السعيد رشدي - المغرب
عنتُ الكتابة
تتأسس الكتابة على اشتغال اللغة لحظة إلباس الأفكار لبوس الحروف والكلمات، فعل يتنفس ثنائية البناء والهدم. هذا المسار المزدوج لا يعكس ترف الأفكار بقدر ما يفصح عن العجز والوهن، فالكتابة لا تستجيب عادة للفكر في غياب القدرة على تطويع اللغة عبر إدراك مناهج تركيبها وتأليفها، وتسلق مدارج ترتيبها وترصيفها، فهي سلطة متعالية بنفسها، مستصغرة لطالبها، تفرض عليه شروطها ومعاييرها وطقوسها.
وردت الكتابة في القرآن الكريم بدوال متنوعة، فقد ذكرها الله سبحانه وتعالى في سورة الانفطار بقوله:
"وإن عليكم لحافظين، كراما كاتبين"[1]. وقال كذلك في سورة القلم :"ن والقلم وما يسطرون، ما أنت بنعمة ربك بمجنون"[2].
وفي اللسان ورد في مادة [ك. ت. ب]: "وقيل كتبه خطه واكتتبه استملاه، وكذلك استكتبه، واكتتبه: كتبه، واكتتبته: كتبته، وفي التنزيل العزيز: اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا، أي استكتبها"[3].
إن الكتابة بهذا المعنى فعل يرتبط بالخط، وهو مظهر لغوي حسي يترجم أفكار كاتب يدونها في كتاب. يقول ابن منظور: "والكتاب ما كتب فيه"[4]، وورودها في القرآن الكريم وانتشارها عبر تدوين الكلام الإلهي والحديث والأدب والمعاملات في سياقات كثيرة ومتنوعة يعتبر مؤشرا على المسار الجديد الذي تبناه النسق المعرفي العربي بعد الإسلام بانتقال الهيمنة فيه من الشفهية إلى الكتابية.
انتشرت الكتابة في البيئة العربية بعد الإسلام انتشارا عظيما، وامتدت إلى كل المجالات؛ كالأدب والسياسة والمعاملات من خلال كتابة الشعر، وتدوين العلوم، ونشوء صنعة الكتابة الإدارية مما أدى إلى حصول وعي كبير بها وبطقوسها؛ فكُتبت فيها مؤلفات كثيرة، منها: "الصناعتين" للعسكري، و"أدب الكُتاب" للصولي، و"صبح الأعشى في صناعة الإنشا" للقلقشندي، و"التعريف بآداب التأليف" للسيوطي، و"المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر" لابن الأثير، و"الفلك الدائر" لابن أبي الحديد.
كتب هؤلاء العلماء عن الكتابة في تجلياتها تقييدا وتصنيفا، وتحدثوا عنها إبداعا، من خلال حل المنظوم والنسج على المنوال والإخفاء، أو ما سموه "الكيمياء"، وهو ما يُتناول اليوم تحت مسمى "التناص".
ركزت آراء علماء العرب وكتبهم في التأليف على أهمية الكتابة إجرائيا وإبداعا. يقول العسكري: "ينبغي أن تعلم أن الكتابة تحتاج إلى آلات كثيرة، وأدوات جمة، من معرفة العربية وتصحيح الألفاظ وإصابة المعنى"[5].
وأورد السيوطي في كتابه "التعريف بآداب التأليف" أن صاحب الأزدي قال[6]:
"لا ينبغي لمصنف يتصدى للتصنيف أن يعدل عن غرضين: إما أن يخترع معنى، وإما أن يبتدع وضعا ومبنى، وما سوى هذين الوجهين، فهو تسويد الورق". وقيل: "من صنف فقد استهدف، فإن أحسن، فقد استشرف، وإن أساء فقد استقذف"[7].
إن هذا القول يظهر الإحساس بالكتابة كَهم ومعاناة أثناء تحرير المعنى، وما تصاقب "المعنى" و"المعاناة" لفظا إلا لتصاقبهما معنى، وما ثَقل ذلك إلا لكون الكتابة رسالة إنسانية تمتد في كل الزمن.
لقد مثلت هذه الجهود خطوة رائدة اندرجت في مسار التفكير المعرفي الإنساني، ولم يقف الأمر عند هذا المستوى، بل تطور في سياقات مختلفة مع ظهور العلوم اللغوية الحديثة خاصة اللسانيات ونحو الخطاب؛ فأدى ذلك إلى انفتاح أفق الدرس اللغوي، مما سمح بالنظر إليها من زوايا عدة: اللغة، والكاتب، والنص.
تنطلق دراسة الكتابة من دراسة الأثر الناتج عنها؛ أي النص المكتوب في علاقته بالكاتب. إن هذه العلاقة تشكل حدودا لمساحة تعرف صراعا نفسيا ولغويا ومعرفيا تؤطرها الرؤية للعالم. وأثناء ذلك، تتخذ اللغة مواقفها بالانصياع والمطاوعة أو بالمراوغة الماكرة. وكيفما كان النزال، فإنها لا ترضى عن قوانينها ومنطقها بديلا. إن تحقق الانسجام بين طاقة الفكر وطاقة اللغة رأسا هو غاية كل كاتب وأس كل فعل كتابي ناجح.
