د. عدلي الهواري
كلمة العدد الفصلي 09: غزة لا تستكين
ملف: صامدون وعائدون
يصدر العدد الفصلي التاسع من مجلة "عود الند" الثقافية متزامنا إلى حد ما مع الذكرى السنوية السبعين لنكبة فلسطين، والحادية وخمسين لحرب عام 1967، والسادسة والثلاثين لغزو إسرائيل لبنان صيف عام 1982 بغية القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية. ويصدر أيضا بعد نحو أسبوعين من استشهاد العشرات وجرح المئات من المشاركين والمشاركات في مسيرة العودة إلى فلسطين المنطلقة من قطاع غزة المحاصر برا وبحرا وجوا.
الشعب الفلسطيني يقاوم منذ استهداف فلسطين لتصبح وطنا مصطنعا يُبنى ضمن سياق مشروع استيطاني لا يختلف كثيرا عن مشاريع استيطانية أخرى سبقته، نُفذت على أساس ادعاءات منها أن الأرض بلا شعب، أو أن المعتدي يحمل مشروعا حضاريا، أو أن لديه حقا إلهيا في هذه الأرض.
الشيء المختلف في حالة فلسطين أن المشروع الاستيطاني نجح إلى حد كبير ولكنه أخفق جزئيا. نجح في عام 1948 عندما تمكنت الحركة الصهيونية من تأسيس دولة إسرائيل، ولم يكن ذلك بجهود ذاتية بل بتعاون وتسهيل من بريطانيا في أوج قوتها كإمبراطورية. وأخفق المشروع جزئيا نتيجة بقاء بعض الشعب الفلسطيني على أرضه، وعدم نسيان بقية الشعب وطنه، فنبوءة رئيسة وزراء إسرائيل، غولدا مئير، بأن الكبار سيموتون والصغار سينسون لم تتحقق.
وثمة محاولات مكثفة في الآونة الأخيرة لجعل النجاح كاملا بطريقة مختلفة، ممثلة في فرض الأمر الواقع على الشعب الفلسطيني، فيظل مشتتا في مختلف أنحاء العالم، والباقون منه في فلسطين يعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية وأقل، أو يعيشون في معازل تديرها فئة من الشعب الفلسطيني تسمى سلطة ولكن ليس لها سلطة حقا.
فرص النجاح في ذلك قوية، ففي الولايات المتحدة حاليا رئيس يتعامل مع الدول العربية الثرية بأسلوب فارض الإتاوة. وهذه الدول تستجيب وتدفع مبالغ بالمليارات، بل وتبالغ في الانحناء له بالتظاهر بأن لديها قواسم مشتركة معه، كموقف مشترك من خصم خارجي مزعوم.
ثم جاء إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس، فجرد ما تبقى من كرامة متخيلة لدى الدول العربية، وخاصة التي تعتبر نفسها معنية أكثر من غيرها بشأن القدس، علما بأن الدول العربية ظلت تعوّل على أن القانون الدولي سينصفها ذات يوم، فبمقتضاه تعتبر القدس الشرقية والضفة الغربية والجولان وسيناء (قبل اتفاقية كامب ديفيد) مناطق محتلة.
ترمب ليس أول رئيس أميركي يتصرف دون أن يأبه بالقانون الدولي. ولكنه تجاوز أسلافه في عدم اكتراثه بمكانة القدس لدى العرب والمسلمين. كذلك، تم افتتاح السفارة الأميركية في القدس متزامنا مع الذكري السنوية السبعين للنكبة. وهكذا أضيف لجرح النكبة والاحتلال الدامي إهانة جماعية كبرى لعموم العرب من مسلمين ومسيحيين، وعموم المسلمين في العالم.
وسط هذه الأوضاع المثيرة للقلق على مستقبل القضية الفلسطينية، قدّم أهالي قطاع غزة في مسيرات العودة إلى فلسطين الدليل على أن الاستسلام خيار مرفوض. وخلافا لما يمليه التحليل المنطقي للأمور، تبين أن قطاع غزة المحاصر ينبض بالطاقة الخلاقة القادرة على المقاومة رغم توقع كثيرين انهيار الأوضاع في قطاع غزة، وبالتالي عزوف أهله عن الاهتمام بشيء سوى لقمة العيش وبحث الأفراد عن فرصة لمغادرته.
لو حدّثتَ أحدا من غزة عن الوضع هناك، لقال لك إن الوضع لا يطاق. وهذا صحيح، فعندما تحاصر منطقة صغيرة مكتظة بالسكان برا وبحرا وجوا، من غير المعقول أن يتظاهر المرء بأن الوضع فيها طبيعي، وأن الناس فيها بشر من طينة مختلفة. دول مستقلة كبيرة يؤثر فيها فرض عقوبات عليها، وبالتالي ستتأثر الأوضاع الإنسانية والاقتصادية كثيرا في قطاع غزة الذي يعتدى عليه مرارا رغم أنه محاصر.
ما يتعرض له قطاع غزة منذ سنوات عقوبة جماعية مخالفة للقانون الدولي[1]، ولكن لا أحد يهتم بالقانون الدولي عندما يتعلق الأمر بالشعب الفلسطيني، أو دولة من دول العالم الثالث، فهو سيف تسلطه الدول القوية، الغربي منها تحديدا، على بقية دول العالم، وتستثني نفسها مما تفرض على غيرها تنفيذه.
