محسن الغالبي - السويد
شمس
قلت له: إن الصداع يفتك برأسي، يكاد يحيله إلى قنبلة فوضوية التوقيت.
قال لي: منذ متى تعاني هذا؟
قلت: من ألف عام، مذ عرفتها.
قال: من؟
قلت إنها الشمس، الشمس التي لم تشرق بعد، فإن أشرقت، أحرقت.
عبس وتولى، ثم استدار وناولني علبة بألف حبة من أجل ألف عام. قال تناول حبة في كل يوم.
أخذت العلبة وأفرغتها في جوفي دفعة واحدة. فغر فاه وجحظت عيناه، وقال: ماذا فعلت؟
قلت: لا وقت لدي للمرض.
قال: لكنه الموت يا هذا.
قلت: فليكن. إذن حان حينه.
أدرت له ظهري وخرجت مرددا:
بروحي من أتلفت روحي بحبها = = فحان حمامي قبل يوم حمامي(1)
سمعته يردد خلفي: مجنون. م ج ن و ن.
ضحكت في باطني من قوله. فلم أكن سعيد الحظ إلى هذا الحد الذي يدفعني إلى الجنون. الجنون نعمة. أن تكون مجنونا في زمن أثقله التعقل، زمن يعج بالعاقلين إلى حد التقيؤ.
ولكن، وليكن هذا بيني وبينكم، أنا أحمل في كياني الشيء الكثير من الجنون. لكن لعنة التعقل تغلب جنوني غالبا فيراني الآخرون كواحد منهم. آه؛ أمر محزن أن اكون واحدا من هذه الجموع. ولكن ماذا لو أعلنت اليوم جنوني على الملأ؟
ربما لن يبقى لي خيار غير الرحيل. ولكن هل "ما زال في الدرب متسع للرحيل؟"(2)
لست أدري، فبعض الجنون بدأ يطبق على رأسي. ربما أحتاج إلى علبة أخرى بألف حبة، أو علبتين، ربما ثلاث.
كنت ما زلت في وسط الطريق إلى المنزل. في وسط الشارع تماما تذكرت ما قالت لي: "أعرفك منذ ألف سنة".
توقفت في وسط الشارع أستعيد كلماتها، لم يكن فيها ما يدل على أنها ليست أكثر من وهم. ولكن ألا يكفي كل هذا الصداع لأدرك وجودها؟
كنت لا أزال واقفا وسط الشارع حين سمعت البعض يزعق بي: مجنون، تنح جانبا. لم أعرهم انتباهي.
شعرت ببعض التعب فتربعت وسط الطريق أستعيد كلماتها وأغربل أفكاري. ظلت كلماتها كهالة حولي وتلاشت كل أفكاري.
أحسست بأقدام المارة تعبر على جثتي، وبعجلات السيارات تمر بكل ثقلها فوقي فلا تؤلم. الألم الوحيد الذي كان يفتت عظامي أنها لم تكن هنا. أو أنها أقرب إلى الوهم منها إلى الحقيقة. بل ربما إنها مجرد وهم. هل جربت يوما أن تعيش لشيء ثم تكتشف أنك تعيش لوهم؟
وما زال دليلي الوحيد على وجودها هو الصداع.
فشكرا للصداع.
وحين بلغت البيت دعوت الله أن احد شيئا منها، أي شيء ، بضع كلمات. لم تمر سوى لحظات حتى بلغت مسامعي إشارة الهاتف تعلن وصول رسالة "كنت وحدي أفكر بك". لم تكن وهما إذا.
ثم اختفت طوال اليوم واستحالت كل ردودي لها هباء منثورا. كل ما كتبته لها راح أدراج الرياح. وتيقنت أنها ليست أكثر من وهم. اختفت ولم يبق من بعدها سوى هذا الصداع. كنت سعيدا به، بصداعي، لأنه يذكرني بها.
وحين أشتدّ بي الصداع قصدت زاوية الأدوية في المطبخ، أخرجت منها علبة الباراسيتامول وألقيته في سلة المهملات. لن أتخلي عن صداعي، أردت الاحتفاظ به. جلست إلى الطاولة في المطبخ أرقب بوادر الشتاء في الأفق وكان رفيقي حينها فنجان قهوة مرّة، مواساتي الوحيدة رغم تأنيب الضمير إذ تذكرت التي أحبتني وتمنت لي الإقلاع عنه.
