عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 
أنت في : الغلاف » أرشيف أعداد عـود الـنـد » الأعداد الشهرية: 01-120 » السنة 9: 96-107 » العدد 101: 2014/11 » بناء المقاطع الصوتية ودلالتها في شعر البحتري

د. عبد القادر شارف - الجزائر

بناء المقاطع الصوتية ودلالتها في شعر البحتري


المقطع هو الركيزة الأساسية لبناء الوحدات التركيبية أو الأشكال والكميات الصوتية المعينة عند علماء اللغة، فلا يتم تقطيع الأبيات إلا به بناء على قواعد إيقاعية معينة، وقد استطاع البحتري أن يستغل هذا التركيب في شعره ليبرهن على متانة أسلوبه، فاختار المقطع المناسب للمقام الملائم، فأعطى المقطع الطويل الانطلاقة الحُرَّة للصوت الذي يصدره الشاعر من أعماقه ليستحوذ على أطول فترة زمنيَّة ممكنة، فمدح ووصف وتغزل ليخرج مقطعه الشِّعري مفعما بامتداد الأصوات المليئة بالنشوة والحب، في حين نجد المقاطع القصيرة تساعد على حِدَّةِ التعبير وتجسد قوة النبر عند الشاعر الذي يجعل المعنى متمكنا من القلب، فجاءت الدلالة المتولدة من خلال الكلمات الممثلة له مرتبطة بدلالات معانيها.

ويعد المقطع حجر الأساس في علمي العروض والأصوات، إذ يتم تقطيع الأبيات الشعرية أولاً إلى مقاطع، ويتم التمييز ما بين المقاطع القصيرة والمقاطع الطويلة، ومن ثم يتم تجميع هذه المقاطع بناء على أسس إيقاعية معينة في وحدات أكبر تسمى "تفعيلات"، مثل مفاعلتن أو فعولن، إلخ، وأخيراً تشكل هذه التفعيلات ما يسمى بـ"البحر"، مثل البحر الطويل أو البسيط أو المديد وغيرهم، بناء على أسس معينة أيضاً.

والإشارة إلى المقطع، كوحدة بنيوية، ضرورية لتفسير بعض القواعد الصوتية في اللغة بشكل عام وفي اللغة العربية بشكل خاص. فعلى سبيل المثال، يتم تكوين صيغة الأمر في الأفعال الثلاثية التي تبتدئ بصوت غير الهمزة باستعمال النمط الآتي: الصامت الأول – الصامت الثاني- صائت قصير فتحة ( َ)، كسرة ( ِِ)، أو ضمة ( ُ)- الصامت الثالث، في ضوء ذلك، نجد أن صيغة الأمر في حالة الأفعال: (لَعِبَ، كَسَرَ، وكَتَبَ) هي (لْعَبْ، كْسِرْ، وكْتُبْ).

ولكن نظراً لأنَّ الكلمات في اللغة العربية لا تبدأ بساكن، فإنَّ هذا الوضع يتم تجنبه بوساطة قاعدة يتم بموجبها إدخال الصائت القصير ( ِ) أو الكسرة قبل الصامت الأول، ونظراً لأنَّ الكلمات في اللغة العربية لا تبتدئ بصائت، تقوم قاعدة أخرى بإدخال الهمزة قبل الصائت الذي أدخلته القاعدة الأولى، وفي ضوء ذلك، يتم تحويل الصيغ الوسطى (لْعَبْ، كْسِرْ، وكْتُبْ) إلى (اِلْعَبْ، اِكْسِرْ، واكْتُبْ)، على التوالي.

وقد اختلف اللغويون في تعريف المقطع، ولعلَّ السبب في ذلك تعدد المذاهب وتباعد وجهات النظر، وأيَّاما كان الاختلاف فالمقطع هو "الوحدة المتميزة الصغرى التي يمكن أن تجزئ سلسلة التعبير إليها" [1]، كما أنَّه "تعبيرات عن نسق منظم من الجزئيات التحليلية أو خفقات صدرية في أثناء الكلام أو وحدات تركيبية أو أشكال وكميات معينة " [2].

وفي العربية ستة أنواع من المقاطع[3]:

1- المقطع القصير المفتوح المتكون من صامت + صائت قصير، مثل كالكاف من كَتَبَ، ويرمز إليه بـ: (ص ع).

