عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

طه بونيني - الجزائر

كلمات على جبين البؤس


طه بونينيبالقرب من ميناء يرصّع ساحلا جزائريا كجوهرة في جيد غادة، يقف شابّ يهوى البحر، يتأمّل وهو يرنو إلى العيش خارج إفريقيا. في جبهته يقدح الحماس، يتطاير الشرر، تشتعل نفسه بالحياة، ويبدو من عينيه المتوقّدتين أنّه لن يستسلم حتّى ينال ما يريد.

على جنبات شارع طويل فوضوي الملامح في مدينة جزائرية، ترتسم المحلّات والمقاهي والمديريات. على الرصيف طفلة، تحمل في يدها دمية، وبيدها الأخرى تشدّ يد أبيها الذي يمشي الهوينا بدون هدف. علّمها أبوها الحروف فصارت تقرأ اللّافتات وهي في سنّ الحضانة. وقد أصبحت تحسن تهجئة أسماء المحلّات والمقاهي والمديريات.

علّمها بعض الكلمات، أما المعاني فيتكفّل بتعليمها الزمن. بدأت بعض الكلمات تزحف على بياض عقلها، ونقاء سريرتها، كما تكتسح الغيوم صفحة السّماء.

لم تدرك الطفلة بعد معنى الفوضى والزحام والتلوّث والضجيج. هي لا تعرف القانون والجزاء والعقاب. لا تعي معنى اليأس والإحباط والغشّ وغيرها من العيوب التي يعرفها الكبار بالممارسة أو الأزمات. باختصار هي لا تزال تكتشف الحياة.

لقّنها أبوها سورة الفاتحة ولقّنتها بعض القنوات أناشيد الفتيات. أمّا الحياة فتطبع في نفسها الصغيرة آثارا عميقة. تتراكم الأجزاء الصغيرة، والتجارب الضئيلة، واللحظات العابرة، لتصنع فيها طبعا وشخصية، كما تتراكم الحفريات والأتربة في طبقات لتصنع جيولوجيا الأرض.

في ذلك الشارع، تحت اللّافتات يمشي شيخ مرهق قد وخط الشيب شعره، ورست التجاعيد في صفحة وجهه منذ أمد، ورسمت أشكالا وخطوطا تعبّر عن الوهن وانقضاء الحياة. وفي جبينه، تصرخ تقاطيع بأعلى صوتها وهي تقول: "فات القطار".

آه، آه من الأسمال التي يرتديها، والتي تأبى كلّ يوم أن يرتديها. ألوانها ترهق الأذواق، رائحتها تدعو الذباب المتخم إلى مائدة العفن، ومنظرها يحشد الأطفال الساخرين الذين يقتلون الوقت والبراءة بكلّ طريقة ممكنة.

يمشي الشيخ وعلى شفتيه المرتجفتين تتردّد كلمتين: "ما نْعاودْشْ". هاتان الكلمتان كانتا تتكرّران كلازمة في سمفونية رهيبة. يلقي خطوة أو خطوتين في ضعف، ثمّ يتردّد صدى الكلمتين من جديد. يطلقهما بصفة آلية وهو يدبّ على ظلال الجدران. لقد عهد أن يقولها خائفا من كلّ شيء، وقد تحمّل مسؤولية أخطاء البشر كلّها، فقط ليسلم من الأذى، وقد خانه وعيه منذ زمن، فصارت هذه الكلمات تتردّد وحدها على لسانه، يلوكها كلّما أحسّ بالخوف.

نظر إليه الشارع المثقل بالمقاهي واللّافتات وسمع تلك الكلمات التي تذوب وسط الضجيج. أنصت إلى تلك الآهات المتعبة وتمعّن جيّدا في ذلك الجسد المتهالك الذي يختبئ هزاله وراء الأطمار البالية.

