عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

فنار عبد الغني - لبنان

من تكون؟ + صغيرتي والقمر


فنار عبد الغنيمن تكون؟

في عزلة ضيقة اختارها لها سيّدها لتكون كل عالمها، كانت تقضي أيامها تحتبس دموعها حائرة، تدور في رأسها الصغير أسئلة لا تحصى، أسئلة لا تجد لها أجوبة، لما سجنوها داخل هذا المكان القميء بينما الجميع يتنقلون بحرية؟ لماذا تعيش في هذا القفص الموصد بابه بإحكام.

لا ترى العالم الا من خلال القضبان. لا تملك إلا جناحين صغيرين لا تعرف الغاية منهما، وقدمين صغيرتين بالكاد تستطيع تحريكهما، وصوت رقيق يحلو ويعذب كلما تعمق شعورها بالألم والوحدة.

لا أحد يفهم أنينها، ولو فهموه ما استبقوها سجينة القضبان. هي لا تشبه أحدا ولا أحد يشبهها في عزلتها. هي لا تكلم أحدا ولا أحد يكلمها، وكيف يكلمونها وتكلمهم وهم لا يفهمون لغتها ولا تفهم لغتهم؟ وهل يفهم السجّان لغة أسيره؟ وهل سيكترث بمشاعرها لو فهمها؟ إن أكثر ما يعذبها في عزلتها أنها لا تعرف من تكون.

في يوم استثنائي الأمل ملأت فيه أسراب الطيور صفحات السماء فرحا، أبصرها طائر أبيض عظيم، كان يسابق أسراب الطيور، حط على مقربة منها واستمع لحكايتها، وأقنعها بأنها طائر وأن السماء موطنها، وبإرادتها تستطيع بلوغه بجناحيها يوما ما، وعليها أن تـتصبر بالأمل والثقة بالنفس.

اعتصمت العصفورة بالصمت أياما حتى ملّ منها سيّدها:

"لقد هرمت هذه العصفورة. لم تعد تسعدنا بأغاريدها. سأرمي بها وآتي بأخرى أصغر منها".

وفتح باب القفص الصدئ، وألقى بها خارجا.

عاد الطائر الأبيض العظيم إليها، شجّعها على الطيران، حرّكت جناحيها وأسلمت روحها للهواء العليل، حلقت عاليا وارتفعت فوق أحزمة البؤس والقهر، حلقت باسطة جناحيها بثقة عظيمة وهمّة كبيرة حتى بلغت أسراب الطيور الفرحة، المرفرفة في المدى البعيد الواسع.

أخيرا وجدت العصفورة الطمأنينة حين عرفت نفسها وأدركت من تكون.

= = =

صغيرتي والقمر

تراقب صغيرتي ذات السنوات الثلاث بعيون وجلة السماء منذ أيام. كانت شاحبة وخائفة، ويشتد خوفها ويمتد شحوبها فيغطي كل جسمها الهزيل كلما سمعت صوت الرعد، هزيمه المدوي يجعلها تقفز من مكانها مسرعة لتتوارى خلف إحدى الستائر أو تحت إحدى الطاولات. تنصت قليلا ثم تعود لتفرح لاختفائه، ويتهلل وجهها فرحا حين يبدأ المطر بالتساقط فوق السقف طارقا بزخاته الجدران والنوافذ.

اليوم أصبح خوفها من سقوط المطر أقل من ذي قبل. أما صوت الرعد فلا زالت ترتعد فرائصها منه. لكن أمرا ما لا يزال يقلقها، يمنعها من اللعب والضحك. تراقب السماء دوما دون أن تفتح فمها الذي لا ينفك عن الثرثرة ليل نهار. اشتقت لثرثرتها ولأسئلتها، ولحركتها التي لا تهدأ. هل تشكو شيئا ولا تستطيع التعبير عنه؟ تُرى ما الذي يثير خوفها؟

أرقبها وهي تقف فوق سريرها أو على كرسيها وهي تصوّب بصرها للأعلى. اقتربت مني بعد وقت طويل باكية تسألني بعينين غائرتين حائرتين: "أين ذهب القمر المدور؟"

دهشت واستغربت سؤالها. لم أعرف ماذا أقول لها؟ أكدت لها أنه لا يزال في مكانه، وأننا سنراه قريبا بعد رحيل الغيوم. نظرت إليّ بريبة ولم تصدقني. وأخرجت من فمها همهمات عديدة، فهمت أنها تعتقد بأن القمر خائف من الغيوم، وأنه رحل بعيدا، أو أن الغيوم ذات الصوت المرعب قد أكلت القمر، وهذا الصوت الذي تصدره هو صوت اسنانها السوداء وبكاء القمر.

"عليك أن تخبئي القمر. نخبئه في الغرفة الفارغة"، قالت وهي تصرخ بهذه الكلمات المتقطعة.

أكدت لها أن القمر لا يخاف أبدا من الغيوم. قلت لها إن القمر أكبر من كل الغيوم، وإنه يدور ويدور وينتقل من مكان الى مكان.

وأخذت أشرح لها الأمر دون جدوى. لم تفهم شيئا من كلامي الذي حاولت أن أبسطه لها على قدر استطاعتي.
تركتني وحيدة قبل أن أكمل كلامي وعادت الى النافذة لمراقبة السماء التي لا تتركها حتى ينال منها النعاس والتعب والانتظار.

ذات صباح هادئ ومشرق، نهضت متأخرة، سارعت إلى النافذة، نظرت عاليا كعادتها، ثمّ أخذت تصرخ بشدة وهي تضحك ضحكات قائد فاتح منتصر، وتقفز مرددة في كل أنحاء البيت: "استيقظ القمر. استيقظ القمر. استيقظ القمر".

عود الند العدد الفصلي الثالث

D 1 كانون الأول (ديسمبر) 2016     A فنار عبد الغني     C 9 تعليقات

5 مشاركة منتدى

في العدد نفسه

كلمة العدد الفصلي 03: الثقافة الفلسطينية إلى أين؟

تجليات الصحراء في أعمال منيف والكوني

شمس

أغلى أماني الحياة

الخلاص