ويعد هذا المقطع الذي يتكون من صامت قصير يتبعه صائت قصير الأكثر انتشاراً في اللغة، وهو موجود في جميع لغات العالم، ولا توجد أيَّة قيود على توزيع هذا المقطع في اللغة العربية، فهو يوجد بحرّية في بداية الكلمة وفي منتصفها وفي آخرها، كما لا توجد أيَّة قيود على نوعية الصوامت والصوائت التي يتألف منها، فأي صامت في اللغة يمكن أن يحتل أوله وأي صائت يمكن أن يحتل آخره.

2- المقطع الطويل المفتوح المتكون من صامت + صائت طويل، مثل (كَا) من (كَاتِبٌ)، ويرمز إليه بـ: (ص ع ع).

هذا المقطع أيضاً من المقاطع الواسعة الانتشار في اللغة العربية، ولا توجد أيَّة قيود تذكر على توزيعه، حيث إنَّه يوجد في بداية الكلمة، وفي وسطها، وفي آخرها، والفرق بين هذا المقطع والمقطع السابق يتعلق فقط في طول الصائت، فالصائت هنا طويل في حين أنَّه قصير في المقطع السابق، إلا أنَّ هذين المقطعين يشتركان في سمة تميزهما عن بقية المقاطع الأخرى، وهي أنَّ هذين المقطعين مفتوحان، أي أنَّ الصائت فيهما لا يتبعه أي صامت، في حين أنَّ بقية المقاطع الأخرى تنتهي بصامت أو صامتين.

3- المقطع الطويل المغلق المتكون من صامت+ صائت قصير+ صامت، مثل (مَنْ- لَمْ - لَنْ)، ويرمز إليه بـ: (ص ع ص).

هذا المقطع أيضاً من المقاطع الواسعة الانتشار في اللغة العربية ، تماماً مثل المقطعين الأولين، ولا توجد أيَّة قيود على توزيعه في الكلمات، إذ إنَّه يوجد في بداية الكلمة ووسطها وآخرها.

هذه المقاطع الثلاثة يمكن اعتبارها المقاطع الأساسية في اللغة، فعلاوة على إمكانية وجودها في بداية ووسط ونهاية الكلمات بحرّية، فهي توجد بحرّية أيضاً في جميع أحجام الكلمات من حيث عدد المقاطع المكونة لها، فهي موجودة في الكلمات الأحادية والثنائية المقطع، وفي بقية الأحجام حتى العشارية المقطع مثل "فسيتقاسمونهما"، وهو الحد الأعلى لحجم الكلمة في اللغة العربية من حيث عدد المقاطع المكونة لها، وهذه الخاصية ليست متوافرة في الكلمات الأخرى.

4- المقطع الطويل المنتهي بصامت في حالة الوقف المتكون من صامت + صائت طويل + صامت، مثل (كَانْ، قَالْ)، ويرمز إليه بـ: (ص ع ع ص).

هذا المقطع، كما تبينه الأمثلة السابقة، يمكن وجوده في بداية الكلمة ووسطها وآخرها، ولكن هناك بعض القيود على توزيعه، إذ إنَّ هذا المقطع أكثر تكراراً في نهاية الكلمة الساكنة الآخر منه في بدايتها أو وسطها بغض النظر عن حجم الكلمة، وعلاوة على ذلك، فإنَّ هذا المقطع ليس موجوداً في بداية أو وسط الكلمات المكونة من سبعة مقاطع أو أكثر، فهذا المقطع لا يوجد إلا في نهاية الكلمة.

5- المقطع الطويل المغرق في الطول المتكون من صامت + صائت قصير+ صامتين في حالة الوقف، مثل (نَهْرْ، بَحْرْ)، ويرمز إليه بـ: (ص ع ص ص).

فهذا المقطع لا يوجد مطلقاً في بداية الكلمة مهما كان حجمها، لذلك نجده فقط في نهاية الكلمات المكونة من مقطعين، أمَّا في الكلمات الثلاثية والرباعية والخماسية والسداسية المقطع فإنَّ تكراره أكثر في نهاية الكلمة منه في وسطها، وفي الكلمات السباعية والثمانية المقطع فإنَّه يقع فقط في نهاية الكلمة، ولا يوجد هذا المقطع على الإطلاق في أي موقع من الكلمة في الكلمات الأطول، وبشكل عام، يمكن القول إنَّ هذا المقطع يتكرر وقوعه في آخر الكلمة أكثر منه في وسطها في الكلمات القصيرة، ولا يقع على الإطلاق في الكلمات الطويلة المكونة من تسعة أو عشرة مقاطع، وهذه النتيجة مستندة إلى إحصاءات دقيقة للبنية المقطعية لجميع الكلمات الموجودة في معجم اللغة العربية المعاصرة والتي يزيد عددها على (45) ألف كلمة تنفي الاعتقاد السائد من أن هذا المقطع يقع فقط في نهاية الكلمة.