لم يفهم أحد ذلك الشيخ، ما عدا الشارع. هو الوحيد الذي يعرفه، منذ أن رماه ابنه في ذلك المكان الذي يأوي العجزة. ذلك المكان الذي ينزوي فيه الأحياء في انتظار الاندثار. يخرجون في النّهار يمشون كالموتى الأحياء، ويجوسون خلال الشوارع كالأشباح، حتّى أنّ النّاس يكادون لا يرونهم، ثمّ يعودون في المساء، وكأنّ الحياة تخجل منهم، فتخبّئهم في المراكز.

مشى ذلك الشيخ الذي ورثه الحاضر من الماضي والذي بدا كحبّة تنزلق وحيدة وقد انفرطت من عقد الزمن.

أمّا الشارع الذي اختفت معالمه وسط فوضى البشر، فيبقى ماثلا في مكانه، ينتحب ويتأسّف لهذا المخلوق الذي اضمحلّت الحياة بين تجاعيده وهيئته.

مشت الطفلة بجانب أبيها ونظرت إلى الشيخ بعينيها الصغيرتين الّلتين تقدحان بالفضول. أمّا أبوها فراح يتمتم، وهو يسأل العافية، وقد أشاح بوجهه عن تلك الذّات الذابلة، وراح يسرع ويقول لابنته: "امشي. أسرعي".

دنت الساعة من منتصف النّهار ودقّت نواقيس الوجبة الوسطى في ذهن هذا الرجل المشتّت، فانتفى العالم ولم يبق غير كلمة واحدة: "الخبز".

وسط الشارع، وعلى طول الطريق، تولد الحفر والممهّلات، تتعثّر السيّارات، ترتفع الأصوات، ويتألّم الشارع لكنّه يحمد الله لأنّ الطفلة لم تستطع قراءة شيء على الطريق لأنّه لم يكتب "حفْرة"، وإلّا استهلكت المسكينة كلّ حروف "الحاء" و"الفاء" و"الراء". أمّا "التاء المربوطة" فسيفضّ رباطها عندما تسقط في الحفر.

واصلت الطفلة مشيها وهي موصولة إلى أبيها كقاطرة يشدّها القطار، حتّى رأت الشيخ يقترب، ونظرات حيّة غريبة تعلو وجهه، حتّى خطاه صارت أسرع، تتجاهل الأطفال الذين يتبعونه.

كانت عيناه الشاخصتان تنظران نحو أبيها. وعندما اقترب أكثر منهما، قال كعادته وبصعوبة: "ما نعاودش"، لكنّ الأب واصل المشي حثيثا، والدمعة تترجرج في مآقيه.

وراح الشيخ يطارده وهو يجرّ كيانه المضمحلّ، والأب يسحب ابنته التي تنظر إلى كلّ ما يجري كزهرة متفتّحة. يسحبها أبوها كي لا تتعرّف على البؤس والشقاء في سنّ النسيم والياسمين، لكن كيف عساه ينجح، والبؤس يوجد حيث يتواجد البشر.

وفجأة على وقع تلك السمفونية الرهيبة، تغرغرت عينا الأب، ثمّ انهمرت الدموع كالسيل، لا تتوقّف وهو يمضي في طريقه، والشيخ يطارده كشبح مخيف.

وكان الأطفال الساخرون لا يزالون وراءه يزيدون جسمه المكدود معاناة فوق معاناته. دار الرجل إليهم وطاردهم بقوّة. عنّفهم وصرخ في وجوههم والدّمع يتطاير من وجنتيه. لقد انفجرت مكبوتات نفسه كالبركان ولم يكن أمامه غير شلّة من الأطفال المحرومين من شعاع الطفولة. وأفرغ في الشارع المثقل بالهموم صرخاته.

اختفى أولئك الأطفال وراحوا يلاحقون مجنونا كان يرتع بجانب مقهى مأهول بالعاطلين والهاربين من أعمالهم. أمّا الشيخ فوقف ينكأ الجراح، وكأنّ كيانه الذي يتفكّك يوما بعد يوم، أبى أن يواصل اللحاق بحلم ضائع وابن صائع كان بالأمس ابنه. والآن صار مجرّد رجل يرافق ابنته على طول الشارع، ينظر إليه كما ينظر الغرباء، يشتري الخبز ثمّ يغادر.

