إن قرأناه معزولا عن الخطاب النقدي الحاف به. فلا ريب أنه قد التقى الإبداعي والنقدي في هذه المسرحية كأحر ما يكون اللقاء، وطفق الحكيم يجري مبادءه في التعادلية إجراء لطيفا في ثنايا الخطاب المسرحي. وليس يفسد لذة القراءة على قوم مثل بصر كليل يعرض عن ضرب من التفاعل بين الخطاب الإبداعي والخطاب التنظيري لكتاب جمعوا بين هاتين الصناعتين جمعا مثيرا مثلما صنع توفيق الحكيم.
وموجز التعادلية عند الحكيم هو الرد على مذاهب حديثة تقيل القوى الروحانية وتطلق العنان للقوى العقلية. وتأتي التعادلية لتصنع توازنا صعبا بين العقل والقلب أو المنطق والإيمان. ويعد القضاء على إحدى هاتين القوتين تعطيلا للملكات البشرية. إنه التعادل بين العقل والقلب داخل الكيان في عصر شاع فيه تغليب العقل على المحركات الوجدانية العاطفية. "فالقلق السائد في النفوس اليوم مبعثه هذا الاضطراب في ميزان التعادل بين العقل والقلب ... بين الفكر والإيمان".
وعلى ضوء نظرية الحكيم في التعادلية تراءى لنا تأويل مسرحية شهرزاد باعتبارها شرفة تطل على معنى الحياة وعلى جوهر الإنسان بطاقاته المتفككة: العقل والشعور والغريزة. شهرزاد مسرحية الاستفهامات المتنوعة دون جواب. شهرزاد مسرحية الحيرة في علل الأشياء ودهشة البحث في العالم عن معنى للحياة يقيني يشفي من ظمأ التسآل. هي مأساة التردد بين المتناقضات الجهل والمعرفة، والشك واليقين، والسماء والأرض، والوعي والشعور، والجسد والعقل.
شهرزاد تعيد الاعتبار إلى العقل والفكر العميق والتبصر الحديد في أمهات القضايا الذهنية وتتميز بالرؤية الفكرية العسيرة الثاقبة. تفضح في باطنك عشق الحياة وآفاق الوجود وتضع الإصبع على جرح غارز في صميم الإنسان، وهو مأزق العرفان. وتتناول بجرأة منقطعة النظير اصطراع العقل والشعور والغريزة في ذات الإنسان. وتقف على نسبية كل مصدر من مصادر المعرفة وعلى تعذر إدراك الحقيقة من زاوية نظر واحدة جزئية متطرفة.
- غلاف: شهرزاد
إن هذه المسرحية تضع أوهام الميتافيزيقا في قفص الاتهام. فتدين العقل الميتافيزيقي الذي يمثله شهريار، وتحكم على القلب الميتافيزيقي بالخيبة والخسران متجليا في انتحار الوزير قمر، وتتهم الغريزة الميتافيزيقية ممثلة في قبح العبد وخيانة أمانة سيده شهريار. وبذا نفهم لطيف إغراء توفيق الحكيم بضرورة توحد سبل المعرفة بغية بلوغ المعنى الحق للحياة. والبديل الحسم للوهم الميتافيزيقي هو الوعي بحتمية التعادلية في الوجود وبناء إنسان مصهر تتقد في داخله طاقات متنافرة غير أنها متكاملة لا غنى للواحدة منها عن الأخرى، خليق بالإنسان الجمع بينها وتوحيدها والاستفادة منها في الْتمام شتاتها بغية التماهي مع الحياة وتقمص معناها الأثيلي الصافي.
شهرزاد خرافة بارعة السحر وضعتها خرافات ألف ليلة وليلة. فتمخض "أدب صغير" من "أدب كبير". فإذا هو بناء تراجيدي بارع التجلي: مقدمة احتفالية يقفوها انقداح سر شهرزاد يتولد عنه رحيل شهريار طلبا للمعرفة. ثم يتأزم المساق التراجيدي بخيانة شهرزاد لزوجها الغائب، انتهاء إلى الفاجعة الكارثية التي تنغلق على وقعها التراجيديا الشهريارية. فقر مترابطة متسلسلة، وبطل تراجيدي تتطارحه الأهواء وتتناوبه الأرزاء وتشكل عليه مضنيات الذهن من حارقات الأسئلة وأقذاء التصورات المتطرفة. فيقطع ثنايا متعرجة يتحدر بها إلى مأساته من ملك يقطن برجا عاجيا وعرينا فاتكا إلى إنسان قلق حائر، فغير مبال لا يهتم لشأن زوجة تخون وشرف يدنس، فمتطرف يئس من سر شهرزاد فارتد شقيا.