6- المقطع القصير المغلق المتكون من صائت + صامت في حالة الابتداء بالساكن، مثل: همزة الوصل في اِستخرج ويرمز إليه بـ: (ع ص).

إنَّ هذا المقطع الأخير افتراضي ولا وجود له في العربية الفصحى وخاصة علم الأصوات العام، فهو من اختراع تمام حسان، أتى به ليجعله قرين همزة الوصل حتى يتخلص من الابتداء بالساكن [4].

تبين لنا أنَّ المقاطع الأولى يمكن اعتبارها المقاطع الأساسية في اللغة العربية نظرا لتكرار وقوعها بحرِّية في بداية الكلمة ووسطها ونهايتها مهما يكن حجمها، وأنَّ المقاطع الثلاثة الأخيرة يمكن اعتبارها مقاطع ثانوية نظرًا للقيود المفروضة على توزيعها، وعلى الأصوات التي يمكن لها أن تحتل أمكنة الصوامت الختامية فيها، خاصة في حالة المقطعين الأخيرين، وهذه النتيجة تدعمها فكرة تكرار المقاطع في اللغة العربية، فالمقاطع الثلاثة الأولى أكثر تكرارًا من المقاطع الثلاثة الأخيرة في كلمات اللغة العربية.

وقد استطاع البحتري أن يستغل التركيب المقطعي في شعره ليبرهن على متانة أسلوبه فاختار المقطع المناسب للمقام الملائم، فأعطى المقطع الطويل الانطلاقة الحُرَّة للصوت الذي يصدره الشاعر من أعماقه ليستحوذ على أطول فترة زمنيَّة ممكنة، فمدح ووصف وتغزل ليخرج مقطعه الشِّعري مفعما بامتداد الأصوات المليئة بالنشوة والحب، في حين نجد المقاطع القصيرة تساعد على حِدَّةِ التعبير وتجسد قوة النبر عند الشاعر الذي يجعل المعنى متمكنا من القلب، فجاءت الدلالة المتولدة من خلال الكلمات الممثلة له مرتبطة بدلالات معانيها، لاحظ قوله:

صُنتُ نَفسي عَمّا يُدَنِّسُ نَفسي = = وَتَرَفَّعتُ عَن جَدا كُلِّ جِبسِ [5]

صوَّرت المقاطع الطويلة المغلقة (صُنْـ- نَفْـ- عَمْ- دَنْ- نَفْـ- رَفْ- فَعْ -عَنْ- كُلْ – جِبْ) حالة المرارة التي عاشها البحتري وهو يرثي إيوان كسرى فتضمنت هذه المقاطع في سياقها معاني الحسرة والألم حتى بلغت درجة التوتر ذروتها، وهو الأمر الذي أسعف الشاعر على الضغط على مقاطع منبورة تتجلى في الصوائت الطويلة، جاءت تنبئ عن تأوهات صادرة عن نفس متألمة كانت مختبئة تحت جارحة الشاعر، فخرجت من الأعماق لتعبر عمَّا أحسَّت به تجاه هذا الطلل وذلك في (سِي – مَا - سِي – دَا - سِي)، في حين كان دور المقاطع القصيرة - التي جاءت قليلة بالمقارنة مع أختها السابقة - دور الاسترخاء وتجديد الإيقاع بنفس شعري طويل، وذلك في (تُ – يُـ- نِ - سُ – وَ– تُـ- تُ – جَـ- لِ).

وقد أحدثت هذه المقاطع تغييرا في نغمة الإيقاع بسبب نقص التفاعيل عن طريق المزاحفة، وهو ما أدى إلى الانسجام بين الشاعر والتوترات النفسية للذات المبدعة من جهة وبين المنشد والمتلقي من جهة أخرى، دون أن ننسى عامل الارتكاز وما لدوره الفعال في توجيه الخطاب الأسلوبي، وفوق كل ذلك انسجام موسيقى المقاطع الصوتية بموسيقى بحر الخفيف الذي يعد أخف البحور على الطبع وأطلاها للسمع[6] وإذا جاد نظمه رأيته سهلاً ممتعاً لقرب الكلام المنظوم فيه من الكلام المنثور.