توقّف الشيخ، تردّد وهو ينظر نحو ابنه ثمّ أطلق زفرة طويلة وقال: "ما نعاودش يا ولدي". سمعها الرجل، فتجمّد في مكانه، طأطأ رأسه وأجهش بالبكاء.

وبينما يقف الشيخ أمام ابنه وحفيدته وسط الشارع، توجّهت عيون السوقة الجالسين على أعتاب المقاهي، تلقي سهاما حارّة. وراحت ألسنتهم تلهج وهي تصف المشهد وكأنّهم مجموعة من النقّاد يشاهدون مسرحية.

في تلك اللّحظة التي شهدت ميلاد حفرة جديدة، وتعثّرت فيها السيّارات وصدحت فيها أبواق الشاحنات وغصّ فيها الرّصيف بالغوغاء وعجّ فيها الهواء بالضوضاء وثاني أوكسيد الكربون، في تلك اللحظة، وقف الرجل يسترجع الماضي البعيد.

كان حينها صبيّا يتعلّق بعباءة أبيه. وقد كان يحبّ اصطحابه في جولاته وهو فخور به. كان هذا الشيخ في الماضي يضع عمامة فوق رأسه، ولم تكن العمامة يومها وصمة عار في مدننا شبه المعاصرة ومجتمعنا شبه المتحضر، كما لم يكن الضجيج صوتا تستسيغه الآذان. واليوم صار أبوه شيخا وهن العظم منه وسامه الخسف والهوان.

في ذلك الوقت، لم يكن في الشارع مأوى للعجزة وكانت العائلات الكبيرة محشورة في البيوت الصغيرة وقد كوّنت مع جيرانها عائلات أكبر تتشارك كلّ شيء، القصاع والقدور، الملح والسكّر، الأفراح والأحزان كخلية نحل كبيرة تعيش في وئام وانسجام. أمّا اليوم، فلا الفيلات ولا العمارات ولا الصروح المشيّدة صارت كافية عندما استحالت القلوب أطلالا خربة.

في الماضي القريب كان سكّان صحرائنا الشاسعة يبنون تجمّعات كبيرة من ديار الطوب ويسمّونها بـ"القصر" وهي لا تزال قائمة وقد قاومت الزمن وبقيت شامخة على مرّ العصور تشهد على عظمة ذلك المخلوق الذي يكاد ينقرض والمسمّى: إنسان.

يسكن الرجل شقّة وسط حيّ سكني، وكان بالأمس يسكن حوشا قديما متهالكا لكنّه محترم وسط حيّ شعبي. كان الفرد الواحد في هذا الحيّ في خدمة الكلّ والكلّ في خدمة الواحد. وقد غادره عندما توفّت زوجته الأولى والتي رزق منها بابنه البكر ثمّ تزوّج الثانية والتي ضاقت بالحوش وجدرانه وجيرانه، فانتقل إلى هذه الشقّة التي تشبه كلّ شقّة في العمارة بل في الحيّ كلّه.

في هذه الشقّة ولدت الطفلة. أمّا الحوش القديم فكان لأبيه الشيخ الذي آثر أن يبيعه خدمة لابنه. وانتقل معه إلى شقّته وضحّى بكلّ شيء يذكّره بالحياة التي يعرفها والتي ألفها.

افتقد في ذلك الحيّ السكني المنعزل أصحابه ورائحة الطهو في الأحواش المتراصّة. اشتاق للحوش الذي يشبهه، بسيط قديم وأصيل. حنّ إلى رائحة الحيّ الشعبي وأزقّته وشوارعه الضيّقة، إلى الصّنايعية والحرفيين، إلى صنّاع الفخّار والنّحاس ودبّاغي الجلود، وإلى كلّ الذين يصنعون البهجة والحيوية في الحيّ العتيق.

افتقد الشيخ معاملة زوجة ابنه الأولى، وحفيده البكر الذي غادر المنزل منذ سنين، والذي لم يطق تلك المعاملة الجافية الباردة التي أولته إيّاها زوجة أبيه.