إن التفكير العلمي الحاصل مع ظهور الدرس اللغوي الحديث جعل من الكتابة موضوعا للتفكير بمناهج خاصة؛ في جانبها الإجرائي والتوليدي (géno-texte)، فالكتابة ترتبط بإنتاج نص كتابةً انطلاقا من عوالم نفسية عدة تتقمص فيها الشخصية الكاتبة أدوارا كثيرة ومتنوعة، متصارعة أحيانا تبعا لطبيعة الرسالة، وجودتها يعكسه مستوى نصية المكتوب، شكلا ومضمونا، وليتحقق ذلك فإنها تمر بالمراحل التالية:
مرحلة التصور: حيث يخضع في هذه المرحلة ذهن الكاتب لمجموعة من العمليات التي تشكل المعلومات عبر استرجاع الأفكار السابقة وبناء أخرى جديدة. في هذه المرحلة يتم توظيف إجراءات متنوعة منها ما هو مكتسب، كقوانين اللغة وبناءها التركيبي المولد للدلالة، ومنها ما هو فطري متعلق بالموهبة والذكاء. وتختلف هذه الأوضاع حسب أنواع الكتابة، كالإبداعية أو الصحفية أو المتخصصة، أو حسب المتلقي، أو طبيعة الموضوع المختار. إن هذا المكون يعكس ما يمكن أن نسميه بالبنية العميقة التي يشتغل الفعل الكتابي وفقها والتي تظهرها الصياغة.
مرحلة الصياغة: تتكلف بتحويل المتصور الذهني إلى بنية لغوية عن طريق توليد البنى اللغوية القادرة على نقل الأفكار وصنع الدلالة وفق هندستها في الذهن، ثم احترام الجانب الشكلي في تجلياته المتعددة كالبيبليوغرافيا والإحالات والتهميش والفهارس، ثم طبيعة المتلقي. وفي جانب آخر، يتموضع البناء الخطي الذي يظهر في شكل بيانات بديلة عن البيانات الصوتية والذي يمثل البنية السطحية، ويتم ذلك وفق قوانين اللغة ونسقها الاجتماعي.
وبالانتقال إلى النص أو المنتوج الكتابي، فإن هذا الأخير يتأسس وفق هندسة المكونين التصوري والصياغي، والنص هو الكفيل بالكشف عنهما معا، إنه يشكل تلك البنية السطحية القابلة للدراسة العلمية. وعادة، تخضع هذه البنية اليوم للدراسة من خلال معايير النصية، ومنها ما ذكره محمد مفتاح: التماسك، التنضيد، التنسيق، الانسجام، التشاكل، والترادف[8].
يستلزم فعل الكتابة تحقق شروط ثلاثة: الأول: الذات الإنسانية الكاتبة وما يتصل بها؛ نفسيا واجتماعيا، موهبة وذكاء، كتابة وتلقيا، في علاقتها بالعالم. والثاني: اللغة ولعبها وطقوسها ومتطلباتها الذاتية والموضوعية خاصة لما تكون في حضرة الإبداع. والثالث: الجانب المنهجي والشكلي المتعلق بأدبيات الكتابة.
إن تعلق الكتابة بهذه الشروط وهذه المراحل يجعلها فعلا متعبا صعب المراس، غير أن تعبها سرعان ما يستعذب، وصعوبتها سرعان ما تستحلى، خاصة لما تُجسّر للفكر علاقات وترسم للمجتمع مسارات الارتقاء الثقافي والحضاري.
= = = = =
المصادر والمراجع
[1] القرآن الكريم، سورة الانفطار، رواية ورش، الآيتان 11 و12.
[2] القرآن الكريم، سورة القلم، رواية ورش، الآيتان 1 و2.
[3] ابن منظور، لسان العرب، طبعة دار المعارف، مصر، تحقيق عبد الله علي الكبير وآخرون مادة: [ك ت ب].
[4] المرجع السابق، [ك ت ب].
[5] العسكري، الصناعتين، تحقيق البجاوي وأبي الفضل، طبعة عيسى البابي الحلبي، د.ط، 171.
[6] السيوطي، التعريف بآداب التأليف، 1989، تحقيق مرزوق علي إبراهيم، مكتبة التراث الإسلامي، ص 28.
[7] المرجع السابق، ص 29.
[8] محمد مفتاح، التلقي والتأويل (مقاربة نسقية)، 1994، المركز الثقافي العربي، ص 157-158.
1 مشاركة منتدى
عنتُ الكتابة, عبد العظيم المغرب | 27 نيسان (أبريل) 2015 - 13:01 1
ألا ترى أخي سعيد أن التشديد على هذه الشروط في جميع أشكال الكتابة هو ما يجعلها فعلا متعبا صعب المراس عوض أن تكون وسيلة تواصل ابداع و ملجأ الشاكي و متعة المتخيل الولهان ........
أحيلك على "المرايا "لنجيب محفوظ و الكتابات الحجرية ....
ودمت مبدعا أخي سعيد