وليس في جميع بحور الشعر بحر نظيره يصلح للتصرف بجميع المعـاني[7]، فالارتكاز في (فَعِلاتُنْ) و(مَفَاعِ لُنْ) أقل بكثير من الارتكاز على (فَاعِلاتُنْ) و(مُسْتَفْعِلُنْ)، لأنَّ لحظة إنشاد البحتري عبارة (صُنتُ نَفسي) هو تحقق للتأزم النفسي الذي يُكَمِّلُ حالات اليأس المُخَيِّمَة على العالم الحزين المفعم بالحرارة والتعاسة والنكس، فما نراه في (فَاعِ) من (فَاعِ لاتُنْ) وهو وتد مفروق مكوَّن من مقطع طويل مفتوح ومقطع قصير مفتوح يتناسب وَ (صُنْتُ – نِسُ – وَتَرَ – كُلِّ )، وما نلمحه في (لاتُنْ) المكوَّن من مقطعين طويلين الأول مفتوح والثاني مغلق يتشاطر وَ (نَفْسِي– نَفْسِي– رَفْفَعْ– جِبْسِي ).

وما نلحظه في (مُسْتَفْـ) المكوَّن من مقطعين طويلين مغلقين يتماثل مع (عَمْمَا- تُعَنْ)، وما نشاهده مع (عِ لُنْ) المكوَّن من مقطع قصير مفتوح ومقطع طويل مغلق يتوافق وَ(يُدَنْ – جَدا) كُلُّ ذلك عقد الصلة في إنتاج ارتكازين هامين واحد أساسي والآخر ثانوي مِمَّا أدى إلى إحداث طبقتين إيقاعيتين نتجتا عنهما انهيار داخل بنية البيت تخلقه رغبة قوية من الشاعر لمواجهة الواقع بحلوه ومُرِّهِ وعدم الخضوع لأهواله، وهو ما جسَّدته عبارة (وَتَرَفَّعتُ عَن جَدا كُلِّ جِبسِ)، المكوَّنة من خمسة مقاطع قصيرة، وسبعة طويلة منها خمسة مغلقة، واثنان مفتوحة، ليصير مجموعة مقاطع الشطر الثاني اثنا عشر مقطعا، وهو الحال نفسه بالنسبة للشطر الأول.

والملاحظ على هذه البيت هو غلبة المقاطع الطويلة على القصيرة، وهو ما خلق تأزم نفسي عند الشاعر الذي أراد أن يعبر عن هواجسه من خلال كلمات موحية بمعاني تحمل في طياتها أحزانه وآلامه، فالشاعر امتطى مطيته حاملا همومه إلى ديار الفرس البالية، لعلَّه يجد في مصيبتها بفقد أهلها ما يخفف من مصيبته وفجيعته بفقد المتوكل وشعوره بالجفوة من قبل المنتصر (ابن المتوكل)، تذكر أولئك الذين كانوا يعيشون مطمئنين في ظل قصر الملك العظيم (القصر الأبيض) العالي الشاهق الذي من شدة ارتفاعه يتعب العين ويضعفها.

وهكذا هي الحياة، فالمصائب تذكر وتنسى، والمصيبة الكبيرة تنسينا الصغيرة، أو الصغيرة تذكرنا بالكبيرة، لكن كل شيء قد تغير فأصبح هذا القصر خاليا من الناس، فتصدع البنيان ينطق بفجيعة من كانوا فيه، فالليالي بمصائبها وكوارثها قد صيرته بعد أن كان سكن الملوك الحافل بأعراس الزمان مكانا مأتميا هو والقبر سواء، ولكنَّه رغم ما هو عليه من بؤس وتداعي وتهدم –شأن نفية الشاعر – صابر متماسك ينطق بعظمة القوم وأصالتهم تاريخيا، ورقيهم فنا وعمرانا، فانسجمت الدوال مع المدلولات لتحقق الدلالة المرجوة.

