عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 
أنت في : الغلاف » أرشيف أعداد عـود الـنـد » الأعداد الشهرية: 01-120 » السنة 10: 108-120 » العدد 113: 2015/11 » كلمة العدد 113: التمسك بالمبادئ يثمر ولو بعد حين

عدلي الهواري

كلمة العدد 113: التمسك بالمبادئ يثمر ولو بعد حين


.

عدلي الهواري 2014جيريمي كوربن (Jeremy Corbyn) نائب في مجلس العموم البريطاني. سطع نجمه في الآونة الأخيرة بعد فوزه بزعامة حزب العمال بحوالي ثلثي أصوات أعضاء الحزب والمؤيدين المسموح لهم بالتصويت. حكايته تستحق أن تروى لأن فيها الدليل على أن التمسك بالمبادئ ليس مضيعة للوقت، أوعديم الفائدة، وتقدم مثالا آخر على أن الإعلام يفقد تأثيره عندما يتبلور تيار جماهيري يريد شيئا مختلفا عما تردده وسائل الإعلام.

كان كوربن معروفا بأنه نائب يساري. إنجازه الأكبر كان استمراره في تمثيل دائرته الانتخابية حوالي ثلاثين سنة، ظل خلالها مهمشا، فلا يتولى مناصب وزارية عندما يفوز حزب العمال في الانتخابات العامة، ولم يحد عن يساريته عندما نجح تيار في الحزب عام 1995 في تغيير شخصيته من حزب اشتراكي إلى آخر لا يختلف كثيرا عن حزب المحافظين.

تعرض حزب العمال للهزيمة في انتخابات عام 2015، لذا استقال زعيم الحزب اد ميليباند (Ed Miliband)، كما يحدث عادة في الدول الغربية عندما يخفق مسؤول في تحقيق المتوقع منه. كان ميليباند محسوبا على التيار اليساري للحزب، ولذا حاول كثيرون من داخل الحزب وخارجه تفسير الفشل بأنه راجع ليسارية ميليباند، وقالوا إن الأمل في الفوز في المستقبل يكمن في بقاء الحزب كما كان في عهد توني بلير.

حيريمي كوربنعندما تشاور يساريو الحزب بشأن قضية التنافس على قيادته، رسا القرار على اختيار جيريمي كوربن. كان دخوله وغيره إلى حلبة المنافسين مشروطا بالحصول على توقيع ثلاثين نائبا من نواب حزب العمال في مجلس العموم، وقد حصل على العدد المطلوب قبل لحظات من إغلاق باب الترشيح.

وسائل الإعلام وكثيرون في حزب العمال نفسه كانوا مستخفين بترشيح جيريمي كوربن، وبعض من وقّعوا على أوراق ترشيحه فعلوا ذلك لأنهم كانوا مقتنعين بأن فرص نجاحه معدومة، ولكنهم لا يمانعون أن يكون ترشيحه عاملا مساعدا على تنويع النقاشات أثناء الحملة الانتخابية.

بعد أن بدأ كوربن يتحدث إلى الجماهير المعنية بانتخابات قائد جديد للحزب، نال إعجاب الكثيرين بأسلوبه الصادق الخالي من الكلام المراوغ الغامض الذي يستخدمه الكثير من السياسيين. وأعرب صراحة عن معارضته لبرامج التقشف الحكومية. وبدأ الحزب يشهد إقبالا شديدا على التسجيل كأعضاء أو مؤيدين يحق لهم التصويت في انتخابات قيادة الحزب بغية التصويت لكوربن.

وهكذا، وخلال فترة وجيزة تحول كوربن من المرشح الشكلي، إلى منافس حقيقي على زعامة الحزب، ولذا بدأ القصف الإعلامي الشديد عليه. حتى توني بلير وغوردون براون، وهما زعيمان سابقان للحزب، حثا على عدم انتخابه.

وعندما أعلنت نتائج الانتخابات، كان الفوز من نصيب جيرمي كوربن بحوالي ستين في المئة من الأصوات، وهي نسبة أعلى من تلك التي حصل عليها توني بلير في الماضي.

لم يهنأ جيرمي كوربن بلحظة استراحة، لا داخل الحزب ولا في وسائل الإعلام، وحزب المحافظين الحاكم سارع إلى القول إن كوربن خطر على أمن بريطانيا القومي، وإحدى الصحف البريطانية زعمت أن ضابطا كبيرا قال إن الجيش مستعد للتمرد في حال أصبح جيريمي كوربن رئيسا للوزراء[1].