ولم تطالعني فيما قرأت من أدبنا العربي فاجعة مدهشة كفاجعة شهريار. ولم تطالعني شخصية عانت أفانين الشقاء مثلما عانت شخصية شهريار. كان من أول أمره ملكا مخدوعا فاجأ امرأته الأولى بين أحضان عبد خسيس فقتلهما. فتشكلت في ضميره عقدة هي خليط من السادية والمازوشية سار بمقتضاها في النساء ينكحهن ليلا ويذبحهن عند الصباح، يفني الأجساد إفناء ويأكلها أكلا في حالة فريدة من الخبل وفي اندفاع ثأري تضمحل عنده الحدود.
كان شهريار يتحرك داخل الجزء الطيني ولا تشفيه إلا الرغبة، كائنا بوهيميا يغرب في تعاطي ألوان الحس ومصاص دماء يتطرف في التعنيف. كان يظن أنه يحيا غير أنه ميت بل "كان أكثر من ميت. كان جسدا بلا قلب ومادة بلا روح". ومازال ينهل من المتعة الجنسية وأفانين الحس إلى التخمة حد الامتلاء ثم يقطع الرأس ويسفك الدم ليمسح عارا سكن في ذاكرته، حتى لكأن به مسا.
لقد اضطرم في شهريار أوار الجسد اضطراما، يتبرج في الكون المطلق ولا يتساءل عن مبررات الحياة وشروط الوجود. ولم يدر بخلده يوما تقييم ما هو فيه بسبيل من شديد العبث بالأجساد إلى أن تحول شهريار جسدا بلا روح وشهوة عارمة بهيئة إنسان وشبقية لا تدفع ولا ترد.
وبينا هو مغرب في غيه متطرف في سلوكه أتى عليه عهد من التيه والضياع والبحث عن معنى الحياة توقفت فيه صلته بمن حوله، وذهل عن كوم اللحم ولعبة الأجساد، وآثر الانسحاب والإصاخة إلى صوت العدم، يتشرب وشوشة الصمت، ويتشظى في ركام العذراوات الميتات. يعاني مأزق العرفان في صمت كصمت الأموات. ولا يرى إلا في الركن الأيسر من الشرفة جامدا تارزا كأنه عمود بناء يدمن النظر في السماء مثل عبدة النجوم.
لقد صفعته حكايا زوجته الأخيرة شهرزاد صفعة موقظة وأنشأته إنشاء جديدا. نفذت كالسحر إلى سواكنه المتحجرة، فدفعته دفعا إلى الإشفاق والرثاء، فتكشفت له أوهام الثأر الزائف والانتقام العابث إلى أن سئم الوحش افتراس الأجساد ولون الدم وطعم الظلم. فارتد عن سبيله الأول. فإذا هو "آدمي استنفد كل ما في كلمة جسد وكل ما في كلمة مادة من معنى وقد استحال الآن إلى إنسان يريد الهرب من كل ما هو مادة وجسد". فاض عن بعده الحيواني الغريزي فصرخ في عمق الوجود "شبعت من الأجساد ... شبعت من الأجساد ... شبعت من الأجساد".
أخرجت شهرزاد زوجها شهريار من همجيته وعماه وجنونه "السادي"، وخلصته من العصبية الدموية، ودفعت به دفعا إلى مدارات الأسئلة الوجودية المحيرة، وزجته في إشكاليات تمثل الحياة واستكشاف اليقين. منذ حلت بالقصر وهي تقاوم الجهل وتقدح سؤال المعرفة في سائر الشخصيات الذين ينظرون إلى الحياة من كوى مختلفة. ومنذ حلولها سلبت الألباب وصارت أنشودة الملك شهريار والوزير قمر والعبد. بيد أنها أوصدت عليهم الأبواب وتسربلت بالغموض وتمنعت ونفرت حتى ملكت عليهم مجامع قلوبهم. فصاروا يلهجون بها ويتسابقون للحظوة وحسن المنال. وما زالت شهرزاد تتفنن في الإغواء، تصد وتبدي، وتكر وتفر، حتى صار الثلاثة عشاقا لسر شهرزاد: الملك ووزيره وعبده.
"أليست قصص شهرزاد قد فعلت بهذا الهمجي (شهريار) ما فعلته كتب الأنبياء بالبشرية الأولى". إن شهرزاد هي المصقل وهي المحك. ولقد كان لها أثر جسيم في التحول الطارئ على شهريار. وهي قداحة حالة الوعي التي عاجت بشهريار عن مسيرته الدموية وبعثته بعثا جديدا "من طور اللعب بالأشياء إلى طور التفكير في الأشياء".
ومن فرط عمق حكايات شهرزاد وقوة بعدها الذهني باتت عند شهريار شكلا من أشكال المعرفة المطلقة، وتورط في عشقها تورطا، وانبهر بها انبهارا، ورأى فيها أنموذج الكمال. يناجيها مناجاة المتصوف في ديره "هي السجينة في خدرها طول حياتها تعلم بكل ما في الأرض كأنها الأرض. هي التي ما غادرت خميلتها قط تعرف مصر والهند والصين. هي البكر تعرف الرجال كامرأة عاشت ألف عام بين الرجال، وتدرك طبائع الناس من سامية وسافلة. هي الطبيعة لم يكفها علم الأرض فصعدت إلى السماء، تحدث عن تدبيرها وغيبها كأنها ربيبة الملائكة، وهبطت إلى أعماق الأرض تحكي عن مردتها وشياطينها وممالكهم السفلى العجيبة كأنها بنت الجن".