تذكرت يوما أني كتبت بعض الهذيان وكنت أظنه شعرا.
قليل من القهوة لا يضر
قليل من الصداع قليل من الخمرة
وقليل من الكفر ينعش أفكاري ويصقلها
إذ تبدأ ثورة الفكرة
وكثير من الجنون
كثير من العشق
وقبلة أسرقها من شفاه تزينها قهوة مرّة
كنت أجلس قبالة النافذة أراقب ما فعل الخريف بالأشجار حين عانقها فأصابتها رعدة فانتفضت فألقت أوراقها وانتصبت عارية وحيدة، أكاد أرى دموعها تغسل أغصانها وأرى ارتعاشاتها إذ تمر بها الرياح فتشرع لها أجسادها مستسلمة راضية خاشعة.
كنت أجلس هناك وكان كل شيء على ما يرام. كل شيء، سوى رغبة جامحة في البكاء لا أجد لها سببا.
كان كل شيء أمامي جميلا؛ جميلا جدا، سوى غيمة من الكآبة تلفّ روحي لا أجد عنها خلاصا.
كان كل شيء هادئا جدا؛ هادئا حد الموت، سوى فوضى عارمة تخلط أحشائي وتحيلها حربا.
كنت أجلس هناك وحيدا وعلى الكرسي المجاور يجلس شبح أراه ويراني وأسمعه ويسمعني، يشاركني قهوتي. كنت أسمعه يقول لي:
"ما تبحث عنه يبحث عنك. هكذا أودّ أن أموت. في العشق الذي أكنه لك، كقطع سُحُب تذوب في ضوء الشمس ".(3)
كنت أفتقد الشمس يومها لأيام مضت، فقد ألقى الخريف عباءته ونام.
أكملت قهوتي وشرعت أحزم حقيبتي التي لم أفضها منذ سفري السابق. كانت دائما كما كانت، تجلس في زاوية الغرفة الفارغة تنتظر قرارا للسفر وللرحيل. لمحتها ترمقني بابتسامة عريضة كمن يحصل على تفويض بترك المشفى بعد مرض ورقاد طويل. قرأت على ملامحها سؤالا: إلى أين؟
قلت: بلدي.
قالت: بلاد الشمس؟
أومأت برأسي أن بلى. اشتقت إلى لقاء الشمس. فــ "شمس" هناك تنتظرني، ربما.
قالت: وإن كانت شمس وهما؟
قلت: وإن.
= = =
=1= البيت للشاعر الصوفي ابن الفارض.
=2= العبارة من قصيدة للشاعر محمود درويش.
=3= العبارتان للصوفي جلال الدين الرومي.
◄ محسن الغالبي
▼ موضوعاتي
- ● لقاء
- ● ضباب
- ● ما حدث معي هذا الصباح
- ● شيء من العذاب
- ● هوس شرقي
- ● وحل الوطن
- ● فراشة
- [...]
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ
1 مشاركة منتدى
شمس, هدى الدهان | 30 كانون الثاني (يناير) 2017 - 17:25 1
القليل لايضر.اصبحنا جوعى الى كل شيء الى حد الجفاف والمجاعه .لايوجد قليل .لاقليل من الحب فالجفاء من الكل ولا قليل من الكره حتى نستطيع الاستغناء ولا قليل من المال فيمكننا التعفف بل العدم يغلب على اغلب فقرائنا .لاقليل من الشمس فنتدفا ولا قليل من البرد فيمكننا التحمل .كل ما يؤلم الكثير منه هنا
1. شمس, 6 شباط (فبراير) 2017, 01:22, ::::: محسن الغالبي - العراق/ السويد
حين يصبح الجوع طاغ حد الجفاف والمجاعة فلن ينفع التضرع للافلات منه...حينها لايبقى للمرء الا خيار واحد...السعي للخلاص...القناعة كنز الخانعين والضعفاء.