أوس حسن - العراق
متاهة باردة
أطفأت المكتبة التي تقع في الطابق الخامس أنوارها، وغادرها الموظفون والقراء إيذانا بانتهاء الدوام. لم يبق سواي جالسا على مقعدي متأملا هذا الصمت العميق الممزوج بالعتمة والوحشة الرهيبة. حملت نفسي رويدا رويدا، أجر خطواتي المتثاقلة خارج القاعة، لا شيء سوى صدى الذكريات وصوت ارتطام حذائي على أرضية القاعة. المكان معتم وكئيب كلحن جنائزي تحرر توه من أغلال الزمن.
المصاعد الكهربائية الثلاثة التي انتظمت بصف واحد كانت جميعها معطلة، إلا واحد كان بعيدا، ويضيء بشكل غريب ومثير للريبة، توجهت فورا نحوه، كبست الزر الذي يفتح باب المصعد ودخلت. فجأة أغلق الباب بشكل قوي، وكأن أحدهم ضربه بقوة محكمة.
الوقت الذي يستغرقه نزول المصعد من الطابق الخامس إلى الطابق الأرضي أقل من دقيقة. ورغم أن عملية النزول كانت أسرع من المعتاد هذه المرة، إلا أن المصعد لم يتوقف، وبدأ يسير بشكل متسارع جدا.
أحسست أن جسدي أصبح خفيفا وقادرا على التحليق، بدأت قدماي ترتفعان عاليا وتفارقان الأرض، بدأت أشعر أن يديّ تتحولان شيئا فشيئا إلى جناحين كبيرين، وأن قوة تسحبني من جسدي، لكن في نفس الوقت كنت أرى نفسي متسمرا واقفا في المصعد بقبعتي ومعطفي الطويل، وبيميني مجموعة الكتب التي اشتريتها اليوم.
فتحت باب المصعد بعد أن تحول المصعد إلى تمثال إغريقي قديم يومئ لي بيده، ويحني رأسه أمتنانا وعرفانا بالجميل. رأيت نفسي في ممر طويل. بدأت أسير في الممر تعتليني سحابة من الدموع والدخان، أجر ورائي خُطاي الغريبة وظلالي التي لا تشبهني.
على جانبي الممر كانت هناك جدران زجاجية أو شبه لي ذلك، يراها العابر ويرى ما بداخلها دون أن يراه سجين هذه الجدران.
رأيت ما لم أرى. رأيتني طفلا أجلد بعِصا من نار، كنت أبكي وأتوسل وأتضرع وما من مجيب، كانت النار تلتهم أحشائي وقلبي، وأرى الثعابين وهي تخرج من أنفي وأذني، وأنا أصرخ مرتعشا: "بابا. ماما".
رأيت رجالا بمعاطف طويلة، رجالا بلا وجوه ولا ملامح يجرون عربات تتكدس فيها لحوم البشر، وكائنات لها ذيول وقرون، وعيون مستطيلة يخرج منها لهب أزرق.
كانت الأرض تميد من تحتي وتـنصهر من شدة الحرارة، فكلما مشيت مسرعا أحسست بقدميّ تغوران إلى الأسفل، وتتباطأ حركة الأشياء من أمامي، وكلما صرخت لا أسمع صوتي، لا أسمع سوى ناقوس يدق في أذني، ناقوس تتبعه جنازة لساحر شرقي قديم عرف قديما بأنه الطبّال ذو الرأسين والأطراف الثمانية.
أحسست بوخزة في ظهري، نظرت يمينا فلم أجد أحدا، ونظرت يسارا فوجدت العجوز التي قتلت قبل فترة في زقاقنا ولم يعثر أحد على جثتها، كانت نحيلة صفراء ويسيل من وجهها سائل أبيض، ولها فم مجوف، وفيه نابان معقوفان، وأظافرها طويلة وحادة كالسكين، لها فحيح كالأفعى، وأطرافها متشابكة كغصون الشجر، كلما حاولت الركض كانت تخزني في ظهري، وتحاول أن تتقدم أمامي وتطعنني في عينيّ البريئتين.
أصبحت الأرض ثقبا لزجا وساخنا، التف الثقب على جسدي بشكل لولبي وهو يسحبني إلى الأسفل، لم أسقط في الهاوية السحيقة بل كنت أرتفع، وأحلق عاليا، عاليا تتبعني آلهة العالم القديم؛ الآلهة المدججة بالوصايا واللعنات.
كنت أطير فوق مدن باردة ومعتمة، وأدخل متاهات رمادية، أرى وجوها أعرفها ولا أعرفها، وجوها تتبدل هيئاتها وملامحها وأصواتها بين لحظة وأخرى، جمعت في كفي مدنا من الرماد، مدنا صارت نجومها حبر الحكاية الموت. إنها المدن التي لم تشرق الشمس فيها يوما. إنها المدن لا تزورها الظلال ولا تقرع فيها الأجراس.
رأيت أيضا الكنز المخبوء في أعماق أعماقنا، إنه السر الأعظم الذي ظل عصيا على الفهم، السر الذي كان سينهي أسطورة الخديعة والسراب البشري المتناسل.
لم أستطع أن أرى وجهي يوما في المرايا، فالمرايا هي وجهي القبيح وعاري الذي لن يمحى إلا بفنائي.
لكنني رأيت وجهي في المرايا هذه المرة، كان وجهي مليئا بالثقوب والدمامل المتقيحة، يستطيل ويأخذ أشكالا هندسية وهلامية، كانت تفوح مني رائحة جثة قديمة. آآه ما أقبح رائحة الموت التي تتسلل هاربة من مسامات جلدي! وما أقبح هذه اليد العارية ذات الأظافر الطويلة والحادة! اليد التي تخرج لي كل يوم في الظلام من تحت السرير، أو تمتد إليّ من تحت الغطاء.
هذه كانت ولادتي من الرحم الأول، ولادتي كانت صعبة وعسيرة وملوثة بالخطايا، أردت أن يزورني سيد الحكمة القديمة، أو أن يتمثل جسدي الشفاف؛ لذا كان عليّ أن أكون خارقا ومحطما للعادة، كان عليّ أن أعيش هذه التناقضات بكامل الغبطة والسعادة، أن أهزم الموت والجنون؛ لكي أولد من هذا الرحم مرة أخرى نقيا كسر الماء وحرا إلى الأبد.
- عود الند: تصميم خاص بالعدد الفصلي الرابع
◄ أوس حسن
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