وبلغ من هيامه بسماتها الطرازية أن بوأها منزلة عجائبية. وباتت في ذهنه الحقيقة العظيمة، بل رمزا للعرفان "أنت تعرفين. تعرفين كل شيء. أنت كائن عجيب، لا يفعل شيئا ولا يلفظ حرفا إلا بتدبير، لا عن هوى ومصادفة. أنت تسيرين في كل شيء بمقتضى حساب لا ينحرف قيد شعرة كحساب الشمس والقمر والنجوم. ما أنت إلا عقل عظيم".
ولم يقدر شهريار على تصور سر شهرزاد خارج المعرفة العقلية رغم أنها أغرته بنبذ الأحادية والتنكب عن الاستسلام إلى السبيل المفرد لمعرفة سرها وللنظر إلى الحياة عامة من خلال الاستفهام الإنكاري "هل أنا إلا جسد جميل؟ (...) هل أنا إلا قلب كبير؟". غير أن نرجسية شهريار وانبهاره بالعقل لم يتركا أمامه منفذا لتفهم ما جاء به أسلوب الحصر في استفهامي شهرزاد الإنكاريين، ولم يتيسر له إدراك قصور العقل على أداء معنى للحياة بمفرده ما لم تعضده مبادئ الغريزة والشعور والوجدان.
ولم يرق إلى شهرزاد توجيه شهريار عفوية الحياة واعتباطية الأشياء ومجانية الخواطر إلى العقلانية. لقد خشيت شهرزاد أن يضيع زوجها في طلاسم الوهم التجريدي والعقلانية المفرطة. فأجشمت النفس في رده إلى أرض الواقع وبيان هشاشة العقل المجرد وأوهامه الميتافيزيقية التي تحجب الظواهر وتهب الطالب إلى المستحيل. فحضضته على عدم إهمال الجوانب الحسية لإدراك المعرفة وكشفت له تهافت العقل الميتافيزيقي الذي لا يصلح، عاريا من أي وسيلة معرفية أخرى، أن يكون مجازة لإدراك مطلق المعنى، وأن البحث العقلي الصرف الذي انتهجه شهريار قاصر على بلوغ سر شهرزاد.
وشهرزاد أثناء ذلك، صنو الحياة، متقلبة. "وجه له من كل قبح برقع". تبدي حالا وتخفي أحوالا، وتظهر حقيقة واهية وتبطن القسوة والخداع، تجاهر بالحب وتكتم الخب. تلقي عبارة "حبيبي" في القصر إلى عشاقها جزافا. وهي ذات مخاتلة لا تحب إلا ذاتها، تعشقها حد العبادة.
وتسرب إلى شهريار شعور رهيب كاليقين أن شهرزاد مخادعة تبيع الكلام لتشتري الحياة. ولكنه وجد نفسه عاجزا عن الانتقام من هذه المرأة الخادعة الكاذبة مالم يكتشف سر شهرزاد بعد. وقد جاهرته بذلك "تبقي عليّ لأنك تجهلني". تلك هي ضريبة المعرفة يعاني شهريار مرارتها. لقد استقرت شهرزاد في ذهنه لغزا وسؤالا كبيرا محيرا. ومن ثمة انقدحت مأساته، فراح يصرخ "أنا اليوم إنسان شقي" ثم طلب الموت.
والموت الذي طلبه شهريار ليس موتا بالمعنى المألوف. وإنما هو تعطل ذهني وتكلس لأدوات التفكير إزاء أضغاث الواقع. فيمثل الموت حينئذ حلا مباشرا لضيق الكائن بشروطه الموضوعية وأسيجة المكان التي تكبله وتوقا عتيا للانسلاخ عن محددات الواقع والإقامة في "اللامكان" ونفْي كل الوشائج التي تشده إلى الأرض. وبذا يصبح الموت تجربة معادلة للرحيل عن العالم ومفارقة الأشياء والتخلص من المكان بالسفر.
تحول شهريار من ملك إلى إنسان قلق متوتر. أصبحت شهرزاد ذلك المطلق المجهول الذي يمعن في مطاردته "أنت لست امرأة ككل النساء (...) لست أدري. بل قد لا تكونين امرأة". ويأخذه الاضطراب، وتمعن شهرزاد في احتجابها وإخفاء محاسن جسدها، ويمعن شهريار في الحنين إلى سرها المعبود "ما سرها؟ أعمرها عشرون عاما أم ليس لها عمر؟ أكانت محبوسة في مكان أم وجدت في كل مكان؟ إن عقلي ليغلي في وعائه يريد أن يعرف ..." ويعكس هذا الإلحاح في السؤال طبيعة المعرفة التي يرنو إليها شهريار، معرفة خارج أسوار الزمان والمكان وبعيدا عن المعايير والمواقيت. وألح عليه مطلب العرفان إلحاحا قويا "أقسم لك أني في حاجة إلى أن أعرف عنك أكثر مما أعرف".