المنطق يقول إنه عندما يكون لدى شعب محاصر كل هذه الطاقة للصبر والمقاومة، فمثلها وأكثر متوفرة لدى بقية الشعب الفلسطيني، وتصبح هذ القدرة مضاعفة عندما يفتح المجال لدعمها من عموم الشعب العربي.
أكبر أكذوبة تتكرر هي أن الشعوب العربية غير مهتمة بالقضية الفلسطينية. المشاعر الحقيقة للشعوب العربية ليس لديها الفرص الكافية للتعبير عن نفسها، إضافة إلى إغلاق سبل تقديم الدعم العملي مثلما كان يحدث في الماضي قبل استبدال المقاومة بسلطة حكم ذاتي اسما. ولكن الجهود المبذولة لمقاومة تطبيع العلاقات مع إسرائيل حتى في الدول التي وقعت معاهدة سلام رسمية معها لا تزال مستمرة، وهذه الجهود أكمة وراءها الكثير من التأييد الساكن للقضية الفلسطينية.
بعض الفيديوهات التي تنشر لأشخاص يوجهون الإهانات للشعب الفلسطيني، أو تكرار أكاذيب أنه باع أرضه، أو وجود نية لديه للاستيطان في هذه الدول العربية أو تلك أمور مرتبطة بمحاولات منهجية لفرض الأمر الواقع على الشعب الفلسطيني، واستعراض عضلات في الدول العربية لأغراض سياسية داخلية ليبدو من يستعرضها قائدا أو سياسيا عظيما. ولكن الحقيقة هي أن هذا الشعب يقاوم منذ بدء موجات الاستيطان في وطنه.
لا شك في أن تضحيات أهالي غزة تؤرق صاحب كل ضمير حي، فالحصار البري والبحري والجوي جريمة ضد الإنسانية، والمشاركة فيه عربيا وفلسطينيا وصمة عار لن تمحى ولن تنسى. في الوقت نفسه، هذه القدرة على المقاومة رغم صعوبة الظروف تعني أن العمل يجب أن يستمر من أجل مشاركة فلسطينية وعربية أكبر في جهود مقاومة الاحتلال واستعادة الحقوق، وعلى رأسها حق العودة.
حتى عالميا، هناك تعاطف مع الشعب الفلسطيني أكثر من ذي قبل، وسن القوانين لتجريم الجهود الهادفة إلى مقاطعة إسرائيل دليل على أن هذه الجهود أصبحت مؤثرة ولم يعد من الممكن تجاهلها. ولكن قبل التعويل على التأييد العالمي، الأولوية في حشد القدرات يجب أن تكون لمشاركة الشعب الفلسطيني في كل أماكن وجوده، ثم لمشاركة عربية أوسع، مثلما كان الوضع بعد انطلاق المقاومة الفلسطينية بعد حرب عام 1967.
الغزازوة لا يستكينون. هم محاصرون لأنهم أباة مقاومون. لا مستوطنات إسرائيلية في قطاع غزة، رغم محاولة زرعها هناك. ورغم حصارهم، هدموا الجدران وأزالوا الأسلاك الشائكة وخاضوا ثلاث حروب. لو كان لديهم العمق الجغرافي الذي يحتاجه المقاومون لتطورت مقاومتهم وزادت فعاليتها. يوما ما، لعله قريب، تنطلق مسيرات العودة إلى فلسطين من مناطق مختلفة ولا تتوقف إلا عند وصول المشاركات والمشاركين فيها إلى مدنهم وقراهم. لنستعد لمثل هذا اليوم.
= = =
◄ عدلي الهواري
▼ موضوعاتي
- ● كلمة العدد الفصلي 34: أعذار التهرب من المسؤوليات السياسية والأخلاقية
- ● كلمة العدد الفصلي 33: تنوير أم تمويه؟
- ● كلمة العدد الفصلي 32: حكّم/ي عقلك وأصدر/ي حكمك
- ● كلمة العدد الفصلي 31: قيم لا قيمة لها
- ● كلمة العدد الفصلي 30: النقد والمجاملات
- ● كلمة العدد الفصلي 29: عن الذكاء الصناعي (والغباء الطبيعي)
- ● كلمة العدد الفصلي 28: الورق والتمويل: وصفة الانتحار البطيء
- [...]
1 مشاركة منتدى
كلمة العدد الفصلي 9: غزة لا تستكين, هدى الدهان | 28 أيار (مايو) 2018 - 16:42 1
لفتت انتباهي عبارة وهي ان الشعب العربي غير مهتم او انهم يتهمون الفلسطينين ببيع ارضهم . الارض المغصوبة لها ثأر .ومن ادعى بان اهلها باعوها او انهم لم يقاوموا فان الثار القدري وضعه في مصاف الدول التي دخلها محتل او ثارت وبقيت في فوضى بعد الثورة او تهجر وتشتت اهلها في بلاد لم يكن يتخيل ان يذهب اليها لاجئاً.
الكل ذاق عقوبة ممكن ان ان تذكرهم جزء بسيط مما عاناه اخوانهم الفلسطينيون.الان فقط خرست الكثير من الالسن التي كانت تهتف وتكتب الشعارات وتكيل الاتهامات لاناس يعيشون في مخيمات بعد ان كانوا هم ملاكاً لللارض وزيتونها .