عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

د. يسري عبد الغني عبد الله - مصر

العلاقة بين التعليم والثقافة


يسري عبد اللهما زال مفهوم الثقافة لدينا غامضا. وعندما أردنا التعريف بمعنى الثقافة ترجمناه من اللغات الأجنبية، ولم نصل إلى تعريف واضح المفهوم حتى يومنا هذا. إن كلمة ثقافة في اللغة العربية تعني الحذق، فقد ثقف فلان العلم والصناعة أي أجادهما وعرفهما. وثقف فلان ثقافة، أي صار حاذقا فطنا. وثقف الشيء أقام المعوج منه وسواه. وثقف الإنسان، أي أدبه وهذبه وعلمه. وتثقف فلان على يد فلان أي تعلم وتهذب.

كل هذه المعاني لها صلة بمفهوم الثقافة التي تشمل العلوم والفنون والآداب والمعارف والعادات والتقاليد والقيم والمبادئ، ولكنها ليست تعريفا للثقافة، وهي تربط بين التعليم والتثقيف ولا تفرق بينهما. وجاء البعض ليفرق بين التعليم والتثقيف، وشاع عند العرب في عصرنا تفريق بين المتعلم والمثقف، حتى قال أحدهم: إن المثقف قد يكون أميا لا يقرأ ولا يكتب. وهذه إحدى عجائب هذا الزمان!

لم ندرك أن الثقافة هي القمة العالية الرفيعة الجميلة المحققة للرقي والتحضر والوعي التي نصل إليها بعد أن يتحقق للناس تعليما محترما راقيا، والذي قال عنه طه حسين صاحب كتاب "أزمة الثقافة في مصر" أنه للناس مثل الماء والهواء.

والشيء العجيب هو أن بعض الفنانين في بلادنا يطالبون بوضع اللوحات الفنية والتماثيل في المباني العامة الكبرى لتزيين القاهرة مثلا. وقد استجابت الدولة لهم، ولم يدركوا أن مدينة القاهرة المكتظة بأكثر من عشرة مليون نسمة تحتاج إلى كنس ورش ونظافة حواريها وأزقتها وشوارعها وميادينها. وبالطبع لا يصح أن نضع اللوحات الفنية والتماثيل وسط مزابل، فاللوحة الفنية توضع على جدار لا يكتب عليه كلمات بذيئة.

لا داعي للغضب عندما أشير إلى هذه السلبيات، فقد عشت طفولتي وشبابي وكهولتي وشيخوختي التي أعيشها الآن في القاهرة، وكم كتبت عنها! فأنا أعشق قاهرتي الصامدة، وأشد وجدا بها، وعليه ليست المشكلة يا سادة أن تكون في بلادنا وزارات للثقافة، ولكن المشكلة أن تكون عندنا ثقافة ولدينا وعي وإدراك وفهم وتحضر.

كان أحمد أمين هو الذي دعا إلى إنشاء الجامعة الشعبية، من أجل تعليم الناس وتثقيفهم. وأحمد أمين أستاذ جامعي، وكان عميدا لكلية الآداب بجامعة القاهرة، ولكنه رأى أن الارتقاء بجماهير الأمة لا نستطيع الوصول إليه عبر باب الجامعة، وعليه يحتاج الناس إلى إنشاء جامعة شعبية تعلمهم وتثقفهم وتوعيهم، وكان أول مدير لهذه الجامعة، في الوقت الذي كان فيه صاحب مفهوم حضاري عصري لمعنى الثقافة.

طالب أحمد أمين بأن نعلم الناس العلوم الميسرة، والفنون البسيطة، والصناعات الفنية، وبذلك نستطيع جعل رجل الشارع الذي يقرأ ويكتب رجلا مثقفا. ولم يكن عند أحمد أمين مفهوم واضح للثقافة، لأن موجة العصر أيام أحمد أمين كانت قد بدأت في الحديث عن الثقافة والرجل المثقف في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وبدأت في أوروبا حركات فكرية يقودها طائفة من الناس أطلقوا على أنفسهم لقب "الخلصاء"، وسميناهم نحن في اللغة العربية "المثقفين".

الترجمة خاطئة، والمفهوم خاطئ. وليس لفئة الخلصاء صلة بمفاهيم الثقافة أو التعليم، ولكنهم فئة تدافع عن العقائد والأفكار والأيديولوجيات عن طريق الفكر، وهم صفوة المجتمعات المتصارعة فكريا بعد الحرب العظمى الثانية. وكان بعضهم من الماركسيين، وآخرون اشتراكيون، وفئة ثالثة من دعاة الرأسمالية الحرة، وهم يغلفون مذاهبهم السياسية بغلاف الفكر والفن، كما أنهم، كما يدل عليه اسمهم، الفئة المختارة في مجتمعاتنا.

ولكن أحمد أمين فهم الثقافة فهما عربيا، وأدرك احتياجات بلادنا العربية في عصره إدراكا واعيا، فأقام الجامعة الشعبية التي تعتبر أساسا لهيئة قصور الثقافة أو الثقافة الجماهيرية في أيامنا، وكان الرجل بحق صاحب تفكير عملي واقعي، حتى أنه جعل صناعة حياكة الثياب وفنون التطريز وأشغال الإبرة للفتيات من مواد الدراسة في جامعته الشعبية. وكانوا يعلمون في هذه الجامعة فنون الرسم والموسيقى والمسرح وغيرها من الفنون الجميلة، إلى جانب بعض المهن البسيطة مثل النجارة والسباكة والكهرباء.