وقد زاد لهيب شوق شهريار إلى معرفة سر شهرزاد المكتوم بفعل الإحباط الذي تتقنه شهرزاد "قلت لك دع هذا ولا تفكر فيه"، وبفنون التمنع والمماطلة "اذهب إلى فراشك الساعة. إنك في حاجة إلى الراحة"، وبألوان التقزيم والتبخيس "لا تكن طفلا يا شهريار (...) أنت رجل ذو رأس مريض"، وأحيانا كثيرة بالشتيمة والسخط "أقسم أنك جننت. أجهدت عقلك حتى اضطرب. أي سر تبحث عنه أيها الأبله؟". وتلتقي كل هذه الأساليب لخدمة لعبة الإغواء التي تتقنها شهرزاد والتي سقط شهريار في شراكها.
ومازال يهفو إلى الجسد الجميل إلى الحب والقلب والشعر "دعيني أتوسد حجرك، كأني طفلك أو زوجك (...) بي رغبة أن ألثم جسدك الفضي الجميل (...) أريد أن تنشديني شعرا ... شهرزاد قصي علي قصة من قصصك (...) غنيني أغنية" حتى قرر الرحيل "أود أن أنسى هذا اللحم ذا الدود، وأنطلق .. أنطلق .. (...) إلى حيث لا حدود".
وعسى هذا الرحيل أن يمثل خلاصا من العوالم الحسية التي آمن شهريار أنها لا تستطع أن تعرفه حقيقة شهرزاد ومعنى الحياة "ما هذه الموسيقى؟ إنها تحبس نفسي في حدود ضيقة. أسكتها يا قمر أو اجعل أنغامها تنطلق. تنطلق ... إلى حيث لا حدود ... ". وخرج شهريار عن صراط القلب والجسد باتجاه عالم أرحب وأسمى. وأعتق ذاته من متين قيود الحبيبة "ذراعاك ضيقتا الخناق على عنقي" وانطلق.
ومن فرط إيمان شهريار بالعقل سقط الحب من ذاكرته "الحب؟ كيف تلفظ هذه الكلمة؟ لا ريب أنها كلمة أثرية من بقايا العصور الأولى". ولما كان العقل سيد شهريار ضاق بالمحدود والنسبي والزمني وطلب اللامحدود والمطلق والأبدي ما أغراه برحلة خارج المكان وخارج الجسد وبمنأى عن الحب باعتبار أن هذه العناصر جميعا أشكال متنوعة لسجن واحد سرمدي. ولم يدم به في القصر قرار. فـ"لْيذهب الطفل فيجوب الأقطار كي يعود غلاما رشيدا".
وكان الرحيل متنفسا لشهريار من صراع تراجيدي بين العقل والمكان طغى في ذهنه. فانطلق كالفكر الشارد رغم معارضة شهرزاد قرار الرحيل متحسرة "لا تنفع الصغير أسفاره مادام لا قلب له". فلم يصغ إليها وضرب في الأرض مثل أبطال التراجيديا لا يستقر على حال ولا ينصت لمعلم، يضع أصابعه في آذانه حذر التأثر بالتماسات شهرزاد التي لم تستطع إثناءه عن السعي المحموم. ومن ثمة خبت جذوة المعارضة أمام النرجسية العتية والطموح القاهر. فأسلمت شهرزاد سندبادها إلى السفر آسفة راثية "مسكين هذا الإنسان ... لو يعلم كم أرثي له".
اصطحب وزيره قمر في رحلته، وما بقي إلا أن يغيب شهريار في المعنى العميق الدفين. ولما انعقدت رحلة شهريار على التملص من الروابط الآدمية والعلاقات الخارجية مع الأشياء في العالم جاز اعتبار رحلته رحلة في داخل النفس العطشى إلى الحقيقة، بعيدا عن كل الروابط والقيود. والرأي عندنا أن الرحلة هروب من الجسد والطبيعة والحب ضربا في صحراء الذهن أمارته "نحن هائمان في فضاء لا نهاية له، ضاربان في قفار لا يصادفنا فيها حي، ولا نسمع في أرجائها غير صدى أصواتنا الضائعة". رحلة شهريار في ظاهرها مطية للمعرفة يرتقيها من الغريزة الهمجية إلى العقل الميتافيزيقي. أما في باطنها فهروب من الحياة نفسها ورغبة عن الاكتواء بنارها وانصراف عن معاشرة حقيقتها بالمغالبة الفعلية. إنه هروب مقنع ومنهج مغالط يمتحن موضوع الامتحان من خارج نظامه لا من داخله.