اتّخذ هذا الشابّ كوخا وسط أكواخ الصيّادين في الشاطئ. لم يكن صيّادا ولا هاوي صيد ولكنّه كان ينوي مغادرة إفريقيا، ويتحيّن الفرص حتّى يجد قاربا يشقّ به بحر الخلاص. وهكذا لم يبق للشيخ من يسليه فغاص في فراغ قاتل ومرض وطارح الفراش. وظلّ أسبوعين وهو كذلك، ثمّ عاد لا يتكلّم إلّا تمتمة وهذيانا.

رأت زوجة ابنه فيه عبئا عليها وحاولت الخلاص منه. ولتحقيق ذلك عمدت إلى كلّ طريقة ممكنة. تارة بالترغيب وتارة بالترهيب، تغريه حينا وتذيقه الويل أحيانا. لكن الرجل أحجم في بادئ الأمر، وأدرك أنّ فعلة كهذه ستقتل أباه. وراح يسألها ويسأل نفسه: "كيف أرمي أبي في دار العجزة؟ كيف يحيا أبي بذكرى كهذه؟ كيف يعيش في عالم يرمي فيه الابن أباه كما ترمى الأشياء البالية التي لا طائل منها؟"

كانت زوجته القاسية تجيبه وتقنعه بشتّى الطرق والوسائل بأنّ أباه فقد وعْيه بالعالم، وبأنّ عقله لم يعد يميّز بين الأشياء وبالتالي فلن يلومه على شيء، بل سيبقى في ذاكرته دائما كابن بارّ.

تمكّنت هذه الزوجة بكيدها الشديد من رأس الرجل، بعد أن أعادت عليه هذه الكلمات آلاف المرّات، ففعل فعلته الشنيعة وفتح على نفسه أبواب جهنّم على مصراعيها.

لم يقدم قبل ذلك اليوم، شخص من المدينة على هذا العمل الفظيع. وكانت دار العجزة حتّى ذلك الحين، تأوي المشرّدين فقط والذين لا مأوى لهم، فصار بفعلته هذه في نظر الجميع مثل قابيل وقد دشّن هذا الجرم الشنيع.

وأخذ يزور أباه في دار العجزة من الوقت إلى الآخر، ثمّ أخذت هذه الزيارات تتباعد مواعيدها حتّى انقطعت. ولم يعد الشيخ في ذهن ابنه إلّا ذكرى قبيحة ورمزا لضميره النازف. حتّى أتى ذلك اليوم الذي صادفه فيه في الشارع، بعْد مضيّ ما يناهز سنتين.

لم تتعرّف الطفلة على معنى كلمة "أخ" وكلمة "جدّ"، لأنّها لم تعرف أخاها ولا جدّها. رأت أباها يبكي والشيخ أمامه ماثلا كهرم وهو يأبى أن يتلاشى تحت دثار الزمن. وفي لحظة انكسار واستسلام، عانق الابن العاصي أباه.

في تلك اللحظة التاريخية، بكى الشارع وسخر القدر وتعجّبت أفواه المتفرّجين على أعتاب المقاهي.

ومشى على الرصيف الذي يزدحم فيه البشر وتتوقّف فيه السيّارات غير آبهة، مشى شيخ ورجل وطفلة. وقد بدت على وجه الشيخ شبه ابتسامة وهي تشرق على السمرة الداكنة التي طبعتها الشمس والأحزان. وذرفت عيناه الغائرتان دموع الفرح.

وبعد أن عاد الشيخ واستجمع الرجل شظايا ضميره، بحث عن ابنه. لكن ليست كلّ الأمراض تشفى وليست كلّ الذنوب تغتفر، وليست كلّ جراح الضمير تتماثل للشفاء.

لم يمض وقت طويل حتّى تعلّمت الطفلة معنى كلمة "جدّ" ولم يكن هذا المعنى ناصعا. وتعلّمت معنى كلمة "طلاق"، عندما غادرت أمّها المنزل. أمّا كلمة "أخ" فلن تدرك معناها حتّى يعود أخوها من أحضان الغربة.

D 25 نيسان (أبريل) 2015     A طه بونيني     C 1 تعليقات