ومن قول البحتري أيضاً:

عَجَباً لِطَيفِ خَيالِكِ المُتَعاهِدِ = = وَلِوَصْلِكِ المُتَقارِبِ المُتَباعِدِ [8]

يسير النسق الإيقاعي لهذا الوزن وفق مقاطع طويلة تكمن في ( باً - طَيْ - يَا - كُلْ – عَا - والدال بالإشباع من الشطر الأول، ووَصـْ- كِلْ - قَا - بِلْ- بَا- والدال بالإشباع من الشطر الثاني) صوَّرت كلُّها حالة التعجب والتعهُّد وعقد الصلُّة، وهي سمات صوتيَّة راع فيها البحتري نفسيته وعلاقتها بالمتلقي، كما كان للمقاطع القصيرة دور فعالا في تأدية مراد الدلالة، وقد ساعدت عملية التصوير هذه صيغتي (المُتَقارِبِ والمُتَباعِدِ) فكان لهذا الطباق شأناً كبيراً في انسجام الدوال مع المدلولات.

ومن قوله كذلك:

وَمُستَضحِكٍ مِن عَبـرَتي وَبُكائي = = بِكَفَّيـهِ دَائي فِي الهَـوَى وَدَوَائِي [9]

المقاطع في النظام الإيقاعي لهذا البيت بناء متماسك مركب التناسب متقابله متضاعفه وهو الرأي الذي ذهب إليه حازم حين قال:

"أَوْزَانَ الشِعْرِ مِنْهَا مُتَنَاسِبٌ تَامَ التَنَاسُبِ مُتَرَكِبُ التَنَاسُبِ مُتَقَابِلُهُ مُتَضَاعِفُهُ، وَذَلِكَ كَالطَوِيلِ وَالبَسِيطِ، فَإن تَمَامَ التَنَاسُب فِيهَا مُقَابِلُهُ الجُزْءَ بِمُمَاثِلِهِ، وَتَضَاعُف التَنَاسُب هُوَ كَوْنَ الأَجْزَاء التي لَهَا مُقَابلات أَرْبَعَة، وَتَركَبَ التَنَاسب هُوَ كَوْنَ ذَلِكَ فِي جُزْئَيْنِ مُتَنَوِعَيْنِ كَفَعُولُنْ وَمَفَاعِيلُنْ فِي الطَوِيلِ " [10]

وهو الأمر المروم إليه في هذا البيت، فجملة: (وَمُستَضحِكٍ مِن عَبـْ) والمكوَّنة من مقطعين قصيرين مفتوحين، وهي: (وَ- حِ)، وخمسة مقاطع متوسطة مغلقة، وهي: (مُسِـ- تَضْـ- كٍ بحساب التنوين- مِنْ- عَبْـ) تساوي جملة (بِكَفَّيـهِ دَائي فِلْ) والمكوَّنة كذلك من مقطعين قصيرين مفتوحين، وهي: (بِ- هـِ)، وخمسة مقاطع متوسطة، ثلاثة منها مغلقة، وهي: (كَفْ- فَيْـ- فِلْ)، واثنان مفتوحان، وهي: (دَا- ئي) عروضيًا وزمانيًا من الشطر الأول والثاني.

وجملة (تي وَبُكائي) تساوي كذلك جملة (الهَـوَى وَدَوَائِي) من الشطر الأول والثاني، بيد أنَّ الوحدة الزمنية الثالثة والرابعة، والسابعة والثامنة من البيت التزم فيها الشاعر بالنقص عن طريق زحاف القبض، وهو إنقاص السبب الخفيف من آخر التفعيلة، وهو ما يتناسب مع الضرب الثالث لبحر الطويل الذي تكون فيه العروضة مقبوضة وجوبا، والضرب محذوف.

إلا أنَّه في هذا المثال جاءت العروضة محذوفة، توافقت مع الضرب في الوزن والروي، وهو ما حقق مبدأ التصريع الذي خرج فيه الشاعر عن مألوف القاعدة ليعبر عن قيمتين متضادتين، فالأولى إيجابية تمثلت في الضحك، والثانية سلبية تمثلت في فيض سيكولوجي هو البكاء.

وهي هاهنا مرتبطة بالمحسوسات، لأنَّها سمة من سمات النظم في شعر البحتري، وهذا النقص في المقطع الطويل قد أدى إلى تكوين مقطع قصير، وبسبب هذه العلة الطارئة على المقطع الأخير - في نهاية كل شطر- أمكن الجمع بينه وبين المقطع الذي يليه، -وهو طويل مغلق- ليؤلفا معا مركبا صوتيا هو ما سمَّاه الخليل بالوتد المجموع [11] وهو اصطلاح المحدثين، ويتكون من مقطع قصير مفتوح يليه مقطع طويل.