بيد أنه ما إن أخذ شهريار في طريق الجد حتى خلت شهرزاد إلى عبدها. وكانت الخيانة صفعة جديدة من صفعات الحياة في وجه الزوج المغدور. ولقد تفانت شهرزاد في تحضيض العبد على السقوط في أدران الرغبة الحيوانية باستراتيجية حجاجية متينة قوامها تعزيز ثقة العبد بنفسه بعد أن استبد به شعور رهيب بالدونية واحتقار مبالغ فيه للذات سببه سواد لونه وغلظته إزاء بياضها ورقتها "الزهرة البيضاء الرقيقة تنبت من الطين الأسود الغليظ".
وبرغم وضيع أصله وقبيح صورته دعتْه شهرزاد إلى الشيطان، وعاهدته على غرام أزلي ليس ينقطع. والعبد أثناء ذلك غير مطمئن على مصير رأسه إن فاجأه الملك. في حين أن شهرزاد أقدمت على مصيرها بشجاعة لا تعرف الحدود تعد الخطيئة معبرا للعرفان، وتعتبر أن ما اقترفاه خير امتحان لمعرفة إن كان شهريار قد تخلص فعلا من المرض القديم مرض الانتقام الهمجي والثأر بالدم والأنانية والتضحية بالآخر فقط من أجل شفاء النفس.
وفي الأثناء يصل شهريار مع رفيق رحلته وزيره قمر إلى خان أبي ميسور. فعانقا عالما عجائبيا متكونا من عناصر متناهية في الصغر وأخرى متناهية في الكبر. والتقى هناك بأبي ميسور ومدخني الحشيش أو كما أسماهم شهريار مثنيا عليهم "نعماهم، الهاربون من أجسادهم". إنها جماعة اخترقت النظام الكوني المألوف وأسست عالما سداه الفوضى... جماعة تحسب البساط بحرا. أشباه مجانين وحمقى ومعاتيه يرون أكثر مما نرى. هناك حيث تتصاهر الحكمة والحمق معا في حرم العرفان.
وفي خان أبي ميسور تناهى إلى شهريار ووزيره قمر خبر أسر به الجلاد إلى صاحب الخان مفاده أن العبد قد نام في سرير الملك شهريار الحريري يؤانس شهرزاد. فاختصم الغريبان لما سمعاه. أما قمر المحب العذري الغيور فقد أخذ منه الغيض مأخذا عظيما إلى حد البكاء، ودبت إليه المأساة دبيبا. وأما شهريار فقد أسلم أمره إلى اللامبالاة وكأنه لا يريد معاودة القصة الأولى وكأنه ترفع عن بعده الآدمي وعن غريزة العدوان والشغف بالدم ما أثار سخط قمر عليه "أقسم بمن خلق الإنسان أني ما أبغضتك وما أصغرتك بمثل ما أبغضك وأصغرك الآن (...) إني أعلم أنت تتصنع الجمود وتتظاهر بالهدوء وتحاول التنصل من طبيعتك والترفع عن آدميتك وتزعم مزاعم وتتصور أوهاما، لكنك رجل، رجل، حقير، حقير".
لقد انسلخ شهريار عن الواقع وهو يجرب مع أهل الخان السحر والحشيش. وابتهج بنشوة معنى جديد متملص من القيود متحلل من العهود. وخيل إلى القارئ أن شهريار قد وفق في إيتاء الحياة من باب الرحلة. بيد أن الصدمة خيبت المنتظر. فرغم ما قطعه الغريبان من مسافة طويلة فإن شهريار قد شبه إليه أنه لم يسافر بعد ولم يترحل "كيف تقول إنا سافرنا وهذه الأوتاد تربطنا إلى الأرض؟". لقد أيقن شهريار عبث رحلته ضد المكان يريد أن يشقه ويتخلص من قوانينه وشروطه، وأيقن أن جاذبية المكان أقوى من أن تدفع. فارتد خائبا حسيرا.
إن رحيل شهريار في ظاهره مطلب تحرر ومحاولة إجابة عن قلق الكيان إزاء المعرفة المتملصة النفور. لكنه في باطنه هروب مما يكون به الإنسان إنسانا وهجران للذات وتزجية للعمر في التهيام وتنكر لفضل العاطفة وتنصل من واجبه كإنسان وتحليق في غياهب السماء فوق الواقع وفوق الحياة وأعلى من الأرض.
قفل شهريار راجعا إلى قصره لينهي دورة بحث عابثة بقي خلالها سر شهرزاد متأبيا عن الحصر عنيدا. وهناك، حانت لحظة المكاشفة. شهرزاده ترحب به وعبده خلف الستار كوضاح اليمن في صندوق حبيبته. وشهريار بفراسة الملوك يتأمل الستار ويلح في الإيحاء باكتشاف الخيانة بحديث عن السواد والظلام كناية عن العبد الظلوم عبد الغريزة والشهوة الشبقية.