إذا أردت أن تبحث عن شبه بين وسائل الإعلام العربية والغربية في أداء دور البوق للسلطة أو من يملكها أو يمولها ستجد الشبه بسهولة في التغطية الإعلامية لدخول جيريمي كوربن غمار المنافسة على قيادة حزب العمال.

ولكن كل هذا القصف الإعلامي العدائي الكثيف لم يفلح، لأن تيارا جماهيريا تبلور وتحول إلى تيار جارف لا يوقفه ما يقال في وسائل الإعلام، ونجح التيار في إيصال كوربن إلى قيادة الحزب.

نجاح كوربن هذا لا يعني أنه سيفوز في الانتخابات العامة القادمة التي ستجري بعد حوالي خمس سنوات، وفوزه لا يعني أيضا أنه سيبقى زعيم الحزب حتى خوض الانتخابات القادمة، فمن الممكن تحدي زعامته حسب إجراءات معينة، فتتم انتخابات جديدة، وقد حدث مثل هذا التحدي لزعامة ثاتشر، ولكن بعد أن خاضت الانتخابات العامة ثلاث مرات.

كذلك، نجاح كوربن في الانتخابات العامة بعد خمس سنوات، وتولي رئاسة الوزراء، لا يعني أن خصومه في المجتمع سوف يستسلمون، بل ستكون هناك مقاومة لكل خطوة من خطواته.

يحاول خصوم كوربن والإعلام في أغلبيته إظهار أن فوزه بلا جدوى، وأن هزيمة الحزب تحت قيادته في المستقبل ستكون أكبر من التي جرت قبل شهور. ولكن هذه الأقوال هراء، فإذا حظيت رسالة كوربن بتأييد مماثل للتأييد الذي حصل عليه داخل جمهور حزب العمال، فسوف ينجح في الانتخابات العامة كما نجح في انتخابات قائد الحزب. وهذا ممكن، وحصل في الماضي، فالشعب البريطاني انتخب زعيم حزب العمال كليمنت آتلي (Clement Attlee) وفضّله على تشيرتشل الذي قاد بريطانيا أثناء الحرب العالمية الثانية.

لم أكتب هذه الكلمة لمناقشة السياسة البريطانية واحتمالات الفوز والخسارة لحزب أو شخص ما، بل لأن في هذه الحالة جوانب ذات صلة بالعمل السياسي والوطني في كل مكان.

أول هذه الجوانب هو ضرورة الإخلاص للمبادئ النبيلة. ظل كوربن نائبا يساريا كل الوقت. من السهل أن يختلق الإنسان لنفسه الأعذار لينتقل من صف إلى آخر، وظاهرة اليساري السابق في العالم العربي كتب عنها الكثير لأن اليساريين الذين غيروا مواقعهم كثيرون أيضا، والذين غيروا مواقعهم ليسوا اليساريين فقط، وتغيير المواقع لم يكن مقتصرا على أفراد.

وثاني هذه الجوانب عدم السير مع التيار الرائج السائد مهما كان سيئا، فالكلام الذي يتكرر كثيرا في الإعلام لا يعني أنه صحيح. وسائل الإعلام تحاول ان تقنعنا بأنها تعرف أكثر مما تعرف حقا، وكثيرا ما تستخدم تعبير "مفاجئ" أو "غير متوقع" مع أن هذا الوصف غير صحيح، فهي التي روجت لسيناريو معين، ولم يتحقق لها، إما لأنها خدعت نفسها، أو لأنها حاولت أن تساهم في تحقيقه وأخفقت.

وثالث هذه الجوانب ضرورة عدم افتراض أن كل الشعب يريد كذا، أو أن الشعب مجمع على هذا الأمر أو ذاك. حتى لو كان الأمر كذلك، يستطيع الأفراد أو الأحزاب تغيير الأفكار من خلال النقاش والحجج الأفضل وتقديم الرؤية الأوضح ورسم المسار الأفضل لتحقيق الأهداف التي تحقق مصلحة الشعب.

= = = = =

[1] The Sunday Times, 20 September 2015.

D 25 تشرين الأول (أكتوبر) 2015     A عدلي الهواري     C 4 تعليقات

4 مشاركة منتدى

في العدد نفسه

موضوعات شعر العقاد/ج2

الكرّاب عبر تاريخ المغرب/ج2

عرض لرواية حديقة خلفية

قـرطـان

أقوى من الحب