فحذف هذا الساكن طلب تعويضاً تفادياً للاختلال في زمن النطق وحفاظا على الاعتدال، فقد عمل على تنقيص زمن السبب الخفيف، وذلك بنقل المقطع الطويل إلى مقطع قصير.

فوزن الطويل من الأوزان القوية التي يكون الوقوف في نهايتها على سببين [12]، وذلك في (عيلن) من (مفاعيلن)، فهذان السببان الخفيفان لو زاحفنا الأول منهما بالقبض لحصلنا عند القراءة على وتِد مجموع ضروري في حفظ بنية البيت الشِّعري، يعد النواة الأساسية للشعر العربي، ومحطة أنظار الشعراء القدامى.

فهذه نازك الملائكة تلجأ إلى التفسير باستخدام المدلول الاصطلاحي للوتد المجموع فعدَّت التفعيلة كأنَّها جزئيات التربة، وعدَّت الوتِد العَرُوضي وَتِداً حَقيقيا يُثَبَّتُ بين جزئيات هذه التربة، فيخرقها بل ويشبعها، وارتبط هذا التناول بورود هذا الوتِد الذي أسمته بالوتِد العنيف في نهاية التفعيلة [13] وهو جزء منها مكوَّن من مقطع قصير يليه مقطع طويل كما في آخر (مفاعيلن) بالزحاف الذي اتضح شكله مع المثال السابق.

والبحتري في هذه الأمثلة كلّها استخدم المحسوس لأغراض معينة كمدح أصحاب السمو، ووصف الطبيعة الحَيَّة والصامتة، والتغزل بالحبيب.

والكلام عن المقطع الصوتي يطول، ولو شأن أن نتتبع الاستخدام الفني له لأتينا بأمثلة كثيرة تدل على ما بيَّناه غير أنَّنا أتينا بهذا القليل، ولعلَّه يكفي في البرهنة على أنَّها سِرٌّ من أسرار النظم في شعر البحتري.

= = = = =

الهوامش

[1] أحمد عمر المختار، دراسة الصوت اللغوي، ط 3 عالم الكتب ، مصر 1985، ص 135.

[2] تمام حسان، مناهج البحث في اللغة، مكتبة الأنجلو مصرية 1955، ص 138 وما بعدها.

[3] المرجع نفسه، ص 141، وأحمد حساني، مباحث في اللسانيات، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر 1994، ص94.

[4] ينظر: تمام حسان، مناهج البحث في اللغة، ص 145.

[5] المرجع نفسه، ج 2، ص 1152.

[6] جورج غريب، سليمان البستاني في مقدمة الإلياذة، دار الثقافة بيروت (د.ت)، ص 35.

[7] علي الجندي، الشعراء وإنشاد الشعر، دار المعارف بمصر، ص 106.

[8] البحتري، الديوان، تحقيق حسن كامل الصيرافي، دار المعارف ط3 القاهرة 1977. ج1، ص 507.

[9] البحتري، الديوان، ج1، ص 43.

[10] حازم القرطاجني، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ص 259.

[11] حازم القرطاجني، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ص 236.

[12] المصدر نفسه، ص 260.

[13] ينظر: قضايا الشعر المعاصر، ط7، دار العلم للملايين بيروت 1983، ص 98 وما بعدها.

قائمة المصادر والمراجع

1- أحمد حساني، مباحث في اللسانيات، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر 1994.

2- أحمد عمر المختار، دراسة الصوت اللغوي، ط 3 عالم الكتب ، مصر 1985.

3- البحتري، ديوان البحتري، تحقيق حسن كامل الصيرافي، دار المعارف ط3 القاهرة 1977.

4- تمام حسان، مناهج البحث في اللغة، مكتبة الأنجلو مصرية 1955، ص 138 وما بعدها.

5- جورج غريب، سليمان البستاني في مقدمة الإلياذة، دار الثقافة بيروت (د.ت-د.ط).

6- حازم القرطاجني، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق محمد الحبيب بن الخوجة، ط2، دار الغرب الإسلامي، بيروت 1981.

7- علي الجندي، الشعراء وإنشاد الشعر، ، دار المعارف بمصر، (د.ت-د.ط).

8- نازك الملائكة، قضايا الشعر المعاصر، ط7، دار العلم للملايين بيروت 1983.

D 27 تشرين الأول (أكتوبر) 2014     A عبد القادر شارف     C 1 تعليقات