وشهرزاد ترد على الإيحاء بالإيحاء ولا تجد مانعا من البوح بما صنعت. وقدمت العبد هدية لسيدها برهانا على تأصل الخيانة لديها. وشهريار يتلقى النبأ في غير اكتراث، ويصفح عن المعتدي الآثم، ويقابل غدره بالإحسان. أما الوزير قمر فما إن شاهد العبد يخرج من خدر شهرزاد حتى انتحر بفصل رأسه عن جسده بسيف الجلاد. "لقد كان رجلا" أما شهريار فقد "دار وصار إلى نهاية دورة" وانتهى متطرفا معلقا بين السماء والأرض مثل أبطال الميثولوجيا مصيرهم المقدر التردد بين الجاذبية الأرضية والمثالية السماوية.
شهرزاد مسرحية الأبطال التراجيديين عشاق شهرزاد: شهريار ووزيره وعبده. أما شهريار فقد تميز ببحثه الدؤوب عن السر المكنون، يتخطى في سبيله الحواجز، ويمتهن الرحيل لا ينقضي عنه الرحيل يغالب القدر وينشد اليقين. ولا يرى في الخيبة والعجز إلا حافزا للاستمرار والكفاح. لقد تسرب إلى شهريار بطلان وعيه الفوضوي الهمجي للحياة، وأن الحياة تنحكم إلى إحساس مقيت بالضياع يردم الخواء الإنساني. يشعر شهريار أنه المتيقظ الوحيد وكل من حوله نيام خامدون عن الحقيقة العظيمة، لذلك مضى يكفر عن خطيئة مزدوجة شقها الأول في خطيئة الوجود كله أي الخطيئة الأصلية خطيئة الوجود. أما الخطيئة الثانية فهي خطيئة نفسه خطيئة ذاتية خالصة اقترفها من تلقاء ذاته.
وكده الانفلات من مجرى حياته التي اعتادها يتقلب بين المتناقضات الدم والعدل، القدر والإنسان، الغريزة والروحانيات، الوعي والشعور، العقل والحس، الحياة والموت، الأرض والسماء. يصارع قوى غيبية لا ترد: الخطيئة، الغريزة، الشهوة، رغبة الثأر والانتقام، الحب والعاطفة. لكنه في كل مرة يرتد خاسئا.
شذ شهريار عن المألوف وخرج عن المعهود يتحدى العرف الإنساني ولوم اللائمين. شخصية عنجهية تسمها شهوة افتراسية وبطل تراجيدي آكل لحوم البشر، يستحل لحم المرأة الخائنة الداعرة باسم الثأر لأنف دستْه الزوجة في الرغام.
تسلح بالعقل لإدراك اليقين يطوح به السؤال "من أنت" بين القصر وخان أبي ميسور، يلح على شهرزاد أن تهبه سرها أو يموت، يسائلها بعناد وشدة أن تنطق بسرها. ولا جواب يلقاه لا فيها ولا في الرحيل ولا في المساطيل الهاربين من أجسادهم. وانتهى إلى مأساة فاجعة أشرف فيها على وهم السبيل الميتافيزيقي في إدراك سر الحياة.
أما ثاني الأبطال التراجيديين فهو الوزير قمر. إنه شخصية تمثل احتداد الصراع التراجيدي بين الروح والجسد. عاشق آخر من عشاق شهرزاد، يحب فيها المرأة الطراز والنموذج الأوفى للفضيلة. يراها كائنا روحانيا بطهارة الملاك. وهو ضحية جديدة من ضحايا أوهام الميتافيزيقا التي تترفع بجوهر الإنسان عن الغريزة الحيوانية وتلغي سلطة الجسد. والوزير قمر في هذه المسرحية مثله كمثل الفراشة تحترق بالنار التي تحبها. وضع نصب ناظريْه سر شهرزاد. فانطلق السؤال الأزلي "لست أريد إلا أن أعرف من أنت؟" يشتاق إلى عينيها، ويقهره صفاؤهما.
تبدى لنا في هيئة الشاعر العذري شاعر النصف الأول من القرن الأول ببوادي الحجاز. يتمنى الموت ولا مساس بالحبيبة حبا أزليا باقيا ولا وصال ولا شربة من برد الثغور. كائن سام عن الغرائز يفصل بين الحب والجسد يريد معرفة سر شهرزاد من مدخل عذري صرف. لكن هذا المدخل الميتافيزيقي لم يجد نفعا بل كبله في قيود آسرة. ولم يستطع الحب العفيف أن يحقق للوزير قمر معرفة سر شهرزاد. بل رده إلى الهزء. ولقد نال من الخيبة نصيبا بعد أن استهزأت شهرزاد من إنكاره للجانب الغريزي "وهل تعرف أنت الحب؟" وعسى هذا الاستنكار أن يشي بقصور الوزير على إدراك الحب في مفهومه الواسع التكاملي، وبذا عجز القلب الميتافيزيقي على استيعاب المعادلة الصعبة بين الروح والجسد والعقل والغريزة.