ويبدو لي اليوم أن هذا الأستاذ كان سابقا لعصره، لأنه بفكر العالم الأكاديمي المستنير استطاع تحديد المفاهيم الثقافية والشعبية، وكان قد بدأ في كتابة دائرة المعارف الشعبية التي تعتبر من الدراسات الطليعية في دراسة الأدب الشعبي المصري في عصرنا، وهي مرجع أصيل ينهل منه كل من كتب في مجال الأدب الشعبي أو الفلكلور بوجه عام.

ولكن مفهوم أحمد أمين للثقافة كان يرتبط دائما بمفهوم التعليم. ويبدو أنه كان يعتبر الثقافة أو تثقيف الناس وتوعيتهم مرحلة موازية لمرحلة التعليم، ولذلك فإنه عندما عقد المؤتمر الثقافي الأول في لبنان خلال سبتمبر (أيلول) 1947، كان أحمد أمين مديرا للإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية، وهو الذي دعا للمؤتمر، فأضفى على هذا المؤتمر فكرته، فكانت المحاضرات تدور حول التعليم.

كانت خلاصة التفكير في معنى الثقافة في فعاليات هذا المؤتمر الثقافي الأول للعرب، هو ما قاله واصف البارودي، وهو من أعلام الفكر اللبناني، حيث أكد على أن الثقافة ليست كما يعتقد الكثيرون لتكوين الصفوة ولتكوين مجتمع لائق بها سلبا وإيجابا، أي يعرف كيف يتجه معها ما دامت على حق، وكيف يوجهها أو يستغنى عنها متى انحرفت عن المسير، فهي تكون مجتمعا يعرف كيف يعيش، ولا تعترف بأي مجتمع يصنع من البشر أوثانا وآلهة يعبدها من دون الله. وهكذا ربط هذا المثقف المتميز في وقت باكر بين الثقافة والأيديولوجية، في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.

وفي تلك الأثناء من تاريخ الفكر العربي المعاصر، ألف طه حسين كتابه "أزمة الثقافة في مصر". وحاول ربط مصر بثقافة البحر الأبيض المتوسط، وهاجمه كثيرون (وما زالوا يهاجمونه حتى يومنا هذا)، وقالوا: إن ثقافة مصر ترتبط بثقافة العرب، وليس مع ثقافة البحر المتوسط.

نعود لنسأل: ما هي الثقافة؟ هل هي تكوين الصفوة المختارة في المجتمع؟ هل هي توصيل أنواع معينة من المعارف والمهارات والفنون إلى جماهير الشعب؟

في المؤتمر الثقافي العربي الثاني الذي عقد في مدينة الإسكندرية من 22 أغسطس (آب) إلى 3 سبتمبر (أيلول) 1950، استمر أحمد أمين في دعوته للتعليم، وقال كلمته المشهورة: كل الأقطار العربية تتذبذب بين مبدأين مشهورين، وهما : التعليم للجميع، وفتح أبواب الجامعات والمدارس العليا على مصاريعها، أو تقييد ذلك بنخبة من أبناء الأغنياء ونوابغ الفقراء.

كانت الثقافة في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن العشرين تلتقي دائما مع التعليم، وكانت تعتبر المثقف من الصفوة المختارة في المجتمع، على طريقة المجتمعات الأوروبية والأميركية المتقدمة. ثم انفصلت الثقافة عن التعليم، وأنشأنا وزارات للثقافة في مجتمعات غير متعلمة.

لم توجد ثقافة في الدنيا بلا علم، ولم يوجد في الدنيا علم بلا تعليم محترم، وهي قضية بديهية لا تحتاج إلى ذكاء أو مهارة. لم ينبغ كبار المثقفين العرب خلال الجيل الماضي في مختلف المجالات إلا بالعلم والتعليم والمعرفة. القضية أخطر مما نتصور، لأنها قضية التقدم أو التخلف، وليست قضية وجود وزارات للثقافة أو إلغاء هذه الوزارات.

القضية هي: ثقافة بلا علم لا تساوي شيئا، وعلم بلا ثقافة لا يساوي شيئا. قضية خطيرة هي ميزان التقدم الذي نريده. ومن كانت في يده كفتان للميزان: العلم والثقافة يستطيع الوصول إلى الأفضل والأحسن، ويستطيع أن يدوس بقدميه على جميع أنواع التخلف.

D 27 تشرين الأول (أكتوبر) 2014     A يسري عبد الله     C 1 تعليقات

1 مشاركة منتدى

  • د.يسري عبد الغني تحية طيبة لعل السؤال المؤرق الذي أثرته في أذهاننا هو :لماذا يزداد تخلفنا رغم أن مجتمعاتنا زاخرة بحملة الشهادات ؟وهي فقيرة بالمعرفة هل هي الأيديولوجيات أم انفصام مستوى التعليم بين الطبقات ؟الأثرياء يتلقون تعليما نخبويا والفقراء يتلقون تعليما بسيطا يتداخل فيه الدين بالخرافة لا سيما أن سلطة المجتمع تغلب سلطة الأفراد الحديث حول هذا الموضوع ذوشجون ولا أريد القياس على الماضي لأقول أن حالنا أيام أحمد أمين وطه حسين كان أفضل .نأمل ان ننهض ونصحو .لك كل التقدير.


في العدد نفسه

كلمة العدد 101: الكتابة المحايدة جندريا

نص الصـورة: فرانكشتاين في بغداد لأحمد سعداوي

بناء المقاطع الصوتية ودلالتها في شعر البحتري

الإبداع في مجتمع المعرفة

مظاهر التّفكير الخرافي في المجتمع الجزائري