يعبد قمر الجمال ويتوسم في الحبيبة شهرزاد أن تضفي بسحر العيون معنى للوجود "لنعبد ما في الوجود من جمال (...) ثق أن من ملك في حجرته امرأة جميلة فقد ملك الدنيا كلها في حجرته". لقد أغرق قمر في المثاليات وفي تصورات ميتافيزيقة تتنكر لحقيقة الإنسان ذلك الكائن الذي مهما تعالى عن حقيقته الغريزية يبقى كائنا محكوما بسلطة الجسد. عيب الوزير أنه لم يع وحدة الطاقات الإنسانية. وظل في مقابل ذلك ينظر إليها في تشظيها وتفككها.
عارض الوزير فكرة رحيل شهريار "إني لا أرى ما يحملك على الرحيل (...) هل يحسب مولاي، لو جاب الدنيا طولا وعرضا أنه يعلم أكثر مما يعلم وهو في حجرته هذه؟" وإلى جانب ذلك أبى النزول عند رغبة شهريار الذي دعاه إلى البقاء مع شهرزاد مدة الرحلة "أنت وشهرزاد تقيمان ها هنا، تحرسها وتحرص عليها حتى أعود من سفري الطويل" كما أبى الانصياع إلى ماكر همس شهرزاد له "ابق أنت يا قمر". وكده اجتناب كل مقام قد يؤدي إلى سقوط الجسد في الرذيلة مقصده الروحانيات ومطلبه قيم العفة والشهامة.
رافق الوزير قمر سيده في السفر وآثر تجشم ويلات الرحلة من أسفار وأخطار. لكن خيال شهرزاد لم يفارقه حتى افتضح أمر عشقه عند الزوج اللامبالي "مسكين يا قمر، ظلها كان يتبعك في كل أرض وصورتها كنت تتعرفها في كل مكان".
أدمن قمر تصورا جزئيا مبتسرا للحياة. ورفض أن يتنصل عن إيمانه النرجسي برأيه المتطرف. همه اصطناع صورة مثالية لشهرزاد باعتبارها كائنا يترفع عن البعد الحسي. ولكنه ما يخادع إلا نفسه وهو لم يعلم بعد أن من ملكت عليه القلب والجوارح إنما تتلطخ في مستنقع آسن من الخيانة ما يفسر صدمته الكبيرة لما تناهى إلى مسمعه أمر شهرزاد والعبد وارتدادهما إلى القذارة. عندها ثارت ثائرته وتحول إلى معتوه يصب جام غضبه على من حوله ويشتم الناس جميعا "أيتها الكلاب القذرة، أيتها البهائم" والتنويع على كنى الحيوانات في هذا المقام يكشف عن نقمة الوزير قمر على الجانب الغريزي والجزء الطيني للإنسان.
عاش قمر صراعا تراجيديا عنيفا بين الجسد والروح. تداخل في ذهنه الصدق والكذب. واصطرعت الروح والمادة. وتهافتت المثل. فانتقم من نفسه بالانتحار وبسيف الجلاد فصل رأسه عن جسده لما رأى العبد الأسود يخرج من غرفة شهرزاد. يقول شهريار "لم يعد قمر يستمد الحياة من الشمس" فتجيبه شهرزاد "لأنه لم يعد يؤمن بها" لقد غابت شمس الحقيقة التي ترضع القمر ضوءا منعكسا من حقيقة الحياة فتمده بنسغها ليكون. لقد صدم قمر في شمسه، فآثر الخلاص إلى عذرية الحياة الأولى، إلى العدم.
ولقد نشأت المأساة التي آل إليها قمر من فرط حلمه بالعذرية سبيلا لبلوغ سر الحياة وما ترتب عن ذلك من أوهام ميتافيزيقية توهم بتعارض الجسد والحب وحتمية إنكار الرغبة الغريزية والحقيقة الحسية وتجريب الحب في إطار من الخيالية الواهمة. والرأي عندنا أن توفيق الحكيم أراد بنحر قمر التنبيه إلى خيبة القلب الميتافيزيقي المتعالي على جوهر الوجود البشري.
أما آخر عنقود الأبطال التراجيديين فهو العبد. أسود قذر نهاز للفرص عبد الشهوات الحيوانية. سبيل العرفان عنده الحس والجنس واصطراع الأجساد على اللذة. وجد في شهرزاد صيدا مغريا وملذة حسية لا ينطفئ لها أجيج. هو حالة الطبيعة الأولى. يرى في شهرزاد مجرد جسد جميل ولا يتصور الحياة خارج الشبق "ما أجملك، ما أنت إلا جسد جميل".
اغتنم فرصة غياب سيده شهريار واستجاب إلى دعوة سيدته شهرزاد للإبحار في رحلة حسية على مضض يساوره شك رهيب أن أمرا ما من معدن الغدر يعد له تطبخه عشيقته شهرزاد "ضميري يحدثني بأنك تنصبين لي شركا (...) أنت إنما تلعبين بي، إني أخافك". لكن شهرزاد بحكمتها وثاقب نظرها زرعت في صدر العبد المتعطش للجنس الطمأنينة "ضميرك كاذب (...) اقترب".
وانتهت المراودة الغرامية نهاية مألوفة في كتب الأخبار، انتهت باختباء العشيق الخوان من شهريار حذر الانتقام. لكن شهرزاد خانت وعْد عشيقها وشفت ظمأ شهريار لمعرفة مدى صدق ما سمع فوجهت الخطاب لكشف مخبإ العشيق. غير أن شهريار خيب أفق الانتظار بعدوله عن سالف غضبه وتجنب التورط في لعبة الدم من جديد. ففاز العبد بالنجاة رغم الخطيئة، وانغلقت المسرحية على العبد وهو يتابع بأنظاره شهريار الذي أمعن في الاختفاء.
ومأساة العبد تتمثل في أنه شبه له أنه امتلك شهرزاد بالجنس وبسطوة الجانب الغريزي. لكنه انتهى حسيرا يأكله الهلع وينهبه الجزع. ارتد كالقابض على الريح بعد أن اختانته العشيقة بلا ثمن يستغفر من الحبيب المخدوع وقد أرهقته الذلة. وعسى هذه النهاية التي عاناها العبد أن تبين عن مأساة الغريزة الميتافيزيقية وتزيح الوشاح عن موقف توفيق الحكيم الرافض لمعرفة الحياة معرفة شهوانية شبقية لأن الغريزة منظار قصير المدى إن لم تعضده وسائل أخرى للمعرفة تنحت الإنسان الكلي في وجوهه المتنوعة.
إن المأساة في مسرحية "شهرزاد" مآس متنوعة مكثفة تتكسر على صخرة الحياة: مأساة شهريار مأساة العقل الميتافيزيقي، ومأساة قمر مأساة القلب الميتافيزيقي، أما مأساة العبد فمأساة الغريزة الميتافيزيقية. وكانت الجماعة تعلم أنها تسعى إلى الهدف عينه ألا وهو سر شهرزاد سر الحياة. ولكنها لم تكن على وعي أن امتلاك هذه الحياة الأنشودة مطلب صعب المنال لا يهب نفسه بمثل هذه السهولة التي ارتجاها الطلبة. فقد سقط شهريار ووزيره وعبده في أوهام النرجس، وباتوا رهائن النظرة الأحادية والمنظور الجزئي. ولم يتسن لهم محاكمة الميتافيزيقا المواربة المخادعة، وزهدوا زهادة عن التعادلية، ورغبوا عن الأخذ من كل وجه من وجوههم المتنافرة بطرف، فكانت مأساتهم حتما متوقعا لمنهج دغمائي متطرف. غير أنهم على تباين كوى النظر يشتركون في الكشف عن وجه من وجوه شهرزاد التي تأبى سرها على الانكشاف، وامتنع. شهرزاد هي ثلاثتهم معا شهريار ووزيره وعبده. هي العقل والقلب والغريزة مرايا هذه الحياة إن سينكرونيا في اللحظة عينها أو دياكرونيا بتعاقب الأطوار.
وقديما قيل في المسرح الذهني إنه "يسعه الكتاب ولا تسعه الأخشاب" وإن شخصياته أفكار مجردة تتأبى على لبوس شخصيات آدمية واتهم هذا اللون المسرحي بقصوره عن أن يجسد على الركح إلا من بعض المحاولات المحتشمة التي ارتدت ذميمة مثل تجربة التجسيد الوثنية التي دأب عليها "إشيل" الذي شخص كائنات مجردة، وذلك لمنحاها الفكري وصراعها الميتافيزيقي ولأن الغيبيات تغزو النص غزوا يشكل عقبة كأْداء أمام رهان الإخراج المسرحي. غير أن شهرزاد كانت علامة فارقة في هذا المستوى وردا عنيفا على الادعاءات، فلقد أبدى فيها توفيق الحكيم براعة في إجراء الأبعاد الذهنية في الأحداث المادية القابلة للتجسيد دون اصطناع ولا جوْر على النص الإبداعي.
مظلوم نص شهرزاد. وضعه صاحبه وهو لا يعرف جنسه أو هو مرتاب في حده، ولم يرض أن يسميه مسرحية بل جعله عن عمد في كتاب مستقل عن مجموعة المسرحيات التي نشرها في مجلدين حذر أن يتشوه الإبداع المكتوب بفكرة التمثيل. غير أن المتثبت يلمح أن شهرزاد توفر فرجة متكاملة من خلال اعتماد نظام المناظر وتكثف الإشارات الركحية والعناية بالإضاءة والأجواء الاحتفالية والأصوات والموسيقى وأشكال المؤثرات الصوتية فضلا عن فنون الإثارة وأسباب التشويق والعقد والمفاجآت وحدة الصراع الدرامي وقوة الحبكة. وجماع هذه العناصر يحقق متعة الفرجة المستعصية في مثل هذه الأعمال الذهنية الجافة.